كتاب المواطن – الحلقة (16)
إن غالبية المؤلفات في «علم المستقبل» أو «القصص العلمي» تقدم لنا الكثير من التفاصيل حول الوسائل التقنية التي ستتاح لنا في غضون عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً لتلبية حاجاتنا أو رغباتنا، لكنها نادراً ما تطرح السؤال المتعلق بمعرفة ما ستكون عليه حاجاتنا أو رغباتنا في تلك المرحلة الجديدة من التطور الانساني.
أشهر الروايات المسماة بروايات “الاستباق”، مثل “خير العوالم” لهلكسلي أو “1984” لأوريل، لا تمثل البتة يوتوبيات مبدعة للمستقبل، وانما هي استحضار، عن طريق الاستقراء والتعميم، لما سيكونه المسار
الفاجع لعالمنا اذا تابعنا السير في الطريق الراهن، أي من دون أن يتدخل في أي لحظة من اللحظات اختبار انساني او قرار انساني بصدد الغايات.
والمثال النموذجي على “علم المستقبل”، الوضعي هذا هو مؤلف هرمان کاهن Herman Kahn “لعام ۲۰۰۰” فهو يعدد، من الصفحات الأولى للكتاب، مسلماته التي هي مسلات سياسة الحكومة الأميركية في الفترة التي كتبه فيها .
إن كل شيء يجري كما لو أن المنطلق هو الإيمان الضمني بطبيعة انسانية ثابتة في حاجاتها ورغباتها .
ومصيبة التحسبية الكبرى هي أنها تمارس على مقربة من مراكز القرارات، سواء في المشاريع أم في هيئات استثمار الأراضي والتخطيط ام في خدمات الدفاع القومي.
ومن هنا تفرض عليها، من البداية، إكراهات مشوهة: فعلى صعيد المشروع الصناعي تصبح خادمة للتسويق الطويل الأمد، وعلى صعيد استثمار الأراضي وتحسينها يشير التقرير المتعلق بوضع فرنسا في العام ۲۰۰۰ إلى أنه « ينطلق من الوضع الراهن ويحفز، بدءا منه، سيرورات التطور الملازمة له، ملتزما بديمومة النظام السياسي ونظام الإنتاج الساري المفعول؛ وعلى صعيد التخطيط تشير مقدمة بحوث جماعة ۸۰، إلى أن الجماعة قد ارتأت أنه ليس من صلاحيتها أن تبدي رايا بصدد الاختيارات القومية الأساسية، المنوطة بالبلاد قاطبة، سواء في ميدان السياسة الخارجية أم القوة العسكرية أم الأفضليات البنيوية؛ وعلى صعيد الدفاع القومي يستند التحسب العسكري، بوجه خاص إلى (نظرية الألعاب التي بفضلها ترسم. استراتيجية مسبقة، أي جملة من قرارات شرطية. بدلالة المواقف المختلفة التي يمكن أن تطرأ وتشعباتها المحتملة).
وحين تسير الأبحاث المزعومة بصدد المستقبل في هذا الاتجاه، فلن تكون، كما يقول روبر جونك، إلا استعارة المستقبل من قبل الحاضر وحربًا وقائية ضده للحيلولة دون ولادته في جدته الجذرية.
أما التحسبية بحصر معنى الكلمة، التحسبية التي ستحتل في ثقافتنا العامة مكانة أكبر من تلك التي يحتلها التاريخ، والتي ترى في فهم الماضي محض وسيلة لاختراع المستقبل، فإنها قبل كل شيء تبصر بصدد الغايات وليس مجرد تنبؤ تكنولوجي بالوسائل.
ومشكلتها الأساسية هي التالية: ما النتائج التي ستنجم عن هذا القرار أو ذاك؟
وعليه فإنها لن تكف عن أن تكون أداة تلاعب وتحكم لتصبح أداة ثقافة إلا إذا لم تعد خادمة لإدارة أو هيئة أركان أو لحكومة.
آنئذ، وآنئذ فقط، يمكن أن تصبح التحسبية نهاجية للمبادرة التاريخية تدربنا على علم وفن اختراع المستقبل الممكن انطلاقا من تناقضات الحاضر، هذه التناقضات التي لا يستطيع غير المستقبل المخترع وحده أن يتغلب عليها.
ومثل هذه التحسبية لا يسعها أن تقبل بالفعالية القطاعية الخاصة معيارا أعلى أوحد، وهذا لأننا نحيا في عالم كوني الترابط والتداخل ولأن بيت القصيد هو التبصر بغايات الانسان. إن التحسبية لا يمكن إلا أن تكون شمولية.
وفرضية العمل التي ينبغي أن ينطلق منها البحث هي أن التاريخ الإنساني (التاريخ الماضي والتاريخ الذي في سبيله إلى أن يصنع على حد سواء) لا يمكن أن يعامل:
– لا على أنه جملة من مواضيع، كما في التصور الوضعي النزعة للعلوم الإنسانية التي تقتبس مناهجها عن علوم الطبيعة.
– ولا على أنه جملة من ذوات مبتورة عن الواقع والتاريخ، كما في التصورات الوجودية.
– وإنما على أنه عالم من مشاريع هي مشاريع تاريخية لا مشاريع فردية، محاولات للتغلب على التناقضات الموضوعية لعصر ما.
إن الواقع التاريخي، في الماضي كما في المستقبل، يولد من خضم من الممكنات. ولكن ليس ثمة من تناظر بين التحسبية والتاريخ، بين المستقبل والماضي: فالماضي هو مجال ما حدث نهائيا ودونما عودة، مجال المشاريع المتحققة، المتجمدة والمتبلورة في وقائع، المجال الذي انتصر فيه ممكن واحد أوحد لا غير. وبالرجوع إلى الوراء يبدو لنا وكأنه مجال الضرورة. في حين أن المستقبل هو مجال ما لا يزال قيد الصنع والحدوث، مجال تعدد من ممكنات تقع مسؤوليتها على كاهلنا. إنه مجال الحرية. وبين ذلك الماضي المغلق وهذا المستقبل المفتوح يمثل الحاضر زمن القرار. زمن الانسان.
ليس المستقبل سيناريو مكتوبا سلفا ليس لنا من دور فيه الا أن نمثله. وإنما هو عمل ينبغي علينا أن نخلقه.
هنا نضع اليد على ما هو أساسي في الماركسية.
فالشيء الجوهري في تراث مارکس لیس الماركسية وإنما التحسبية. علم وفن لاختراع المستقبل، لا تلك الجداول أو تلك الوصايا العشر بالقوانين الاقتصادية أو المبادىء الفلسفية أو المقولات الجدلية التي لا تعدو أن تكون تشويها دوغمائيا ووضعيا لتراث مار کس.
يصوغ مار كس في “الرأسمال”، ، انطلاقا من على مستحاثات عصره، الأطروحة (التي لم تكذبها الأبحاث الحديثة، بل على العكس أكدت صحتها) التي تقول بأن ما يميز العمل، في شكله الإنساني النوعي، عن عمل النحلة أو النملة أو القندس أو القرد الحيواني، هو أنه يكون مسبوقا بوعي غاياته.
هكذا يتسم الإنسان، في تطور الطبيعة والحياة، ببزوغ المشروع. ويعيد مار کس إلى الأذهان، مقتبسا عن فيكو إحدى صيغه، أن الفارق الأساسي بين صيرورة الطبيعة وتاريخ الإنسان هو أن الإنسان يصنع تاريخه الذاتي (بالرغم من أنه لا يصنعه عسفا، وإنما في شروط متحددة دوما بالماضي).
ولكن ما إن يظهر إلى حيز الوجود، مع الاستقرار في الأرض والحضارات الأولى، تقسيم العمل والملكية الخاصة لوسائل الانتاج، يسلب مالك وسائل الإنتاج هذه من لا يملكها (عبدا كان أم قنا أم بروليتاريا) نتاج عمله، كما يسلبه في الوقت نفسه اختيار غايات هذا العمل ووسائله لتضحي أمتيازا لمالك وسائل الانتاج. وعندئذ يصبح هذا العمل والانسان الذي ينجزه مستلبين ومجردين من طابعهما الانساني النوعي: الوعي واختیار الغايات.
وما غرض الصراع الطبقي الراهن إلا وضع حد لهذه الثنائية، والإفلات من إسار الاستلاب المترتب عليها وإتاحة الفرصة من جديد للانسان – كل انسان – لكي يكون انسانا، أي لكي يختار غایاته.
ذلكم هو جوهر مشروع مارکس الاشتراكي.
وفي عصرنا الراهن يصطدم هذا المشروع الانساني الأساسي، الجدير بأن يحظى بتأیید غالبية البشر، بعقبة مزدوجة: أولا بتكتل الامتيازات التي يوجه اليها إصبع الاتهام، وثانيا بانحراف الأنظمة التي تدعي الاشتراكية والتي لا تعدو أن تكون صورة كاريكاتورية لها.
على أن هذا المشروع ضروري لا غنى عنه للإفلات من الانزلاقات الفاجعة. وهو مشروع ممكن في المرحلة الراهنة من تطور العلوم والتقنيات.
وخاصة كل تربية تحسبية أن تساعد كل إنسان على وعي تلك الضرورة وهذه الامكانية .
تنبع أساليب مثل هذه التربية من الهدف المنشود. وقد انطرحت المشكلة بحدة خاصة في العالم الثالث حيث عامل الاستعمار المواطن الأصلي و كأنه شيء من الأشياء، فأنكر عليه كل قيمة لثقافته الذاتية وفرض عليه في الوقت نفسه تأهيلا يرمي إلى تأمين اليد العاملة النافعة للدولة المتروبولية والى إفراز الأخلاق القمينة بحمله على الطاعة والاستسلام.
من هذا المنظور أنشا باولو فرير في البرازيل علم تربية المضطهدين، علم تربية هو في جوهره، ممارسة للحرية. وهو في الحق ذو قيمة عالمية.
يری باولو فریر، الذي كان عليه أن يحل مشكلة تعليم الأميين الراشدين في جبال الآند، أن تعلم القراءة يجب أن يكون في الوقت نفسه، وعيا للاضطهاد واکتشافا في حاجات الانسان ورغباته اللامتمايزة بعد لطريق المبادرة التاريخية المحررة من الاضطهادات والاستلابات.
ويحرص باولو فرير في المقام الأول، وفي مواجهة كل علم تربية يرمي إلى دمج البشر بمنطق النظام القائم من خلال تمويه تناقضاته وتشوهاته المترتبة عليه، يحرص على أن تكون قراءة الكلمات الأولى، المختارة من بين الكلمات الأكثر استعمالا وبالتالي الاكثر ارتباطا صميميا بالبؤس اليومي، فكا للغز الواقع الاجتماعي الذي تموهه: فكل كلمة من تلك الكلمات لا تشر الى واقعة، محتومة، بل تطرح مشكلة. وفي هذه الحال بصبح تعلم القراءة عملية إدراك للعالم الذي يحيط بنا، لا بوصفه عالما مغلقا، ضروریا، الا منفذ له، وإنما بوصفه وضعا يحد الانسان ويضطهده، وفي المستطاع تحويله.
وهذه الطريقة في التعليم لا تغير الموقف من المحيط فحسب، بل أيضا الموقف من الذات: فوعينا أن العالم الذي يحيط بنا ليس معطى ثابتا لا نملك إزاءه إلا أن نرضخ له ونتكيف معه، كما يرضخ الشيء للشيء ويتكيف معه، بل هو على العكس مهمة قيد الإنجاز، أقول: إن وعينا هذا يتيح لنا أن نفهم أنفسنا على أننا کائنات ناقصة تخلق نفسها وتتكون مع العالم الذي تحوله وتبدله.
إن مثل هذا العلم التربوي لا يستطيع أن يأتي بالمعرفة من الخارج، كما لو أنها دعاية. إنه لا يملك إلا أن يكون حوارا. ولا سبيل إلى ابتکاره لحساب المضطهد، وإنما معه وبه. انطلاقا من اهتماماته وحوافزه بالذات. معاملته على أنه ذات للتعليم، لا على أنه موضوع له، وما علم التربية والسياسة إلا شيء واحد. کتب ماوتسي تونغ يقول: «إن كل عمل يتم من أجل الجماهير ينبغي أن ينطلق من حاجاتها”.. ويضيف قائلا ردا على كل ميل إلى ازدراء “عفوية”، الجماهير ومبادرتها التاريخية، وعلى كل زعم باستيراد الوعي اليها من الخارج: “علينا أن نعلم الجماهير بوضوح ما تعلمناه منها بإبهام”.
ولقد أثمرت السياسة الثنائية على الدوام علوم تربية لثنائية تقابل بین المعلم والمتعلم، بين الحاكم والمحكوم، بين السيد والعبد. ولهذا فإن كل ثورة غير مبنية على احترام مبادرة الجماهير التاريخية (هذه المبادرة التاريخية التي قال لينين إن مارکس كان يقدمها على أي شيء آخر)، کل ثورة غير مبنية على الحوار الدائم معها، ستفضي بالضرورة إلى ثنائية جديدة بين الحاكم الذي يفكر وبين الجماهير التي تنفذ، وإلى استلاب جديد واسترقاق جديد.
وخاصة على التربية – والسياسة – المحرر هي أن يساعد البشر المغمورین بالواقع والمكابدین من حاجاتهم على الانسلاخ عن الواقع وعلى وعي أسباب حاجاتهم وإمكانية تغير ذلك الواقع حتى يتجاوب مع حاجات متنامية الطابع الانساني.
وهذا مظهر أساسي في علم التربية والسياسة. فأدهی نتائج العبودية هي أنها قادت العبد إلى استبطان المهيمن عليه.
ولقد كان هدف المستعمر واعيا. ففي “نشرة مجمع الجزائر لتعليم السكان الأصليين”، (نقلا عن غرينيون في نظام الأشياء ) ورد ما يلي: هل نستطيع أن تحمل السكان الأصليين، الذين ما يزالون قريبين كل القرب من المادة الخام، على أن يفهموا ويمارسوا أخلاقنا البالغة الصفاء والسمو والتشدد؟… إن من الواجب أن نبطن حضارتنا، أن نرسيها في روح السكان الأصليين.
ماذا يمكن أن تكون الثورة في هذه الحال؟ وهل قوامها، في مجتمعاتنا الرأسمالية، أن تعطي الجميع ما يتمتع به البورجوازيون وحدهم اليوم؟
إن التحرر يبدأ مع رغبة العبد في أن يكون انسانا ومع النضال في سبيل الصيرورة. ولكن أن يكون الانسان فهذا يعني أن يكون بادیء ذي بدء، بالنظر إلى عدم وجود نموذج آخر، سيدا، أي مضطهدا. وهذا يعني، في نظام آخر، أن يكون بورجوازيا بدءا من سياراته الى فنه.
أما علم تربية باولو فربر، وأما تصور ماوتسي تونغ عن الاشتراكية، فينزعان على العكس إلى توعية المضطهدين بأن حياتهم بالذات لا تطاق بسبب الاضطهاد، وبأن حياة مضطهديهم لا تقبل بحكم انحرافاتها وانعدام معناها. فالاستلاب، كما أشار مارکس، واحد، ولكن المضطهد يلقی فيه متعته مقابل ما يلقاه فيه المضطهد من عذاب.
وعلم التربية بوصفه ممارسة للحرية لا يقتصر على مستوى محو الأمية. والمطلوب إنشاؤه على جميع المستويات حتى يعي الطالب الباريسي ذاته، مثله مثل الأمي في جبال الأند، لا بدلالة الآخر وإنما انطلاقا من نفسه ذلك أن الثقافة المقدمة له في الوقت الراهن شكل من الاستعمار، وحين تدرك ملء هدفها تكون قد علمته أيضا، مثلما يعلم السيد العبد، أن يستبطن المهيمن وألا يعود بنصور من مشروع انساني غير مشروع النظام الراهن.
وليس من قبيل المصادفة التاريخية اذا كانت هذه التربية، مع باولو فرير، واذا كانت هذه السياسة، مع ماوتسي تونغ، قد ولدتا في العالم الثالث. تربية وسياسة لا تهدفان الى اكتساب معرفة وحيازة سلطة فحسب، بل تضعان نصب أعينها تصور مشروع آخر للحضارة وتحقيقه. تربية وسياسة ولدتا خارج الغرب، في أميركا اللاتينية وآسيا، تماما كما احتاجت حركات التجديد الكبرى في الرسم والموسيقى والرقص الى إخصاب من إفريقيا أو آسيا. ففي البلدان التي حرمها الاستعمار لحقبة طويلة من الزمن من ثقافتها الذاتية ومن تاريخها وشخصيتها، تبرز بقوة لا مستزاد عليها المطالبة بألا تعامل بعد الآن وكأنها مواضيع قابلة للتلاعب والتحكم بها وبأن تصبح ذواتا لتاريخها ولتحويلها للعالم ولنفسها، عليها تقع مهمة اختراع مستقبلها وخلقه. وهكذا تتفسر، كما رأينا، الجاذبية المشروعة التي تحس بها شبيبتنا تجاه الشرق وإفريقيا وأميرکا اللاتينية التي يمكن أن يولد فيها مستقبل جديد حقا.
وإنما بالقطيعة مع التقاليد التعقلية الأحادية الاتجاه لثقافتنا والغربية، تلك التقاليد السائدة بلا منازع منذ أيام سقراط، وبوجه خاص منذ عصر النهضة، يمكن للتربية والسياسة معا (إذ لم تفصل بينهما الثنائيات القديمة المميزة لمجتمعاتنا) أن تتطورا وتنموا بأبعادهما جميعا: البعد التنبؤي، والبعد الطوبائي، والبعد العلمي.
إن اللحظة التنبؤية لحظة ضرورية في كل علم تربية كما في كل عمل ثوري. وليس المقصود بهذه اللحظة إسقاطا إحيائيا لمشروع إلهى أو لدراما كونية وتاريخية لا يلعب فيها الانسان غير دور الممثل. فالبعد التنبؤي هو على العكس بعد ضروري لا غنى عنه في كل مشروع لاختراع المستقبل. ذلك أن هذا المشروع لا يتطلب محض استقراء وتعميم للماضي والحاضر، بل يتطلب أيضا لحظة القطيعة، لحظة التجاوز للنموذج الراهن للتطور، لحظة وعي علائية الإنسان بالنسبة إلى تاريخه الذاتي.
وما كان أنبياء العهد القديم، أناسا يتكهنون بالمستقبل أو يبشرون به، بل كانوا ينظرون إلى الحاضر بعيدا عن كل قبول لا شرطي بنظام معطی وبالآراء المسبقة التي تؤيده. وكانوا يكافحون عبادة الأوثان، أي واقعة تبجيل أشياء أو مؤسسات خلقها الانسان وواقعة خدمتها وتأليهها كما لو أن لها قيمة مطلقة. وهذا ما نسميه نحن البوم مكافحة الاستلاب.
إن الروح التنبؤية هي تلك التي تضفي طابعا نسبيا على جميع القيم، وتحظر علينا أن ننسب صفة الكمال إلى ما هو متناه، أي ما هو ناقص بالنسبة إلى اللامتناهي.
إن لحظة القطيعة التنبؤية هذه، التي تبدو دوما في البداية وكأنها من عالم العبث والمستحيل، لا غنى عنها لكل تقدم واقعي في كل ميدان. هذا لأن مستقبل الانسان ليس في حال من الأحوال مجرد امتداد لماضيه.
وليس في مقدور أي علم تربية وأي سياسة أن يكونا محررین بدون إضفاء تلك الصفة النسبية على المؤسسات والقيم بحيث يحظر علينا أن نقبل بصورة غير مشروطة بنظام قائم أو أن نقنع قبل الأوان بالنتائج التي تحرزها ثوراتنا أو أن نوهم أنفسنا قبل الأوان أيضا بأن الاشتراكية قد تحققت.
إن لحظة القطيعة التنبؤية هذه هي وحدها التي تخلق المجال الحيوي الذي يتيح لاختراع المستقبل ألا يعقم بالاستقراء والتعميم الوضعي النزعة، وأن يتأسس على العكس على الخيال المبدع حقا لمشروع الحضارة الجديد، مزودة بالتالي المشروع ببعده الطوبائي.
إن اللحظة الطوباوية لحظة ضرورية لكل تحسبية شمولية كما لكل علم تربية ولكل سياسة ثورية.
والطوباوية لا تولد في أي وقت كائنا ما كان. فهي تنبثق دوما في لحظة من انعطاف التاريخ.
فليس من مصادفات الأمور أن يكون توماس مور قد جعل أحداث اليوتوبيا (1516) تدور في كوبا، وأن يكون كامبانيلا قد جعل أحداث “مدينة الشمس” تدور في قلب البيرو، وأن يكون باكون قد کتب “أطلانتس الجديدة”: فنحن في عصر النهضة، عصر ولادة الرأسمالية والتوسع المفاجيء في أفق البشر بفضل الاكتشافات الكبرى.
لقد ولدت “اليوتوبيا”، من تحليل أزمة اجتماعية، وتوماس مور ينشیء، في مستهل مؤلفه، تحليلا نفاذا لتحول انكلترا من بلد زراعي وإقطاعي إلى بلد صناعي ورأسمالي، ولآلام مخاض النظام الجديد. وذلك هو حال جميع الطوباويات صراحة أو ضمنيا. وهي بوجه عام أبعث على الاهتمام بما تفضحه أكثر منها ما تبشر به. فهي، بالفعل، لا تقدم في غالب الأحيان من حل بناء للأدواء والشرور التي تسدد اليها عميق النقد، بل تقترح في هذه الحال إما العودة إلى الماضي وأما رؤية حالمة لمستقبل هو في حقيقته نقيض الحاضر.
وطوباويات نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر (أي طوباويات الحقبة التي سبقت الثورة الفرنسية والحقبة التي تلتها) تری وتمیز تناقضات الرأسمالية المنتصرة، ولكنها لا تستطيع أن تهاجمها باسم قوة تاريخية واقعية (باسم الطبقة العاملة على سبيل المثال التي لم تكن قد أصبحت بعد قوة تاريخية مستقلة بنفسها). ومن هنا فإنها تتعلل بالدين أو بالأخلاق أو بالطبيعة أو بالعقل المجرد معايير لإدانة النظام القديم ونماذج لتصور المستقبل.
وهذه الطوباويات التي يتم إنشاؤها من وجهة نظر قوى التاريخ الصاعدة تطرح مشکلات واقعية وإن لم تأت بأجوبة عينية: البحث عن نظام اجتماعي أقرب إلى العدالة، وعن مثل أعلى لحياة سعيدة ومليئة، وعن انسان أعظم حرية وأجل شأنا.
ولقد كانت آخر الطوباويات المتفائلة في أواخر القرن التاسع عشر طوباوية وليم موريس في “أقاصيص من لا مكان”، تلك الأقاصيص التي تغنى فيها مستقبل اشتراكي يكون فيه كل انسان خالق، أي شاعرا. ولقد كان مؤلفها واحدا من المعجبين بمار كس وصديقا لانجلز
والطوباوية تنبعث اليوم من جديد في أوساط الشبيبة. وهذه ظاهرة صحية للغاية في حد ذاتها، ولا تعصي أسبابها على الفهم: فتلك الشبيبة تنقض وتعارض المجتمعات الرأسمالية النمط في مبدئها بالذات، كما أن أشكال الاشتراكية المتحققة تاريخيا لا تتفق وغابات الاشتراكية ولا تتجاوب معها.
ورد فعل الشبيبة المشروع هذا قد عبر عن نفسه في عام ۱۹۹۸. فحين كتب طلاب السوربون على جدران باريس “الخيال الى السلطة!”
إنما كانوا يفضحون نقص المنطق والتعليم والتركيب في ميدان ما هو معروف وعدم كفايته لاختراع المستقبل. ولقد كانوا يدعون، بشيء من الغموض والإبهام – هذا صحيح – ولكن بأمل عظيم، الى انطلاق الخيال الخلاق، إلى ولادة مختبرات التخيل. وهذا في الحق أمر تفتقر اليه حكومتنا وأحزابنا السياسية وجامعاتنا.
والخيال من حيث أنه طوباوية ليس هو اللامعقول أو التلاعب الفوضوي بالصور. إنما الخيال شغور الفكر الذي يرفض أن يحبس في أطواق وأن يتصور المستقبل امتدادا أو تركيبا لعناصر الماضي.
وليست خاصة الخيال الحلاق أن يكتفي بالاستقراء والتعميم انطلاقا من الحاضر، بل أن يشق طريقا غير مطروق بقلبه المنهج الوضعي رأسا على عقب، بحيث يكون الانطلاق من الهدف المنشود، ثم تستنتج تراجعيا شروط التحقيق والوسائل والمراحل التوسطية.
وقد أثبت هذا المنهج نجعه في جميع ميادين العلوم والأخلاق والفنون: فكوزمولوجيا كوبرنيكوس ما كان في المستطاع استنتاجها من کوزمولوجيا بطلیموس ، ولا فيزياء دیکارت من فيزياء الأرسطوطاليسيين، ولا فيزياء انشتاین من فيزياء نيوتن ، ولا الرسم التكعيبي من الرسم السائد منذ عصر النهضة، كما لم يكن في المستطاع استنتاج تعاليم المسيح من التصور الإغريقي عن العالم . وقد مهد للثورة الفرنسية كما لاشتراكية مارکس العديد من الطوباويات السابقة، ولهذا كانت الثورة الفرنسية بمثابة قطيعة جذرية مع نظام الماضي الاجتماعي، كما لم تكن اشتراكية مارکس تعميما للملكية الرأسمالية أو الديموقراطية البورجوازية، بل كانت بدورها، الشيء المغاير، بالنسبة إلى ذلك الماضي : نفي النفي.
وأي انقلاب حقيقي يقلب الأوضاع القائمة رأسا على عقب ويدشن عصرا جديدا في كل ميدان، كائنا ما كان، لا يمكن أن يكون إسقاطا في المستقبل لحقائق أو قيم أو قواعد قائمة حاضرا.
والعقبة الرئيسية التي تقف في وجه انطلاق الخيال الخلاق هذا تتمثل في التصور الوضعي، الدوغمائي، المستلب، الذي ينزل ( المعطيات، أو الوقائع، منزلة الحقائق الثابتة الأزلية. فالمنظور الكلاسيكي، الذي ابتدعه رسامو عصر النهضة، ليس بحال من الأحوال معطى طبيعيا وضروريا، وإنما هو مواضعة كغيرها من المواضعات اعيد النظر فيها واستعيض عنها بمواضعات أخرى في الرسم الحديث منذ ثلاثة أرباع القرن. وهندسة إقليدس ليست بنية أزلية للمكان كما كان يعتقد كانط، واذا كانت ما تزال صحيحة بوجه الإجمال على مستوانا، فإنها لم تعد صحيحة على مستوى الكون أو الذرة . بل إن العقل نفسه، كما أوضح باشلار، ليس في كل عصر غير محصلة مؤقتة لفتوحات العقلانية.
وهكذا فإن الشرط الأساسي للخلق والإبداع، في العلم كما في الجمالية، وفي الأخلاق كما في السياسة، هو أن نعي أن ما علمنا النظام والعادة أن نعده، بإجلال صنمي، معیارا ازليا للمعرفة أو العمل هو في حقيقته إبداع انساني قابل للنفي وللاستبدال عبر خلق الإنسان المتواصل للإنسان.