مسن وحيد داخل خط النار منذ انطلاق أول رصاصة في الحرب
المواطن/ خاص – تعز
تقرير ـ حسان ياسر:
تصوير ـ رامي البريهي
من منطقة تماس وتبادل إطلاق النار بين أطراف النزاع في محافظة تعز (جنوبي اليمن)، يظهر حاج مسن وحيداً في مواجهة خطر التشرد.
صالح محمد مرشد الحميري (78 عاماً)، من أهالي منطقة السلفة مديرية وصاب العالي بمحافظة ذمار (وسط اليمن)، عاصر حروباً ونزاعات عدة، غير أن النزاع الحاصل منذ ما يقارب 4 سنوات، نال كثيراً من سمعه وبصره، ويكاد أن يقصم ظهره.
كل ما يملكه بسطة صغيرة على رصيف سوق عصيفرة شمال شرق مدينة تعز، كان يبيع فيها ألعاب وثياب الأطفال نهارا ً،ويأوي داخلها عند حلول المساء. إلا أن الحرب كان لها خيار آخر.
مواجهات عنيفة شهدتها منطقة عصيفرة منذ بداية الحرب. سوق عصيفرة أكبر سوق شعبي في مدينة تعز، والذي تأسس في العام 1983 م ، كان ولا يزال حالياً في حدود منطقة تماس بين أطراف النزاع.
4 سنوات من الحرب تكفلت بتحويله من سوق شعبي مكتض بحركة البشر إلى مرتع خصب للفئران والقطط والكلاب.
الحميري ثمانيني وحيد، تجاعيد وجهه تحمل خليطاً من الدهشة والألم والأمل، لم يغادر سوق عصيفرة منذ انطلاق الرصاصة الأولى من عمر الحرب ، رغم تعرضه للإصابة أكثر من مرة .
يقضي ساعات النهار متنقلاً بين أكوام الدمار، وبعد غروب الشمس يلجأ إلى خرابة مظلمة برفقة آلام المرض والجوع والخيبة والضياع.
يتحدث بابتسامة خافتة عن طريقته في إثارة واستمالة الأطفال لشراء الألعاب، قبل فترة الحرب، إلا أنه سرعان ما تتملكه حالة من الخوف والذهول، يفتح عينيه بشكل أوسع، ويبدأ صوته بالحشرجة، كأن هناك من غرس إبرة في عنقه.
يقول الحاج صالح الحميري: “قدمت إلى مدينة تعز في العشرينيات من عمري، هروباً من مرض فتاك انتشر بشكل واسع في قريتي “الدباشر” منطقة السلفة، وبعد سنوات سافرت إلى المملكة العربية السعودية، وعملت بائعاً متجولاً للملابس في مكة المكرمة تزوجت خلال تلك الفترة امرأة مصرية من محافظة الجيزة تدعى سحر ،انجبت منها طفلي نبيلة وفتحي ،وعندما جاءت حرب الخليج عام 1990، تم ترحيل جميع اليمنيين إجباراً من أراضي المملكة عدت إلى مدينة تعز ،وظليت على تواصل مع عائلتي في مصر لحدود عام كامل عن بواسطة الهاتف الأرضي وبعدها انقطع التواصل كنت ادق على رقم الهاتف الخاص بعائلتي ولم يجبني أحد سوى صوت يقول لي أن الرقم الذي تتصلون به خطأ وبعد منتصف التسعينيات تزوجت بامرأة أربعينية من صنعاء تقطن حي الجحملية ، ولم أحظَ بأطفال منها، كانت مصابة بمرض العقم، لتفارق الحياة بعد صراع مرير مع مرض القلب والسكر.
أثناء عودتي إلى مدينة تعز استأجرت دكان صغير داخل المدينة القديمة ” باب موسى” لبيع الملابس” وبعد منتصف التسعينات تزوجت بامرأة اربعينية من صنعاء تقطن حي الجحملية في تعز تدعى فاطمة غثيم،ولم أحظ بأطفال منها ، كانت مصابة بمرض القلب والسكر وفارقت الحياة بعد صراع مع المرض.
يواصل الحاج صالح حديثه “بعد وفاة زوجتي فاطمة انتقلت إلى سوق عصيفرة، واستحدثت بسطة صغيرة على الرصيف، لبيع ألعاب وثياب الأطفال.
عشرون عامآ تقريبآ وأنا أعمل في بسطتي على أرصفة سوق عصيفرة ، أبيع فيها مقتنيات الأطفال من ألعاب وثياب، وأتخذها سكناً دائماً لي. وعند بداية الحرب اضطررت إلى رفع بضاعتي إلى داخل هذا المحل التجاري .”إنه مغلق ، ولوحته متدنية بفعل القصف، وعلى بوابته آثار طلقات نارية، وأسمع داخله أحياناً قطقطات للفئران”.
يتابع الحميري وملامح وجهه يملؤها الرعب “قبل عامين حوصرت 38 ساعة، داخل إحدى غرف السوق، نتيجة استمرار الاشتباكات واقترابها العطش والجوع يكادان يفتكان بي. ماذا افعل؟! بالقرب مني شجيرات طماطم بمسافات متباعدة، تتغذى على مياه الأمطار، تحمل طماطم خضراء لم تنضج بعد.
خرجت زحفاً لمقدار 13 خطوة، وصلت إلى أول شجرة، وانتزعت إحدى الطماطم، وضعتها مباشرة في فمي، وأخرى في جيبي، ثم واصلت الزحف باتجاه أشجار بقربها، نهضت قليلاً، وبينما أنا جاثم على ركبتي منحنٍ وخافض رأسي، أقطف الطماطم، شاهدت الدم ينساب من أصابعي.
صرخت ولم يسمعني أحد، ثم بدأت بالزحف لما يقارب 30 خطوة، وصلت إلى عمارة داخلها جنديان احدهما قام بإيصالي إلى منطقة آمنة، ومن ثم تم إسعافي إلى مستشفى الثورة داخل المدينة. كانت الرصاصة قد اخترقت يدي وضلعي الأيسر”.
قبل أشهر بينما كنت نائماً، بعد منتصف الليل، ارتطمت رصاصة نارية بالجدار ، وأصابتني شظية في قدمي.
وأضاف “عشت بين أزيز الرصاص واصوات المدافع والانفجارات،لقد شاهدت جثة بلا رأس، وسمعت صرخات قتيل قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهذه المشاهد لم يسبق لي أن شاهدتها في حياتي ولا زالت تؤلمني كثيراً “.
جنود في منطقة عصيفرة تحدثوا أن الحاج صالح الحميري لم يغادر سوق عصيفرة منذ بداية الحرب رغم هول القذائف والرصاص التي نالت من السوق كثيرآ ،وبالرغم من تعرضه لثلاث إصابات متتالية،مشيرين إلى أنه دومآ ما يظل يحدثهم عن عائلته في مصر، فيما احد الجنود أشار إلى أن الحاج صالح اصبح مؤخرآ غير قادرآ على تناول وجبة الموقع العسكري من حبات الأرز والفاصوليا، حيث أصبحت وجبته الرئيسية الخبز والشاي .
يقول الحاج صالح أنه قبل عامين كان يشاهد تحركات لمسلحي جماعة الحوثي على بعد حوالي أقل من كيلو متر وذلك من فتحة مستحدثة في مؤخرة الخرابة التي يقطنها، لكنه حالياً لا يستطيع رؤية المنازل والمباني المجاورة، كما أن سمعه أصبح ضعيفاً، ولسانه ثقلت أيضا ،حتى أن ملابسه المتسخة والمتكورة داخل غرفته قال أنه لم يعد قادرآ على غسلها .
يتابع الحميري حديثه بحشرجة ” أجوع كثيراً خلال الليل، ولا أستطيع النوم أحياناً، صحتي تدهورت كثيراً خلال هذا العام، أحياناً جسدي يرتعش، ولا أقوى على الوقوف ، وليس هناك من ينقذني”
لدي أخ وحيد اسمه محمد قدم إلى مدينة تعز لزيارتي قبل 15 عاماَ،قال لي أن لديه ولدين وبنت ، وبعد فترة قصيرة فارق الحياة مصابآ بفيروس الكبد،وحالياَ لا أعلم شيئاَ عن شقيقاتي الأربع ، وكذلك أولاد أخي محمد الذين لم أتعرف عليهم من قبل.
وبلكنته الخاصة يقول الحميري ” أشتي الحرب تنتهي ،من أجل الشعب يعيش، وترجع حركة العمل ، واشتغل في بسطتي ،وأقدر أسافر إلى قريتي في وصاب”