إن الصعود إلى القمر أو إلى كوكب المريخ ليس من بديهيات الأمور، بحجة ان ذلك ممكن تقنيًا في حين ان المبالغ الموظفة في المشروع (بغاية الربح الاقتصادي بالنسبة إلى بناة المركبات ، وبغاية النفوذ السياسي والتنافس العسكري الذي لا يستفيد العلم الا من اسقاطاته الاشعاعية) قمينة بأن تحل على الأرض مشكلة الجوع وبأن تقيم توازنًا بين العالم الثالث والبلدان المتطورة.
وليس بناء طائرة من طراز (كونكورد) لتمكين 150 مديرا من مدراء الشركات الكبيرة من اجتياز الأطلسي يوميا في ثلاث ساعات بدلا من سبع ساعات ليس هدفا له الأولوية على غيره وليس ذلك من بديهيات الأمور ما دام في المستطاع بنفس الأموال الموظفة وبنفس مجهود البحث التقني إضفاء طابع انساني على المواصلات العامة في منطقة باريس بأسرها.
ليست هذه بأجوبة وانما هي أسئلة. أوجه من سؤال واحد: أمن الواجب التفنن في اثبات ضرورة عمل من اعمال التجلية والمفخرة لمجرد انه من ممكن تقنيا؟ والتقنين في اثبات ذلك انطلاقا من مسلمات مجتمع بات النمو الاعمى بالنسبة اليه قانونا من صلب النظام أي قانونا لا يجوز التشكيك فبه؟
إن سؤدد المال على جميع النشاطات القومية هو نتيجة مباشرة لـ(حرية المشروع). فحين توظف الأموال بدلالة ربح مالك الرساميل لا بدلالة حاجات المجتمع، فإنها تساهم بالضرورة في تفسخ الانسان وانحطاطه لا في رقيه. وقد نوه غالبريث بالتفاوت المتعاظم بالنسبة الى امريكا بين غنى تلبية الحاجات الخاصة وبين بؤس تلبية الحاجات الاجتماعية.
وهذا يسري على جميع بلدان العالم الرأسمالي.
إن التوظيفات في صناديق الموسيقى في جميع بارات فرنسا تتجاوز بما لا يقاس التوظيفات الممنوحة لدور الثقافة وميزانيات انتاج التبوغ والدعاية لها تتجاوز من بعيد ميزانية الصحة العامة.
والمفروض في قيم الثقافة حين تصبح قيما تجارية ان تغدو بضاعة رابحه في السوق وان تكون ترجمانا للحاجات التي تخلقها علاقات المجتمع الرأسمالي الاجتماعية الاستلابية: حاجة التعويض بالعنف او حاجة الهرب من كل اشكال الحرمان من الحب او الثقافة. هذه الحاجات هي التي تلبيها أفلام رجال العصابات، وصور (الانسان الأعلى) الخارج على القانون، من ادي كونستانتين الى جيمس بوند، والادب الخلاعي، والمخدرات، و(نجوم) الغناء او السينما او التلفزيون التي يجري الترويج لها بنفس الأساليب الاعلانية المستخدمة في اختلاق سوق لمزيل للروائح يتمتع بطاقة مزعومة على الاغراء الجنسي.
وبالمقابل، فإن البحث الجدي في ميدان الفن مقضي عليه بان يبقى متوحدا او من صنع جماعات صغيرة، ومحروما على كل الأحوال من الوسائل اللازمة لتحقيقه او لنشره. ان نظاما كالنظام القائم يولد ازدواجا مميتا بين الثقافة كبضاعة وبين الثقافة كخلق وابداع.
ومن النتائج البالغة الضرر لسوق المال هذه، التي لا يكون فيها من معيار للتوظيف غير معيار ربح الموظف، ان قطاعا (رابحا) للغاية كقطاع صناعات التسلح يحظى بالاقبال الشديد، وتحل فيه السياسية الخارجية والحرب الى أدوات ازدهار وتوسع (ازدهار وتوسع الاحتكارات بالطبع!)
(ان ما هو مفيد لـ(جنرال موتورز) مفيد أيضا للولايات المتحدة) :
هذا ما كان يردده وزير الدفاع الاميريكي ويلسون، الذي كان في الوقت نفسه مديرا لشركة (جنرال موتورز)، كاشفا النقاب بذلك عن احد الدوافع الأساسية الخارجية الاميريكية، من حرب كوريا الى حرب فيتنام.
وإذا كانت صناعة الأسلحة حافزا ممتازا من حوافز توسع الاحتكارات، فان صناعة الاعلام – صناعة التلاعب بالجماهير – لا تقل عن الأولى وبال عواقب. فحين يكون في مستطاع قوى مالية عظمى ان تسيطر على معظم الصحف ودور النشر والسينما والمجلات المصورة ومحطات الارسال، وان توجهها وتديرها بحسب معايير الربح، فان الامة تصبح روحا وجسدا موضوعا لهذه (الحرب النفسية) الدائمة التي غدت واحدا من فنون الاقتصاد الراسمالي الجميلة.
ان الاوليغارشية القابضة على زمام وسائل الاتصال الجماهيري ووسائل الإعلامية، والمتمتعة بتلك القدرة الهائلة على التلاعب بالجماهير وتوجيهها، لقادرة على انشاء شبكة اعلام وتحكم في غاية الدقة والاحكام بحيث يجد كل مواطن نفسه فيها مقيدا، مغلولا، اعزل من السلاح، على نحو لم يعرفه حتى ضحايا ستالين او هتلر.
ان الرأسمالية بتحويلها الأرض الى بضاعة والطبيعة الى مادة للاحتكار والمضاربة والاستغلال، قد اباحت لجشع الرأسمال ولـ(حرية المشروع) ولقوانين السوق العمياء لا ارض الملاك العقاريين فحسب، بل مجمل بيئة الانسان الحيوية.
واقرب الأمثلة الينا على ذلك يكمن في مشكلة البناء وتنظيم المدن وتلوث البيئة. وما فضائح البناء العقاري الا المظهر التندري والسطحي للمشكلة. بيد انها تزيح النقاب سافرا في الوقت نفسه عن التواطؤ بين الدولة وبين كبريات المشاريع الخاصة الرأسمالية: فهذا متعهد بناء يبتاع ارضا يحرم القانون البناء عليها، وسرعان ما يحصل من الدولة على (استثناء)، فاذا بقيمة الأرض تتضاعف خمسين ضعفا او حتى مئة ضعف.
ان مئة الف (استثناء) من هذا النوع قد تم الحصول عليها بين 1960 و 1971. وهذا يعطينا فكرة عن ضخامة المضاربات العقارية بفضل تواطؤ الاحتكارات والدولة. فالشركات الكبيرة، المالكة لتلك الأراضي، تستطيع حسبما يحلو لها ان تخرب الطبيعة وان تعيث فيها فسادا (تمت إزالة 15000 هكتار من الغابات في مدى قرن واحد في منطقة باريس وحدها) ، وان تلوث الماء والهواء حتى لا تدفع تكاليف تطهير النفايات، وان تضحي بالفسح العامة على مذبح المصالح الشخصية.
لقد أشار جيراردان، في معرض حديثه عن مستقبل علم البيئة، الى ان اليوم الذي تتحول فيه الأنهار الى مجار والبحيرات والبحور الى مستنقعات آسنة وتغرق فيه الأرض تحت تلال النفايات قد بات قريبا اذا لم نضع حدا للاتجاه الفاجع السائد اليوم.
ومن الآن يحوم فوق رؤوسنا، في الجو، عشرون مليون طن من الملوثات.
وفي اغنى بلاد العالم، في الولايات المتحدة، لخص الرئيس نيكسون في رسالته عن (وضع الاتحاد) في كانون الثاني 1970 هذه الحصيلة الغربية لنظام (المشروع الحر) الذي ما فتيء يضرب لنا الوعود بأن يجعل منا (سادة الطبيعة وملاكها): “ان 70 % من سكاننا يحيون في مراكز مدينيه تشلها حركة سير السيارات، ويخنقها الضباب الصناعي، ويسممها الماء، ويصمها الضجيج، ويرهبها الاجرام” والخطر يتعاظم على نطاق العالم بأسره.
فحين تلتهم طاحونه الشيطان وتطحن الانسان والطبيعة معا، الانسان في اسم العمل والطبيعة في اسم الأرض، فان جميع الاشكال العضوية للحياة تتفسخ وتنحل لا محالة: استغلال لا حدود له غير حدود السوق لقوة العامل الجسمانية او العصبية، تخريب للبيئة، إبادة للغابات، تلويث للمياه، اذلال للوجود في جميع اشكاله، بدءا من العمل الى الفنون الخاضعة لنفس مقتضيات الاتجار في السوق.
ذلك اننا ما عدنا نسيطر على علاقاتنا بالطبيعة مثلما لا نسيطر على علاقاتنا بالبشر.
ولنكتف بمثال واحد: ان الأشجار تمتص اوكسيد الفحم وتنتج الاوكسجين الضروري لحياتنا. والصحيفة اليومية التي تطبع 200000 نسخة تستهلك يوميا الإنتاج السنوي لهكتار من الغابات. وكلما عبرت طائرة من طراز بوينغ 707 المحيط الأطلسي استهلكت من الاوكسجين انتاج سنة من غابة مساحتها هكتار واحد. وتراكم أوكسيد الفحم في الجو يؤدي الى ارتفاع الحرارة كما هو معلوم. ولئن لم ترتفع حرارة المحيطات اكثر من درجتين على مدى قرن من الزمن، فان الوتيرة الراهنة لارتفاعها ستؤدي، في حال استمرارها، الى ذوبان الجليد الساحلي بسرعة تكفي لكي يرتفع مستوى البحار الى اكثر من عشرة أمثال في مطلع القرن الحادي والعشرين. فتغمر المياه نيويورك ولندن، الهافر وهامبورغ، أمستردام وبوردو، مجددة اسطورة القارة الاطلندية..
إن نتائج افعالنا تنبع أقل فأقل من نياتنا. فنحن ما عدنا نتحكم في القوى التي تخلقها.
ولقد أعطانا أنجلز صورة عن هذه الفوضى: “إن العوامل اللاواعية والعمياء هي وحدها التي يؤثر بعضها على بعض في الطبيعة. وبالمقابل فإن العوامل المؤثرة في تاريخ المجتمعات تتمثل فقط في البشر المزودين بالوعي، الفاعلين عن ترو وعاطفة، الناشدين لأهداف محددة. فلا شيء يحدث ههنا بلا قصد واع وبلا غاية مرامة… ولكن نادرا ما يتحقق القصد المطلوب. ففي معظم الحالات تتصادم الأهداف المنشودة وتتنافى.. والمنازعات بين عدد لا حصر له من الارادات والاعمال الفردية تخلق في الميدان التاريخي وضعا مماثلا تماما للوضع السائد في الطبيعة اللاواعية. فأهداف الأعمال مقصودة، ولكن النتائج التي تعقب فعلا هذه الاعمال ليست مقصودة.. وتوجد ههنا قوى لا حصر لها تعارض كل منها الأخرى.. تنتج عنها محصلة – الحدث التاريخي – لم يقصدها أحد قط”.