ورقة عمل – د. ياسر حسن الصلوي
مقدمة:
يقال: إن الأمن يوازي الحياة، إذ هو مرتبط بالوجود، وغيابه مقترن بالعدم، فهو ركيزة من ركائز الحياة لأنه حاجة أساسية للأفراد والجماعات، فلا يمكن للحياة أن تستقيم بدونه، وهو ضرورة من ضرورات بناء المجتمع، وأحد أهم القواعد الأساسية التي يستقيم بها أمر الدول والبلدان وانتظام العمران، وبسبب أهميته تلك ينظر إليه بوصفه عماد المجتمع الإنساني السوي والمتقدم، ومرتكزا أساسيا من مرتكزات تشييد الحضارة، فلا أمن بلا استقرار، ولا حضارة بلا أمن، وحفاضا على استمرار الحياة البشرية بصورة آمنة؛ حرصت المجتمعات على رعاية قواعد السلوك العام، وبذل الجهود للقيام بمسؤولياتها تجاه مواطنيها من أجل تحقيق الأمن والاستقرار لمجتمعاتها، وتعد الأجهزة الأمنية عماد سلطة المجتمع لأنها تمثل التجسيد الطبيعي لسلطة المجتمع من خلال القيام بواجباتها الأمنية للحفاظ على الأمن والاستقرار.
في الوقت الحاضر لا يقاس تطور المجتمعات الإنسانية بالنظر إلى التوسع العمراني والتطور التكنولوجي وزيادة مستويات الدخل والمعيشة لأفراد المجتمعات وغير ذلك من مظاهر الحياة المادية فحسب، ولكنه يقاس أيضا من خلال التعامل الحضاري والإنساني لدى أفراد المجتمع وخصوصا أولئك العاملون في مراكز العمل ذات الاحتكاك المباشر بالمواطنين والجمهور، وفي المقدمة منهم رجال الأمن والشرطة الذين تقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة في حفظ الأمن والسلامة في المجتمع، وحمايته من كل الأخطار والمنغصات التي تهدده، وفي المقابل يسهم المجتمع بصورة مباشرة من خلال الأفراد وبصورة غير مباشرة عبر مؤسساته المختلفة في تحقيق الأمن والاستقرار وتعزيزه عبر تعاونه وتكامل أدواره مع أدوار الأجهزة الأمنية القائمة، كما تكتسب العلاقة بين الناس وأمنهم من جهة، والأجهزة الأمنية والمسؤولين عن تحقيق الأمن جهة أخرى أهمية كبرى لكل من الطرفين.
وتهدف هذه الورقة إلى إبراز التأثير المتبادل بين الأمن والمجتمع (الأجهزة الأمنية والمجتمع) في ثلاثة محاور، يتناول المحور الأول دور الأجهزة الأمنية تجاه المجتمع، ويركز المحور الثاني على دور المجتمع في تحقيق الأمن والاستقرار وتعزيزه، أما المحور الثالث فيحاول تقديم وصف مختصر للعلاقة بين الأجهزة الأمنية (الشرطة) والمجتمع، ودور الحرب في اليمن وتأثيرها على هذه العلاقة (أسباب سوء وتدهور العلاقة بين الشرطة والمجتمع) وتحديدا في المناطق الخاضعة للسلطة الشرعية.
أولاً: في معنى الأمن والمجتمع:
مفهوم الأمن Security : يعرف الأمن في اللغة بأنه (نقيض الخوف) ويدل الفعل الثلاثي (أمِن) على تحقق الأمان، جاء في لسان العرب لابن منظور: “أمنت فأنا آمن، وأمنت غيري أي ضد أخفته، فالأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة، والإيمان ضد الكفر، والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، فيقال: آمن به قوم وكذب به قوم” ([1] (أما في الاصطلاح فيشير الأمن عموماً إلى: تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف، وإحلال شعور الأمان ببعديه النفسي والجسدي محلّه، والشعور بالأمان هو حق إنساني أصيل لا يتجزأ سواء أكانت الأسباب الداعية إلى ذلك اجتماعية أم عرقية أم غير ذلك([2](
ويعني الأمن العام Public Security: النشاط الحكومي الذي يهدف إلى استقرار الأمن في البلاد، ويتضمن ذلك أعمال الدفاع الاجتماعي والدفاع المدني، وتنظيم حركة المرور، ورعاية الآداب العامة، وإطفاء الحرائق، واستقرار الأمن صفة لازمة للإنتاج والرخاء، ([3]) فالأمن، إذن هو إحساس الأفراد والجماعات التي يتشكل منها المجتمع بالطمأنينة والشعور بالأمن والاستقرار، وهو ما يحفزهم على العمل والإنتاج، لذلك فإن الهدف الأساسي من وجود المؤسسات الأمنية هو إقرار السكينة والنظام، ووقاية المجتمع من عوامل الانحراف التي تهدد كيانه.
مفهوم المجتمع Society : المُجتمَع لُغةً هو: ضم الأشياء المُتفِقَه، والمُجتمَع مُشتق مِن الفِعل اجتمع ضد تفرقَ، والمُجتمَع: موضِع الاجتماع أو الجماعة مِن الناس، والمجتمع اصطلاحا: جماعة من الناس يعيشون معًا في منطقة معينة تجمع بينهم ثقافة مشتركة ومختلفة عن غيرها، وشعور بالوحدة، كما ينظرون إلى أنفسهم على أنهم كيان متميز، ويتميز المجتمع ببنيان من الأدوار المتصلة ببعضها والتي تتبع في سلوكها المعايير الاجتماعية، ويتضمن المجتمع جميع النظم الاجتماعية الأساسية، وهو مستقل لا بمعنى اكتفائه الذاتي التام اقتصاديا؛ وإنما بمعنى شموله لجميع الأشكال التنظيمية الضرورية لبقائه([4]).
والمُجتمَع في عِلم الاجتماع هو: نسَق مكوَن مِن عِدَة أنساق فرعيَة مترابطة تسهِمْ في تحقيق التوازُن والاستقرار في المُجتمَع، وأي تغييـر في واحِد مِن هذهِ الأنساق الفرعية يؤدى إلى التغييـر في الأنساق الفرعية الأُخرى.
أما المجتمع المحلي community فيعرف بأنه: مجموعة من الناس الذين يقيمون عادة على رقعة معينة من الأرض، وتربطهم علاقات دائمة نسبيا، ولهم نشاط منظم وفق قواعد وأساليب وأنماط متعارف عليها، وتسود بينهم روح جمعية تشعرهم بأن كلا منهم ينتمي إلى هذا المجتمع ([5]).
ثانيًا: دور الأجهزة والمؤسسات الأمنية تجاه المجتمع.
وجود الأجهزة والمؤسسات الأمنية ضرورة حتمية لأية دولة، وهي ضرورة نابعة من ضرورة الأمن نفسه، إذ لا غنى عنه في أي وقت سواء للفرد أو للمجتمع، ويستحيل أن يمارس الناس نشاطهم وحركتهم اليومية إلا مع تحقيق الأمن.
إن أهم الواجبات الوظيفية المناطة بالأجهزة الأمنية إزاء المجتمع هي تحقيق الأمن والاستقرار لأفراد المجتمع من خلال قيامها بواجباتها الأساسية المتمثلة بإنفاذ القانون وحماية المجتمع من الجريمة ومخاطرها بمنعها قبل وقوعها، والكشف عنها والقبض على مرتكبيها وتنفيذ العقوبة الصادرة بحقهم، والمحافظة على الأمن العام، وحماية الأرواح والممتلكات، والإشراف على تنفيذ قوانين الدولة، وإلى جانب الدور التقليدي للأجهزة الأمنية هناك بعض البرامج والخدمات الاجتماعية التي ترتبط بالمجتمع ارتباطًا وثيقًا والتي يتوجب على الأجهزة الأمنية القيام بها، ومنها أعمال الدفاع المدني(أعمال إطفاء الحريق، وعمليات الإنقاذ، ومباشرة الكوارث الطبيعية، وتوفير الملاجئ الآمنة التي تزداد الحاجة إليها أثناء الحروب والأزمات، والقيام بأعمال النجدة كاستجابة لنداء أفراد المجتمع عند أي طارئ، وتنفيذ برامج الإصلاح الاجتماعي داخل السجون، والتصدي للجرائم المخلة بأمن الدولة، والمشاركة في حماية الآداب العامة، وحماية الأحداث من الانحراف، وإصدار البطاقات الشخصية للمواطنين عن طريق دوائر الأحوال المدنية، وتنظيم المعلومات حول المواطنين، وفهرستها بشكلٍ يسهل الرجوع إليها عند الحاجة، وتعد هذه الأخيرة من أهم أعمال الأجهزة الأمنية في الدولة؛ لما له من دور يمس أهم أركان الدولة وهو ركن الشعب وبخاصة المواطنين، وغير ذلك من الخدمات الإنسانية الأخرى المتعددة، كالتدخل في حالة الكوارث والنكبات لا بالمساعدة فحسب، ولكن بالإسعاف وتقديم الخدمات الأخرى.
ووفقا لدستور الجمهورية اليمنية تنص المادة (39) منه أن “الشرطة هيئة مدنية نظامية تؤدي واجبها لخدمة الشعب وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتعمل على حفظ النظام والأمن العام والآداب العامة، وتنفيذ ما تصدره إليها السلطة القضائية من أوامر، كما تتولى تنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات، وذلك كله على الوجه المبين في القانون”. ( [6])
ثالثًا: دور المواطن والمؤسسات المجتمعية في تعزيز الأمن:
شهد العقد الأخير من القرن الماضي نقلة نوعية مقدرة في مفهوم الأمن، فلم يعد مفهوم الأمن ذلك المفهوم الضيق الذي يقتصر على إنفاذ القانون وحماية المجتمع من الجريمة ومخاطرها، بل أصبح يعني تأمين مسيرة المجتمع والعمل على التحسين المستمر لمستوى الطمأنينة الشاملة والحفاظ على المقدرات التي تؤمن رفاهية المجتمع وسعادة الإنسان، فالأمن الشامل يعني مجموعة الأسس والمرتكزات التي تدعم تماسك المجتمع واستقراره، وتقوّيه في مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والبيئية والصحية، علاوة على المشكلات المتعلقة بالأمن والسلامة العامة.
إن شمولية الأمن بهذا المعنى تعني أيضا تعدد الجهات المناط بها توفيره، كمؤسسات الدولة الرسمية والجمهور، والمؤسسات المجتمعية، فالتوسع في مفهوم الأمن لا بد أن يقابله تغيير ملائم في آليات وأساليب العمل الأمني، بحيث يصبح هذا العمل من مسئوليات المجتمع كله، وأن يتبادل المواطنون الأدوار مع الأجهزة الأمنية فيصبحوا شركاء في توفير الأمن وليسوا عملاء فقط، ومن ثم فالمواطنون يسهمون-أفرادا أو عبر مؤسسات المجتمع المختلفة- في تعزيز الأمن والاستقرار، وتقوية الروابط الاجتماعية من خلال تقديم الخدمات التعليمية والتربوية والاجتماعية والصحية،. إلخ لأفراد المجتمع.
–
دور المواطن في تعزيز الأمن:
لا يقل دور المواطن أهمية عن دور رجل الأمن في إقرار النظام والأمن العام، وهناك مجالات عدة يمكن أن يسهم المواطنون من خلالها في تحقيق أهداف الأجهزة الأمنية ،وفي المقدمة منها جهاز الشرطة، ومن ثم تعزيز الأمن وحماية المجتمع، وذلك من خلال القيام بكثير من الأعمال التي أبرزها التزام المواطنون بتنفيذ القوانين والأنظمة، فكلما زادت نسبة المواطنين الملتزمين باحترام القوانين والأنظمة؛ ساعد ذلك رجال الأمن ووفر لهم الوقت والجهد والتكاليف في السيطرة على الخارجين عن القانون، ومن ثم اتخاذ الاجراءات الكفيلة بردعهم، واتخاذ الإجراءات الكفيلة لمنع وقوع الجريمة؛ فمنع وقوع الجريمة ليست من مسؤولية الأجهزة الأمنية وحدها وإنما يجب أن يشارك المواطنين فيها ومن أهم الإجراءات التي يمكن للمواطنين أن يتخذوها لمنع خطر الجريمة هو الانتباه لحيل النصابين، وتربية الأبناء تربية سليمة، ومنع الاعتداء على الآخرين…إلخ، والتبليغ عن الجرائم من قبل المواطنين هو أمر يساعد في حماية الأرواح والأموال وغيرها، والتقدم للشهادة أمر يساعد رجال الأمن في ضبط الجريمة والتوصل الى معرفة مرتكبيها وتقديمهم للجهات القضائية، والمحافظة على مسرح الجريمة ومنع العبث به يساعد رجال الأمن في الوصول إلى مرتكب الجريمة، والقبض على الجناة عبر الإمكانات الجسدية والعقلية للمواطنين، وتسليم الجناة إلى الأمن أو عبر التعرف على أوصافهم والأدوات التي يستخدمونها في الجريمة، وغير ذلك من الأمور التي يمكن للمواطنين أن يقوموا بدور مهم فيها ليسهموا في تعزيز الاستقرار الاجتماعي.
دور المؤسسات الاجتماعية في تعزيز الأمن:
يقوم النظام في أي مجتمع على المؤسسات الاجتماعية مثل: العائلة، والمدرسة، والجامعة، ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من المؤسسات التي تقوم بوظائف حيوية إيجابية تتعلق ببقاء المجتمع ووجوده، وبتنشئة أفراده التنشئة الاجتماعية المناسبة، بما في ذلك تعريف الفرد بالنظام الأخلاقي والاجتماعي المقبول اجتماعيا، وتكوين المعايير الاجتماعية والقيم، واحترام القانون، والضبط الذاتي للسلوك الاجتماعي ([7]).
إن أهم المؤسسات الاجتماعية التي يمكن أن تسهم في تعزيز الأمن هي الأسرة بوصفها أساس التنظيم الاجتماعي، وتقع على عاتقها مسؤوليات ومهام كثيرة لا تقتصر على بناء شخصية الطفل وتنمية قدراته، ولكنها تتعداه إلى متابعة وتقويم وإصلاح سلوك الفرد، وتوجيهه نحو إقامة علاقات اجتماعية سليمة من خلال تفاعله مع البيئة الاجتماعية، وينبغي التنويه إلى أن الدور التقليدي الذي ظلت تمارسه الأسرة في التنشئة لم يعد كافيا اليوم في ظل التغيرات الكبيرة، بل يجب أن ينطلق دور الأسرة من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي تعيشه، فأصبح لزاما عليها أن تقوم بأدوار غير تقليدية، كالتدخل المبكر في اكتشاف السلوكيات المنحرفة والشاذة، وزيادة تثقيف وتأهيل أفراد الأسرة في مجال استيعاب المتغيرات الجديدة.
كما تمثل مؤسسات التعليم (المدرسة، الجامعة) البيئة الاجتماعية الثانية التي يتشكل منها سلوك الفرد وتتحدد ملامح شخصيته، وهي تتمتع بأهمية كبيرة في تعزيز الأمن من خلال دورها في التعرف على كافة السلوكيات المنحرفة للطلبة، وتدخلها المبكر في التعرف على المعرضين منهم للانحراف، علاوة على أدوارها المختلفة في رفع مستوى الوعي الفردي والجمعي بأهمية الأمن والاستقرار.
أما المؤسسات الإعلامية فتؤدي دورا بارزا في مجال التأثير والإقناع، من خلال توجيه السلوك العام وتشكيله، والإعلام بطبيعته سلاح ذو حدين، فإذا أحسن استخدامه أسهم في تعزيز الأمن والحماية من الانحراف وساعد في تشكيل السلوك الإيجابي، وتقويم السلوك السلبي وتوجيهه إلى الوجهة الصحيحة، أما إذا أسيء استخدامه؛ فإن ذلك قد يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار، فالمادة الإعلامية قد تصبح درسا في الإجرام، وتشكل في حد ذاتها عاملا من عوامل الانحراف، كما يمكن أن يؤدي نشر الأخبار والإشاعات الكاذبة والمظللة إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وبالمثل غدت وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر تلعب دورا مهما في الـتأثير على الأفراد والرأي العام.
وتضطلع المؤسسات الدينية ( وزارة الأوقاف والإرشاد والمساجد والجوامع) بأدوار مهمة في المجتمعات التي يحتل الدين فيها مكانة عليا لدى أفراد المجتمع، وذلك في مكافحة الرذيلة والآفات الاجتماعية، ونشر قيم الأخلاق والفضيلة في المجتمع، فالمساجد من أهم مراكز التنشئة التي تؤثر في تكوين الثقافة الدينية لدى النشء؛ لما تتمتع به من قدسية ومكانة كبيرة لدى الناس لاسيما في مجتمعنا اليمني، ومن ثم يمكن أن تساعد في تشكيل سلوك متقارب لأفراد المجتمع، يساعد بدوره في تحقيق التقارب والتعاضد وتنمية الضمير عند أفراد المجتمع، إلا أن دورها في الوقت الحالي لا يزال مغيبا إلى حد كبير، ولا يتعدى تأدية الصلوات الخمس وخطب الجمعة، ومن ثم فهي لا تسهم غالبا في حل قضايا المجتمع ولا تتناول مشكلاته، بل تستخدم في كثير من الأحيان لنشر نوع معين من الأيديولوجيا الإقصائية.
أما فيما يتعلق بالجمعيات والمؤسسات الأهلية فيمكن من خلال أنشطتها أن تقوم بأدوار مهمة وبارزة عبر الأعمال الخيرية والعمل التطوعي والتكافل الاجتماعي، ومساعدة أفراد المجتمع في مواجهة المشكلات المادية من خلال رعاية الأسر المحتاجة، وتوفير التعليم والإعانات العينية لغير القادرين من أفراد المجتمع، ورعاية الأيتام والفقراء والمشردين، كما يمكن أن تقوم المؤسسات ذات التوجه الاجتماعي مثل: الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية والجمعيات- التي تختلف أهدافها باختلاف أنشطتها والشرائح الاجتماعية التي تستهدفها – بأدوار فاعلة في تعزيز الأمن من خلال الإسهام في تثقيف المواطنين وتطوير مهاراتهم وتنمية مداركهم في مختلف النواحي الأمنية والقانونية، وزيادة الوعي في مجال السلوك الإجرامي واحترام القانون، وتنمية الحس الأمني والقانوني لدى المواطنين.
خلاصة القول هي أن العمل الأمني يتحقق في بيئتين: بيئة داخلية تخص الأجهزة الأمنية ذاتها، وبيئة خارجية تخص المجتمع الذي تعمل فيه هذه الأجهزة، وتمثل البيئة الخارجية الخاصة بالمجتمع بما يتضمنه من سكان وموارد وأنظمة وقوانين وظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية متغيرة ومتشعبة؛ مسألة مهمة في نجاح مهام الأجهزة الأمنية، وهو ما يتطلب ضرورة التعامل معها بكثير من التنظيم والتخطيط والتطوير، وتغيير السياسات وتعديل الإستراتيجيات التي تمكن الأجهزة الأمنية من السيطرة على ظروف هذه البيئة والتكيف معها ([8]).
رابعًا: الأجهزة الأمنية والمجتمع: طبيعة العلاقة.
لكي تقوم الأجهزة الأمنية بالواجبات المناطة بها لا بد أن تحظى بالقبول من أفراد المجتمع حتى تستطيع أن تقنعهم بتقديم مساعدتهم لها، ومهما أُوتيت هذه الأجهزة من قوة فإنها لا يمكن أن تؤدي واجبها بدون تفاعل أفراد المجتمع معها، ويتطلب التناول العلمي-من أجل معرفة طبيعة العلاقة بين المؤسسات الأمنية والمجتمع في اليمن عموما أو المحافظات والمناطق الخاضعة لسلطة الحكومة الشرعية في الوقت الراهن خصوصا وأثر الحرب في هذه العلاقة- يتطلب إجراء دراسة استطلاعية للتعرف على اتجاهات الجمهور والمواطنين نحو الأجهزة الأمنية وأدائها من جهة، وعلاقة هذه الأجهزة بالمواطنين من جهة أخرى، غير أن محاولة تناول هذه العلاقة هنا تهدف إلى التعرف على طبيعة هذه العلاقة بوساطة الملاحظة المباشرة والعامة التي تبـين ميل هذه العلاقة إلى السلبية عموما، وتظهر نوعاً من التوجس والشك وعـدم الثقـة بـين المواطنين والأجهزة الأمنية.
لقد اتسمت العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع قبل العام 2012م م بضعف الثقة بينهما، فقد ظل الاعتقاد الراسخ والقناعة المؤكدة لدى غالبية اليمنيين أن أجهزة الأمن تخدم النظام الحاكم على حساب المجتمع، فقد استخدمها النظام الحاكم-الذي اتسم بالتسلط- أداة لحماية النظام والتصدي لمعارضته وللحركات الاحتجاجية التي قد تشهدها البلاد، والتي تمثل أبرز مظاهرها في الثورة الشعبية عام 2011م، لقد كرس ذلك النهج وجود حالة من الخصومة الكامنة في نفوس المواطنين والأجهزة الأمنية لانفلاتها المزمن من المحاسبة، وعدم خضوعها للقانون التي يفترض أنها تعمل وفقا له.
مع انقلاب جماعة الحوثي/ صالح على السلطة الشرعية في 21/9/2014م واسقاط مؤسسات الدولة وما أفضى إليه ذلك الانقلاب من دخول البلاد حالة حرب منذ العام 2015م وحتى الآن (يناير ٢٠٢١م)- شهدت البلاد حالة من الفوضى كان أبرز مظاهرها المواجهات المسلحة والاضطرابات، والانفلات الأمني، وانتشار أعمال العنف والاغتيالات والقتل خارج القانون، والاعتقالات والإخفاء القسري، قطع الطرقات، وحوادث الاختطاف، وغير ذلك من الحوادث التي شهدتها ولا تزال تشهدها معظم مناطق البلاد، وعلى الرغم من محاولات السلطة الشرعية إعادة بناء مؤسسات الدولة-بما في ذلك الأجهزة الأمنية والشرطية في المناطق المحررة- فإن حالة من عدم استقرار الوضع السياسي والاقتصادي في هذه المناطق -علاوة على التحديات الخارجية التي تواجهها البلاد- قد طالت بصورة مباشرة أجهزة الأمن والشرطة (وزارة الداخلية) وأثّرت فيها تأثيرا سلبيا، كما واجه تعاملها مع المجتمع عداء في بعض الأحيان، وشهد صراعات مفتوحة بين العديد الأفراد أو الجماعات الخارجة عن سلطة الدولة وعلى النظام والقانون وبين الأجهزة الأمنية بسبب زيادة موارد النزاعات والأسواق السوداء وانتشار السلاح في مختلف مناطق البلاد، الأمر الذي أضعف التعاون النسبي الذي كان قائما بين هذه الأجهزة والمجتمع قبل الحرب، وزاد في تعميق الفجوة التي كانت قائمة بينهما أصلا.
لقد نجم عن هشاشة الوجود الحقيقي للسلطة الشرعية والحكومة وضعف فاعليتها في معظم المناطق المحررة-ومحافظة تعز منها- استمرار الاضطرابات وحالة من الفوضى والضعف الأمني من جهة، واستمرار السلوكيات القمعية من بعض الأجهزة الأمنية- التي جرى إعادة بنائها- عند أي احتكاك بين هذه الأجهزة وبين المواطنين من جهة ثانية، وهو ما يشير إلى خلل في إعادة بناء هذه الأجهزة الأمنية، الأمر الذي يعيق هذه الأجهزة عن توفير بيئة يحكمها القانون واحترام حقوق الإنسان، علاوة على قيام جهات خارج إطار الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية بأداء مهام هي من اختصاص الأجهزة الأمنية، وذلك في إطار صراع النفوذ والهيمنة على القرار الأمني.
وفي ظل استمرار حالة الفوضى التي فرضتها الحرب؛ أصبح أقصى طموح يمكن أن تصل إليه هذه الأجهزة الأمنية هو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب.
إن سيادة هذا النمط من التفكير لدى القيادات الأمنية والقائمين على إدارة المناطق والمحافظات المحررة في تعاطيها مع الشأن الأمني يعني عدم تغيير النهج العام الذي كانت تعتمده هذه الأجهزة الأمنية في العمل الأمني سابقا، والذي لم يكن مقبولا شعبيا، وهو ما سيفضي بالضرورة إلى وقوع هذه الأجهزة في نفس المأزق السابق المتمثل في تدهور العلاقة بين المجتمع والأجهزة الأمنية، وسيسفر في نهاية الأمر عن نتائج فادحة تصعب معالجتها، ومن ثم استمرار حالة انعدام الثقة واتساع الفجوة القائمة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع.
تدهور العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع ودور الحرب في زيادة هذا التدهور:
هناك صعوبة كبيرة في إرجاع أو تفسير تدهور العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع ومن ثم استمرار افتقاد الثقة بين الأجهزة الأمنية والجمهور إلى عامل أو متغير واحد، فهناك العديد من العوامل التي قد تسهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تدهور هذه العلاقة، كما قد يكون لعامل منها تأثير أكبر من العامل الآخر في فترة ما، أو قد يتضافر أكثر من عامل في وقت وأحد ليؤدي إلى مثل هذه النتيجة، ويمكن تناول هذه العوامل في مجالين: أولها يتعلق بطبيعة الأجهزة الأمنية ذاتها وظروف البيئة الداخلية المتعلقة بطبيعة عملها، أما الثاني فيتعلق بالبيئة الخارجية أي بالمجتمع.
1- عوامل تتصل بالأجهزة الأمنية ذاتها وظروف البيئة الداخلية المتعلقة بطبيعة عملها:
تتمثل أبرز هذه العوامل في ضعف البناء المؤسسي للأجهزة الأمنية التي جرى إنشاؤها أو إعادة بنائها في المناطق المحررة في ظل الظروف الاستثنائية التي فرضتها الحرب الحالية منذ انقلاب جماعة الحوثي على السلطة الشرعية، وسيطرتها على الوزارات الحكومية والمؤسسات الأمنية في العاصمة صنعاء، وضعف الإمكانيات المادية والمخصصات المالية المرصودة لإدارة الشأن الأمني، وقيام الأجهزة الأمنية بواجباتها في ظل انعدام الموازنات الحكومية لسنوات عديدة، وسوء اختيار عناصر ورجال الأمن حيث أصبح العمل الأمني في الكثير من الأحيان وظيفة لمن لا وظيفة له، وضعف الالتزام بالشروط القانونية في تعيين القيادات الأمنية، وضعف مستوى التأهيل ونقص الخبرة وتدني المهارات اللازمة لأداء العمل الأمني والشرطي لدى أغلب رجال الأمن، وهو ما يؤثر سلبا في عملهم وتعاملهم مع الجمهور، وضعف القيم المؤسسة الحاكمة لعمل الأجهزة الأمنية وتأدية مهامها لا سيما ما يتصل منها بقيم العدالة والمساواة والشفافية واحترام حقوق الإنسان، واستخدام السلطة واستغلالها لتحقيق مكاسب شخصية من خلال الوظيفة الرسمية في ظل غياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة وتفشي مظاهر الفساد كالرشوة والوساطة والمحسوبية …إلخ في الأجهزة الأمنية، واستمرار هيمنة الفكر العسكري (نموذج عسكرة مؤسسات الأمن الشرطة) على العمل الأمني والشرطي المبني على التشدد المطلق والصرامة في التعامل مع المواطنين، والذي من المحتمل أن تكون ظروف الحرب الحالية قد عززته الأمر الذي يحول دون الوصول إلى المعادلة المناسبة بين تطبيق القانون وتقوية العلاقة مع أفراد المجتمع، وهو ما يفضي إلى استمرار المفاهيم المغلوطة والقيم الثقافية السائدة لدى عناصر الأمن حول طبيعة عملهم، باعتبارهم أدوات لتنفيذ سياسات السلطات الحاكمة بشكل قسري، الأمر الذي يفرغ هذه الأجهزة من الدور الخدمي والإنساني، ومن ثم زيادة الفجوة القائمة بينها وبين المواطنين، لا سيما مع استمرار نظرة رجال الأمن للعلاقة مع الجمهور بمنظار الشك والريبة وسيادة الرؤية القاصرة تجاه المواطنين باعتبارهم غير مؤهلين للقيام ببعض الأعمال التي تساعد الأجهزة الأمنية في القيام بدورها الأمني والوقائي، وغياب قنوات الاتصال الفعالة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين، وانحصار علاقة الأجهزة الأمنية بالمواطنين في اعتبار المواطنين منبع مدخلاتها البشرية، غير أنهم في الوقت نفسه مغيبون تماماً عن المشاركة الفعلية في تحمل مسئولية أمن المجتمع.
كما يمثل عدم تطبيق القوانين واللوائح المنظمة لعمل الأجهزة الأمنية، والبطء والتعقيد في إنجـاز المعاملات الخاصة بالمواطنين أو إسـاءة معاملتهم، وضعف مستوى الخدمات التي تقدمها الأجهزة الأمنية لهم وتدني جودة ما يقدم منها، والتستر على الكثير من المخالفين أو المجرمين والتزام الصمت حيالهم أو غض الطرف عنهم وعن جرائمهم أو حتى التواطؤ معهم بالإفراج عنهم بعد القبض عليهم، والتصرفات الخاطئة والمخالفات التي يرتكبها رجال الأمن وتتعارض مع مهامهم كمسؤولين عن حماية المواطنين وأمنهم ومنفذين للقانون، أو الأخطاء المسلكية الصارخة التي يرتكبها بعضهم وتؤدي إلى ردات فعل عنيفة لدى الرأي العام، وبخاصة في ظل الدور الذي باتت تلعبه التكنولوجيا ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر مثل هذه السلوكيات وفضحها، كلها تمثل عوامل مهمة في تدهور العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع.
2- عوامل تتصل بالبيئة الخارجية المتعلقة بالمجتمع:
تتمثل العوامل ذات الصلة بالبيئة الخارجية في ضعف إحساس المواطنين بالأمن والأمان في ظل استمرار الحرب الحالية والمواجهات المسلحة، وضعف فاعلية الأجهزة الأمنية في حفظ الأمن، والأسباب التاريخية المتعلقة بالممارسات السلبية لأجهزة الأمن في الفترات السابقة والمراحل التي مر بها المجتمع اليمني، حيث استخدمت الأجهزة الأمنية كوسيلة لتقييد حرية المواطنين أو حتى إرهابهم والتنكيل ببعضهم، وهو ما ولد شعورا بالعدائية تجاهها وأثر بشكل سلبي في صياغة العلاقات الاجتماعية التي ينبغي أن تكون ودية بين هذه الأجهزة وبين المواطنين، ومنها أيضا العوامل السياسية المتمثلة بقيام أغلب النخب الحاكمة والقيادات السياسية المتعاقبة على السلطة باستخدام الأجهزة الأمنية لفرض سياساتها خصوصاً إذا كانت هذه القيادات غير مقبولة لدى قسم كبير من أبناء المجتمع – أحداث العام 2011م مثال على ذلك- وتعامل الأفراد تعاملا سلبيا حول منع الجرائم قبـل وقوعها، وعدم اقتناع المواطنين بأهمية التعاون مع رجال الأمن، وميل كثير منهم إلى عدم التعاون مع هذه الأجهزة لعدم اقتناعهم بجدوى هذا التعاون وهي قناعة يمكن أن تعزى إلى أسباب عديدة نفسية واجتماعية وتاريخية، وانحسار الفكرة القانونية كأداة للضبط الاجتماعي ومن ثم تـأزم العلاقـة مـع الأجهزة الأمنية، وكذا طبيعة الدور الذي تقوم به أجهزة الأمن وهو تطبيق القوانين التي هي بمثابة قيود على حرية الأفراد، ومن ثم فإن شعورا بالكراهية يتولد لدى الفرد ضد رجل الأمن والشرطة نتيجة لطبيعة الفرد التي تكره هذه القيود، والمبالغة فـي تصـوير الأحداث التي تقع سواء من قبل المجني عليهم أو وسائل الاعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي بهدف حث الأجهزة الأمنية على إعطاء أولوية للاهتمام بها، أو تشويه سمعة رجال الأمن والشرطة والتشكيك بأدائهم.
كما تلعب العوامل الأخرى المتعلقة بضعف السياسات القضائية ونزاهتها، وانخفاض مسـتوى أداء المؤسسة الرسمية وغير الرسمية ومن ثم زيادة الأعباء الملقاة على عاتق الأجهزة الأمنية، دورا في خلق بؤر التوتر في المجتمع، وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلى تدهور العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع.
الخاتمة:
يمثل وجود الأجهزة الأمنية ضرورة حتمية لأي دولة، وتنبع هذه الأهمية من ضرورة الأمن نفسه، إذ إنه لا غنى عنه في أي وقت من الأوقات للفرد أو للمجتمع، ويستحيل أن يمارس الناس نشاطهم وحركتهم اليومية إلا مع تحقيق الأمن، ومن ثم فإن أهم الواجبات الوظيفية المناطة بالأجهزة الأمنية إزاء المجتمع هي انفاذ القانون وحماية المجتمع من الجريمة ومخاطرها وتحقيق الأمن والاستقرار، ويسهم المجتمع بصورة مباشرة في تحقيق الأمن وتعزيزه من خلال قيام الأفراد بالعديد من الأدوار المهمة، من ذلك التزام المواطنين بتنفيذ القوانين والأنظمة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع وقوع الجريمة، والتبليغ عن الجرائم، والتقدم للشهادة عليها، والمحافظة على مسرح الجريمة، وغير ذلك من الأدوار التي يمكن للمواطنين أن يقوموا بها ويسهموا من خلالها في تعزيز الأمن والاستقرار الاجتماعي، كما يمكن للمجتمع أن يسهم في تحقيق الأمن والاستقرار وتعزيزه عبر مؤسساته المختلفة مثل: الأسرة والمدرسة والجامعة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، وذلك بتعاون هذه المؤسسات وتكامل أدوارها التربوية والإرشادية مع أدوار الأجهزة الأمنية وعملها.
وتكتسب العلاقة بين الناس وأمنهم من جهة والمسؤولين عن تحقيق الأمن من جهة أخرى أهمية كبرى لكل من الطرفين، غير أن المفارقة هي أن رؤية رجال الأمن أو التعامل مع الأجهزة الأمنية تستدعى لدى أغلب الناس حالة من الخوف والتوجس، فهناك صورة ذهنية نمطية سلبية تشكلت لدى الناس عن رجال الأمن والأجهزة الأمنية؛ وذلك لأسباب عديدة أبرزها الخبرة التاريخية المؤلمة التي اكتسبها الناس عنها، والإرث الثقافي الذي شكل المشهد المأساوي لها، وما تـزال معظم الخبرات الراهنة للناس في تعاملهم مع الأجهزة الأمنية تعزز هذه الصورة النمطية السلبية في الخيال الاجتماعي، وهي صورة تجعل الناس يتوجسون من الأجهزة الأمنيـة ويحجمـون عن التعاون معها.
ويمكن القول فيما يتصل بالمشهد الأمني الحالي في اليمن عموما أنه يتسم بأنه مشهد مختل وبائس، إذ يفتقد معظم الناس للأمن والأمان بكل أبعاده بسبب الحرب المستمرة منذ ست سنوات، وهناك مخاوف حقيقية متنامية من فقدان التعـايش والـسلام الاجتماعي والأمن الداخلي، وخصوصا في ظل استمرار الحرب الحالية وما أفرزته من سيادة الفوضى والاضطرابات الأمنية التي تشهدها معظم مناطق البلاد بسبب المواجهات المسلحة، وانتشار السلاح بمختلف أشكاله وعدم القدرة على ضبطه وحصره في مؤسسات الدولة (الجيش والأمن)، وضعف انضباط كثير من الأفراد والعناصر المنضمين إلى الجيش والأجهزة الأمنية، الأمر الذي يغذي الفوضى الأمنية، ويرفع منسوب العنف والحوادث التي تشهدها العديد من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، علاوة على قيام أطراف مسلحة خارج إطار الأجهزة الرسمية للدولة بأعمال ومهام هي من اختصاصات الأجهزة الأمنية وصميم عملها كأجهزة رسمية، علاوة على انتشار الكثير من الممارسات السلبية لأفراد ورجال الأمن من جهة أو عدم قيام الأجهزة الأمنية بواجباتها الأساسية تجاه المواطنين من جهة أخرى، ما يتسبب في فقدان الأمن والاستقرار الذي يتطلع إليه المواطنون، وزيادة تدهور العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع.
توصيات عامة:
إن إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مغايرة لتلك التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل الحرب مسألة في غاية الأهمية، كما أن إعادة بناء الثقة بين الناس وبين هذه الأجهزة الأمنية هو التحدي الأكبر أمام هذه الأجهزة، وهو أمر أساسي يـأتي فـي مقدمة المهمات التي لا بد من القيام بها لنجاح العمل الأمني وأداء وظائفه النبيلة فـي تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة التي فرضتها الحرب الحالية.
إن المبادرة لتصحيح العلاقة بين الشعب وأجهزة الأمن وتغيير الصورة النمطيـة السلبية لرجل الأمن لا تبدأ من الناس، بل من السلطة وأجهزتها، والأمر يتعلـق أساسا بتوافر الإرادة السياسية والإدارية لتغيير هذه العلاقة السلبية القائمة بين الناس والأجهزة الأمنية، وفي هذا السياق يمكن طرح مجموعة من التوصيات العامة التي نرى أن الأخذ بها والاشتغال عليها يمكن أن يسهم في تطوير الأجهزة الأمنية ويحسن أداءها ومن ثم يعزز من علاقتها الإيجابية بالمجتمع:
1- من المهم في المرحلة الحالية التي تجري فيها إعادة بناء الأجهزة الأمنية أن يتم هذا البناء وفق مبدأ مدنية هذه الأجهزة بما يعنيه ذلك من التأسيس لمجموعة من التدخلات والإجراءات التي تضمن الحفاظ على الطبيعة المدنية لأجهزة الأمن بعيدا عن أي صبغة عسكرية أو شبه عسكرية في هذه الأجهزة، وهي الصبغة التي أدت سابقا إلى انفصاله عن المجتمع واستخدامه أداة في يد النظام ضد المواطنين.
2- ضرورة تطوير نظم وأساليب إنجاز المعاملات في الأجهزة الأمنية، واسـتخدام أحدث التقنيات المناسبة في هذا الصدد للحد من مظاهر الفساد، وتحقيق رضا المواطنين عن تقديم الخدمات.
3- ضرورة اختيار رجال الأمن المناسبين في مواقع التعامل مع الجمهور والعمل بعد تأهيلهم بوساطة البرامج والدورات الأمنية القائمة على أسـس وأسـاليب التعامل الإيجابي مع الجمهور (فن التعامل مع الجمهور)، ورفع مستوى مهارات الاتصال والتعامل والتفاوض لديهم، علاوة على تطبيق النظام على جميع المواطنين بالطريقة السليمة، وتشخيص المشكلات السلوكية والاجتماعية القائمة بينهم وبين الجمهور ومعالجتها.
4- إعداد وتنفيذ خطط للتوعية الأمنية في جميع المؤسسات التعليمية يشترك في إعدادها مسؤولون من الأمن والتربية والجامعات، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة وتوظيفها في مجال التوعية الأمنية بما يتوافق مع البيئة اليمنية.
5- نشر ثقافة الأمن التي يتمثل جوهرها في ثقافة القانون، والتعريف بوظيفة رجل الأمن وجهاز الأمن، وحدود هذه الوظيفـة فـي ضوء القانون والدستور أولاً، وفي ضوء حقوق الإنسان والحريات الإنـسانية العامـة ثانياً، وذلك لتغيير معادلة الثقة بالأجهزة الأمنية، بحيث يصبح عملها أسهل وأجدى فتربح الثقة وتربح المجتمع وتحقق وظيفتها النبيلة.
6- زيادة التنسيق والتعاون بين المؤسسات الأمنية والمؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية لنشر ثقافة الأمن المدني، بما يـضمن تقـديم صـورة مختلفة وإيجابية عن رجل الأمن، وينمي توجه الناس إلى التعاون الإيجابي مـع الأجهزة الأمنية في تحقيق الأمن المجتمعي.
7- وضع إطار يحكم سلوك منتسـبي جهـاز الأمن والشرطة (وثيقة قواعد السلوك والأخلاقيات الشرطية والأمنية).
8- عقد لقاءات دورية بين المسؤولين في الأجهزة الأمنية والجمهور ورجال الفكر والإعلام، يتم خلالها عـرض أهم القضايا الأمنية التي تهم المجتمع، وطرح أفضل التصورات بشأنها.
9- خلـق وعي لدى المواطنين بأن الأمن العام هو خدمة لهم وليس سـلطة علـيهم، وأن السلطات الممنوحة لرجل الأمن إنما تستهدف بالدرجة الأولـى حمايـة أمـن المواطن وتحقيق سلامة المجتمع.
10- حوكمة الأجهزة الأمنية بتفعيل مبدأ الشفافية، وآليات المساءلة القانونية والمحاسبة، وتفعيل الرقابة القضائية والمجتمعية على أعمال الأجهزة الأمنية، والسماح لمنظمات المجتمع المدني (نقابة المحامين، المنظمات الحقوقية، الجمعيات الأهلية) بالدخول إلى مقار الأجهزة الأمنية، وتفقد أماكن الاحتجاز وأحوال المحتجزين، والحصول على المعلومات التي يطلبونها، وتخصيص قنوات اتصال للإبلاغ عن أي انتهاكات يقوم بها ضباط وأفراد الأمن.
11- تنفيذ برامج تغيير الصورة الذهنية السلبية عن الأجهزة الأمنية في المجتمع، تترافق مع الاصلاحات الحقيقية في هذه الأجهزة؛ بما يكون صورة ذهنية جديدة عن أجهزة الأمن ترسخ في أذهان المواطنين احترامهم سيادة القانون وحقوق الإنسان.
12- تفعيل عمل أجهزة المؤسسات العسكرية والقضائية وبقية الأجهزة الرسمية للقيام بواجباتها، من أجل التخفيف من الأعباء التي تتحملها المؤسسة الأمنية بسبب هشاشة أداء هذه المؤسسات لمهامها.
الهوامش:
[1]- محمد ابن منظور، لسان العرب، ج13، بيروت، دار صادر، د.ت، ص21، مادة (أمن).
[2] – الموسوعة السياسية، https://political-encyclopedia.org/dictionary/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A
[3] – أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، د.ت، ص 371.
[4] – المرجع نفسه، ص400.
[5] – المرجع نفسه، ص73.
[6] – دستور الجمهورية اليمنية، المعدل 2001م المادة 39 .
[7] – خليفة إبراهيم عودة التميمي، دراسة في العلاقة بين المؤسسات الاجتماعية والمؤسسات الأمنية، دراسة منشورة على الإنترنت. https://www.researchgate.net/publication/316453706_bhth_alamn_walmjtm_drast_fy_allaqt_byn_almwssat_alajtmayt_walmwssat_alamnyt
[8] – هاشم عبد الله سرحان، الأدوار المتبادلة بين الشرطة وأفراد المجتمع لتحقيق الأمن الشامل، ورقة عمل مقدمة لندوة “الأساليب الحديثة في تقييم الأداء الشرطي في مجال التعامل مع المواطنين” والمنعقدة بالتعاون مع شرطة رأس الخيمة، من 12-14/2/1427هـ الموافق 10-12/10/2006م، مركز الدراسات والبحوث، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
ورقة مقدمة إلى المؤتمر السنوي الثالث للشرطة بمحافظة تعز بالشراكة مع جامعة تعز بعنوان: تحليل وتطوير الوضع الأمني في محافظة تعز على أسس علمية ومنهجية للمدة 20-21 فبراير2021م.
د. ياسر الصلوي هو أستاذ علم الاجتماع السياسي والحوكمة المساعد
رئيس قسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة تعز