المواطن/ ثقافة
أحمد مصطفى جابر
(تنويه: نعيد نشر هذا المقال عن الأداة الحزبية لما يثيره من أسئلة ويتناوله من قضايا هي بحاجة إلى وقفة ودراسة معمقة.. ولا يعني هذا أننا نوافق كل أو نرفض كل ما أورده الكاتب.. تبقى هذه وجهة نظر قابلة للنقاش)
تحتل فكرة الحزب مكانة مركزية في الفكر الماركسي، وقد صدرت ربما مجلدات حول هذا الموضوع، حول أهمية ومكانة ودور وضرورة الأحزاب في العملية الثورية، كما صدرت مؤلفات أخرى تحاول بيأس كما أزعم أن تدحض مقولة الحزب وتنفي مكانته، وتلقي بكل الأفكار والنظريات والتنظيرات حوله إلى سلة القمامة الفكرية التاريخية.
ولا يمكن إنكار أن جزءا كبيرا من عملية (الإنكار) التاريخية للحزب جاءت في الأصل ردا على الماركسية، التي اعتبرت الحزب هو الأداة الضرورية لتنظيم الطبقة المسحوقة والوصول بها إلى بر الأمان، وكان رد فعل معارضي الماركسية طبعا لابد وأن يحاول النيل من هذه الأداة ويثبت عدميتها. كما أنه لا يمكن إنكار أن الحملة هذه، فكريا واجتماعيا وسياسيا تغذت على سلوكيات الأحزاب الماركسية، أو غيرها، وأخطائها الكثيرة ، وانحرافاتها المشهودة، لتعمق نزعة رفض الأحزاب والتنكيل بها وخصوصا الماركسية واليسارية منها.
ولكن يظهر لنا التاريخ أيضا أن الحزب كفكرة بمعزل عن شكله وأسٍلوبه وآلياته وجد طريقه رغما، عن كل الأنظمة، فالجميع في النهاية يحتاجون إلى التنظيم، سواء كانوا بلاشفة أو أعضاء نازيين، أو حتى أعضاء في شاس. وقد أدركت البرجوازية، بنظرياتها العديدة أهمية الحزب ولكنها حولته من أداة تنظيم وصقل وقتال، إلى أداة ترويج وتنافس ضمن النظام السياسي القائم.
لقد اكتشف الجميع ماعدا بعض مراهقي السياسة على ما يبدو، أن التنظيم ضرورة حيوية لكل قضية، لحشد وانتقاء وتهذيب وصقل القوى التي هي الحوامل الاجتماعية للفكرة الأم أو الهدف السياسي.
في الحياة اليومية نواجه الكثير من نقد (الحزب) والتعالي عليه، والادعاء بعدميته وانعدام فائدته وانتهاء حياته، وانتفاء ضرورته التاريخية، وفي الحقيقة إن جزءا من هذه الادعاءات صحيح لكنه يتم توظيفه في المكان الخاطئ.
فالحزب ظاهرة اجتماعية في الأساس، والظواهر الاجتماعية كما نعلم ليست دائمة، وليست ثابتة، بل متقلبة ومتحولة، ولها خط حياة زمني، والضرورة التاريخية لأي حزب تنتفي بانتفاء فكرته الأصل أو هدفه الكبير.
ولكن الملاحظ أن النقد يخلط بين عجز الحزب وخواء قدرته وسقوط الحوامل الاجتماعية فيه وتخلفها عن حمله وبين ضرورته التاريخية المستمرة والقابلة أكثر للبقاء والاستمرار.
يهدف هذا النص إلى مجادلة عدد من الأساطير المحيطة بالأحزاب، وهي أساطير يتم استخدامها كأسلحة مزدوجة الحد، في نقد الأحزاب ودحضها أو في تقديسها وإحاطتها بشرنقة من اليقين لا يصل إليه شك.
1- الضرورة التاريخية:
ينشأ الحزب في لحظة تاريخية معينة، وهذا كما يلاحظ القارئ ليس حكم قيمة، فنشأة الحزب النازي جاءت في لحظة تاريخية تماما كما نشأة الحزب الشيوعي السوفييتي، كما الحزب الشيوعي الفلسطيني وكذا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وحركتا فتح وحماس.
ينشأ الحزب (التنظيم أو الحركة إن شئت) من ضرورة تاريخية، هذه الضرورة التاريخية لا تعني الايتاء بهذا الحزب الذي احتكر ضرورة اللحظة وأعاد رسمها على مقاسه، بشكله ومنهجه وحوامله الاجتماعية، بل نعني ضرورة تاريخية تحتم ظهور نقيض للسائد، ولكن شكل هذا النقيض تتحمل مسؤوليته مجموعة معقدة جدا من العوامل، ولا شك أن أهمها على الإطلاق الحوامل الاجتماعية التي تأخذ على عاتقها هذه المهمة.
بالتالي إن مقولة الضرورة التاريخية لا تعني أن وجود أحزاب ما ، كان مبررا تاريخيا، بل على العكس، تضج أدبيات جميع الأحزاب تقريبا بالحديث عن الضرورة التاريخية التي صاحبت ولادة هذا الحزب أو ذاك، وأنه كان نوع من الحتمية وسط ظروف سياسية أو اقتصادية ما، ولكن التاريخ أثبت أن الكثير من هذه الأحزاب إنما قامت في الواقع على جرثومة الانتهازية التي استغلت اللحظة التاريخية ولم تكن نتيجة لها أو مرتبطة بحتميتها.
إن الضرورة التاريخية للحزب، أي حزب لا تستقيم إلا بترابط جدلي لا فكاك منه بين عدد من العوامل، لعل من أهمها استجابته للمرحلة وطبيعتها استنادا لالتزامه بالمصلحة والمنفعة العامة وهذا يطرح أسئلة حول قدرة الحزب على قراءة عناصر الواقع وتصنيفها والاستجابة لها في مستوى السياسة والتنظيم.
وقبل المضي قدما يبرز سؤال عن دور الأيديولوجيا، والأيديولوجيا في هذا النص هي خلاصة البنية الفوقية التي تتجسد في النهاية في قوانين ومقولات ومحددات للتفكير، لاشك أن الأيديولوجيا إذا موجودة دائما حتى لو تم التنصل منها وادعت بعض الأحزاب أنها غير أيديولوجية، ولكن هذا الادعاء لا يستقيم مع مقولاتها ومع تحليل برامجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولكن التبرؤ من الأيديولوجيا مرده إلى تفسير خاطئ وطفولي لها، بربطها تلقائيا بالتعصب والتطرف والانغلاق، رغم أن هذه السمات تأتي من التفسير القاصر لعناصر الواقع ومن اتجاهات محمولة على الحوامل الاجتماعية بحد ذاتها، بارتباطها بظروف سياسية واجتماعية واقتصادية محددة.
لا يمكن أن يستقيم ادعاء الحزب إذا بوجود برنامج سياسي وبنية تنظيمية مع انكار الأيديولوجيا، لأن هذا يخرق قانونا أساسيا في الحركة التاريخية المستندة على ترابط البنية التحتية والفوقية ترابطا جدليا لم يدحضه أي تنظير حتى الآن.
تستند الضرورة التاريخية إذا كما ذكر أعلاه إلى الالتزام بالمصلحة العامة استنادا إلى قراءة عناصر الواقع، ولاشك أن ما يحرف الحقيقة عن مسارها في هذا السياق أمراض معروفة وتم التحذير منها كثيرا فمن الانتقائية للتعامل مع عناصر محددة واهمال أخرى إلى تحريف الوقائع والغايات، وتقزيم المصلحة العامة لتنتهي بمصلحة فرد، أو مجموعة، فعلى سبيل المثال لا يمكن اعتبار تسيد الطبقة العاملة وفلاحها ورفاهيتها هدفا نهائيا للاشتراكية، التي تدعي أصلا أنها تأتي لرفاه المجتمع ككل وتحقيق العدالة للكل.
كما أن تركيز جهود الدولة لرفاه الطبقة العليا واستبدادها بمقدرات المجتمع هو انحراف خطير عن فكرة المنفعة العامة كعنصر ناظم.
2- المنفعة العامة:
يزعم كل حزب إنه جاء لتقديم منفعة عامة، لصالح عموم العموم من الجماهير، صحيح أن الكثير من الأحزاب تتبلور وظيفتها الانتفاعية مع الزمن، وتتجه لخدمة شرائح معينة، ولكن المفارقة أنه حتى في هذه الحالة تزعم الأحزاب أن مصلحة الشريحة التي تخدمها هي المصلحة العامة وإنه عندما يسود “قانوننا” سيصبح الجميع سعداء. تتجاهل الأحزاب هنا تعقيدات السياق التاريخي للمجتمع وتنازع المعرفة والمصالح، التي تخلق قوانين اجتماعية لا تستطيع الأحزاب تجاوزها وإن ادعت، بدون أن تكون فعلا وقولا ممثلة لتقاطعاتها قادرة على صهر عناصرها معا.
ولكن لو كانت ادعاءاته بالكلية صحيحة لانتفت الحاجة إلى التنظيم والاصطفاف، أي لانتفت الحاجة إلى الحزب، واللافت أنه كلما وسع الحزب دائرة النفعية، كلما قلت أهميته وقيمته وتحول إلى غول يبتلع المجتمع والدولة ويبتلع غيره من الأحزاب الصغيرة المحيطة به في التحالف أو الجبهة الوطنية أو غيرها من المسميات والتي تقتات على بقاياه الجماهيرية.
على الأحزاب أن تتواضع في طموحاتها وفي ادعاءات التمثيل، وأن تدرك أنها لا تأتي بدين جديد، وإنها لا يمكن أن تكون ممثلة إلا لمصالح قطاع من الجمهور كبر أو صغر، وإن المصالح تبقى نسبية، وبالتالي فإن الهم الوطني والمصلحة الوطنية هي أمر تقاطعي ولا يمكن أن يكون مطلقا أو كليا.
يقود هذا إلى سقوط كل ادعاءات حصرية التمثيل، والأهم أنه يفرض القبول بالاختلاف والآخر، ويفتح الباب أمام التنافس المشروع، في ظل رقابة اجتماعية فاعلة، لا يجرؤ الحزب على اعتبار نفسه فوقها، ولعلها أحد أشرس الأمراض التي تواجه علاقة الحزب بالمجتمع، حيث ينتقل من (الخدمة) إلى (التسيد) ويصبح ما هو جيد للحزب جيد للمجتمع، وتصبح أولويات الحزب هي الأولويات التي يجري فرضها على المجتمع، وهنا تسقط أسطورة المنفعة العامة، وتتحول في الحقيقة إلى الخاص والحصري.
3- العنصر الطليعي:
لا تنفصل مقولة العنصر الطليعي عن الحوامل الاجتماعية التي تحمل فكرة الحزب وتكون هي مادة التنظيم والفعل في هذا الحزب. وبسبب مرض الفوقية، وهو مرض سياسي خطير يصيب الأحزاب، تتحول الحوامل الاجتماعية إلى نخبة قسرية في المجتمع، ولكن لنتأمل:
الحزب ظاهرة اجتماعية يستمد مادته الأساسية في التنظيم من المجتمع بالذات، وهو في سعيه لتجنيد العناصر الأكثر وعيا وطليعية، فإنه يفعل ذلك انطلاقا من فهمه الخاص ومعياره المحدد للوعي والطليعية، وبالتالي فالحزب عبر سنه قوانين معينة للعضوية في صفوفه إنما يسعى لتعزيز هيمنته ونفوذه، وفصل ما يعتقد أنه النخب في المجتمع عن المجتمع نفسه عن طريق خلق مجتمع بديل داخل الحزب.
ولكن معايير الأحزاب ليست بتلك العدالة، وهي تعاني من نقص فادح في النزاهة الأخلاقية والفكرية، حيث يتم دائما خفض المعيار، وخفض سقف التقييم، ليتلاءم مع حالة شعاراتية، دعائية لا أكثر، تسودها في عملية التنظيم عوامل المحسوبية، والاستزلام، و”التسحيج”، وهكذا تسقط الحوامل الاجتماعية في فخ ادعاء الطليعية بالذات، وتتحول النخبة إلى فئة معزولة عن مجتمعها غير قادرة على إعادة ربط نفسها بسياقه العام.
إن ادعاء الأحزاب بطليعية حواملها الاجتماعية، يكذبه فشلها المتواتر في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها، فمن الذي سينهض بهذه الأهداف، ومن الذي يعمل ميدانيا وسياسيا لتحقيقها؟
الاستطراد الرئيس في هذا السياق هو أن الحزب انعكاس للبيئة الاجتماعية، ورغم أن الحزب “التقدمي على الأقل” يأتي لينتشل المجتمع من تخلفه، إلا أن الظواهر الاجتماعية ومنها الأحزاب تكتسب سمات رئيسية من مجتمعها ومن البديهي أن المجتمع ينتج مفاهيم منسجمة مع إطاره العام ، وهذا ينطبق أيضا على الأعضاء، فالأعضاء هم أبناء المجتمع ومنه وانتقالهم إلى حزب طليعي لا يعني قطع أي مسافة معرفية أو قيمية، وهذا بالضرورة يخلق نوعا من صراع الأضداد: قيم وسلوكيات وطرق عيش وتواصل وتفكير، وهنا يأتي دوره التربوي، لتدريب أعضائه وتهيئتهم للمهمات المطلوبة ولما يقوله عن نفسه.
يصبح الخلل الرئيسي إذن في استهدافات التجنيد، والمناهج التربوية الإعدادية في هذه الأحزاب، وهنا تظهر إشكالية الحامل الاجتماعي الطليعي الذي يتم أسطرته باعتبارات لها علاقة بالعضوية الشكلية فقط، وما ينتج فوقية مرفوضة لا تستند إلى أي أسس صحيحة في العلاقة مع باقي مكونات المجتمع.
4- أسطورة المساواة بين الأعضاء أو خطورة الادعاء بالمساواة:
ترتبط أسطورة العضو الطليعي بعمق بفكرة تم التعامل معها باستسهال، فنتيجة لأسطرة العضو، تم التعامل مع الأعضاء الذين يتم تجنيدهم بنفس الطريقة والمنهاج ويخضعون لذات المسارات التنظيمية، باستسهال شديد، حيث ضربت ركيزة أساسية من ركائز علم النفس والاجتماع ونظريات بناء الكادر، وهي ركيزة الفروق الفردية، وبالتالي تم التحايل على أهم عنصر من عناصر الإنسانية: الاختلاف.
ونحن هنا لا نتحدث عن التفاوت العنصري، البغيض، بل عن الاختلاف في القدرات الفردية، واحتياجات التعلم، والقدرة القيادية، والذكاء والقدرة على/وإرادة التضحية من أجل الآخرين الذين يجب تحديدهم هنا بأنهم عموم الشعب، فالتضحية من أجل الأعضاء الآخرين في الحزب (الرفاق أو الأخوة) لا قيمة لها إن لم يكن هؤلاء يمثلون حوامل اجتماعية لفكرة المنفعة العامة للشعب ككل.
هذه الأسطورة التي تم ترسيخها فوتت الكثير وأهدرت عظيم الطاقات عبر “بوتقة الصهر” التي استخدمتها الأحزاب المنضبطة لنظام داخلي، إن صح التعبير في سبيل سحق الاختلافات والفروقات وصولا إلى تماثل أسطوري لا يستند إلى أي واقع ولا إلى أي حقيقة علمية.
5- المركزية الديمقراطية:
يوافق كاتب النص على الأهمية الوظيفية الحاسمة لمبدأ المركزية الديمقراطية، في حياة الأحزاب، خصوصا في وضعيات الأحزاب السياسية التي تعيش في تخوم حساسية أمنية بسبب طابع الكفاح الذي تخوضه، وضرورة التركيز في هذا السياق على حشد وتنظيم القوى دون تدخلات تنتج عن فوضى الديمقراطية البحتة التي توصم عادة بالليبرالية، وأنها تحمل أمراضها ومساوئها.
ولكن الاستطراد الأساسي، هنا أن هذا الربط بين المركزية والديمقراطية، جدليا، وهو، أعيد التأكيد صحيح من حيث المبدأ، تحول إلى نوع من زواج كاثوليكي حرم فيه الطلاق رغم أن أحد الزوجين مصاب بالجنون، بينما توفي الآخر إلى رحمة ربه.
يفترض بأبسط التعبيرات الرصينة الممكنة، أن يكون مبدأ المركزية الديمقراطية هو الضامن لأمرين اثنين بالنسبة للحزب الذي يتبناه: الأمر الأول، الوحدة الصلبة والمناعة التنظيمية، والاندماج والصهر، التي تضمن قوة الحزب وقدرته على الصمود وتوظيف طاقاته وعناصره نحو الهدف المحدد بدون تشويش وضياع قوة، كما القربة المثقبة.
الأمر الثاني، ضمان أقصى قدر من حرية التفكير والابداع والمبادرة والتعلم، ما يعني أيضا تعزيز الفكرة الأصلية التي يسعى الجميع وراءها وهي تعزيز وتعظيم قوة الحزب.
فكيف تحولت المركزية الديمقراطية من شعار ناظم للحزب ومبدأ مركزي أساسي، للحمته وتماسكه وانسياب مسيرته، إلى أسطورة بهذا المعنى اكتسبت معنى الجمود والعدمية وهدر الطاقات ومنع التقدم. كيف أصبحت المركزية الديمقراطية فرصة لاستلاب إرادة الحزب؟ كيف تحولت المركزية الديمقراطية الى سلاح استراتيجي للعزل والابعاد والهيمنة؟ وكيف صار حكم الاغلبية وسيلة استبداد وتطهير؟
أرى أن ثمة سببين لذلك يتجسدان في التعامل مع مبدأين من مبادئ نظام المركزية الديمقراطية، الأول هو تغول المركزية بشكل كبير بسبب نظام الحيازة والفوقية والاستئثار الذي تفرضه القيادة التي تنتقل من دورها الوظيفي كأداة تيسير للعمل وإدارة حكيمة رشيدة للكفاح، إلى طبقة فوقية مرتبطة بمصالح متشابكة ومتناقضة في آن: من الادعاء بالاستئثار بالحقيقة والحكمة الثورية “لا أحد يفهم أكثر من القيادة” إلى مغريات المنصب ومكاسب الكرسي. مع ما يترتب عليه هذا من أمراض مختلفة من رهاب التغيير والجديد، إلى بارانويا الضياع وفقدان البوصلة إذا صعدت عقول جديدة وإذا برزت أفكار جديدة معارضة أو مجادلة ممحصة ترفض الجمود والإذعان الفكري.
السبب الثاني مبدأ القيادة الجماعية، الذي أريد منه تعزيز الديمقراطية وتعزيز مبدأ منع الاستبداد والتفرد، لكنه غرق في المركزية، وتحول إلى آلية استئثار بالقرار إن لم يكن فرديا فإنه يتبع الإطار المتماسك المتشكل المحابي لعناصر تكوينه، تحولت القيادة الجماعية إلى منصة حصرية للاستقواء وتثبيت الامتيازات ضمن الجماعة المتحكمة، وهي امتيازات تأخذ أشكالا متعددة ومتناقضة، كما أنها خلقت هاجس التوازن، مما يجمد الوضع ويمنع الاقدام على التغيير.
6- أسطورة القرار المانع الجامع:
يعتقد الحزب، أنه وضع ما يكفيه من قواعد التفكير الناظمة في برنامجه ووثيقته التأسيسية أو المرجعية الوحيدة التي يتبعها، ما يجعل اتخاذ القرار مرتبطا بعدد من العناصر محددة، ومغلقة، تعكس نمطا قاصرا في طريقة إصدار القرار وطريقة الاعلان عنه ومتابعة تنفيذه.
ولكن هذا في الحقيقة ليس سوى أسطورة أخرى، لأن القرارات تتخذ على أرضية ثبات معرفي مشكوك فيه، إن وجدت المعرفة أصلا، وببحث جيد ممحص ومدقق. سنكتشف أن الخلفية المعرفية –المعلوماتية التي ترتكز عليها القرارات، ضعيفة وهشة، ما يحيلها إلى الحدس والمعارف القبلية واليقينيات التي لم يتم التدقيق بها.
فكرة القرار المانع الجامع والنهائي تتحول إلى أسطورة بغياب المراجعات النقدية المعمقة ليس للقرارات ونسبة تنفيذها بل بالطريقة التي اتخذت بها وصوت عليها بها، ما يجعلها بلا قيمة تحصيلية متراكمة أثناء تنفيذها هذا إذا لم تبق حبرا على ورق أصلا تحت شعار يستخدم في كل أنواع المراجعات بجملة غائمة ضبابية مفادها “متابعة تنفيذ القرارات”. هشاشة القاعدة المعرفية تحيل إلى اتخاذ قرارات –أيضا- مبنية على ردة الفعل على الطارئ الواقعي، فيجعلها تفتقد جدواها الاستراتيجية وهذا يمثل مقتلا للعلاقة الجدلية بين الاستراتيجي والتكتيكي.
ولن يتم الخروج من هذا المأزق إلا ببناء آليات علمية معرفية صحيحة تدرك أن القرار ليس مبادرة شفهية بل جزء من عملية النضال بحد ذاتها تتأسس على طبيعته وطريقة تنفيذه العملية التركيمية للتقدم في مسار تحقيق أهداف الحزب.
7- العلم والأيديولوجيا:
ما المحدد الأساسي في طريق تفكير الحزب، العلم أم الأيديولوجيا، المعرفة الإدراكية الدقيقة للواقع وظروفه وقوانينه ومرتكزات تغيره وثباته، أم المقولات الثابتة التي تصلح لكل زمان ومكان.
من المؤسف أن يقع الحزب في تناقض خطير، خصوصا الأحزاب التي تقول عن نفسها أنها تتبع النظرية الماركسية ال لينين ية، مع التذكير أن هذه النظرية تعرف، تماما بأنها علمية، إنما تستعيض عن العلم بمقولة الأيديولوجيا، بينما من المفترض أن وظيفة الأيديولوجيا هي ضبط المسار القيمي والأخلاقي للمعرفة العلمية وترشيد استخدامها.
وبالتالي لا يمكن أن تحل المقولة الفلسفية وهي للأسف يتم بناءها على وعي قبلي، شابه التراجع إن لم نقل التخلف، مكان القانون العلمي الذي سيبقى بحاجة للأيديولوجيا دون أن تطغى عليه وتسلبه استقلاليته القائمة على كونه خاضع دائما وأبدا لتغيرات عناصر الواقع.
عملية التكامل بين العلم والأيديولوجيا إذا اختلت، تحيل على انتاج معوق للمعرفة بالواقع وعناصر الصراع، وهي نقطة تفوق بها علينا عدونا بلا أدنى شك.
8- أسطورة القيادة التاريخية:
لكل زمن رجاله، وهذا ينطبق على المجتمعات الحضرية والقبائلية البدوية، والشركات، وأيضا الأحزاب والحركات السياسية. ولكن المقتل الذي تقع فيه جميع هذه التشكلات المجتمعية هو الاعتقاد باستمرارية الكفاءة والقدرة، وبالتالي استمرارية الصلاحية للقيادة.
ونقد التمسك بالقيادات التاريخية كمقولة، وسلوك تنظيمي، ليس له علاقة كما يرغب متصيد في الماء العكر، بتقدير واحترام هذه العناصر، بل بالمنفعة العامة التي تقتضي باستمرار ضخ دماء جديدة في محركات القوى التنظيمية، عقول تشبعت بأفكار الحاضر ومتغيراته، وأدوات قتاله وأساليبه، بل ولغته أيضا.
فمن كان شابا، ويتم التباهي أنه وصل إلى السلطة الحزبية أو غيرها في شبابه يخضع لنقطتين:
الأولى أن وصوله في ذلك الوقت لا يعني شيئا ايجابيا بالضرورة، لا يعني وعيا بدور الشباب بقدر ما أملته ظروف موضوعية شديدة الخصوصية، وربما كان ضرره حينها أكثر من نفعه والشواهد كثيرة، النقطة الثانية أن من كان شابا، لابد من الاعتراف أن التاريخ تجاوزه الآن، ويجب أن يخلي مكانه، من أجل قيادة تاريخية بديلة مستجيبة للحظة وقادرة على التصدي لمعضلات المستقبل.
وهنا استطراد لابد منه، فالقول بالإزاحة التاريخية للعناصر المستنفذة ليس عموميا – ولا نقول هذا من باب خلق امكانية الاستثناء- فهو ليس عموميا لجهة أن تقسيم الكوادر والكفاءات والقدرات ليس مرتبطا بالسن، ولكن نتحدث هنا عن العقلية الجديدة التي يصادف ضمن أحكام التاريخ إنها موجودة في جيل جديد، مع الاعتراف هنا أن هذا ليس عموميا أيضا، فكم من منتمين لهذا الجيل يحملون عقول العصور الوسطى، تماما كما نعرف عناصر من الحرس القديم تشعلهم جذوة الحياة والعطاء والابداع، لكننا هنا نتحدث عن المعايير العامة لهذا العنوان.
وللأسف، يتم استخدام أسطورة القيادة التاريخية، بشكل مرضي وانحرافي لضرب كل جديد ووأده والاطاحة به، تحت عنوان تمسك القديم بالمبادئ والمثل والثوابت وكأنهم هم من أوجدوها وكأنها خلقت لهم فقط، وفي قضيتنا الفلسطينية مثلا، وعلى مدار أكثر من مائة عام تتابعت العناصر القيادية والرئيسية في هذا النضال الطويل وحلت أجيال محل أجيال و فلسطين هي فلسطين والأحزاب هي هي، ولم يحدث أي ضرر بل بالعكس.
9- أسطورة التساقط وجذرية الانتماء:
استخدم الخروج من الأحزاب تاريخيا، كوسيلة ادعاء لهذه الأحزاب بالتطهر والمراجعة وتنظيم الصفوف والتخلص من الأعشاب الضارة، ولكن هذا لم يكن في المراجعة المدققة سوى محض هراء حزبي، لا يستقيم أمام الوقائع وصحة المعطيات.
فالتساقط وصف عمومي، أطلق على من يترك الحزب في مرحلة معينة، ونحن هنا من البديهي أننا لا نتحدث عن المنحرفين السياسيين أو الخونة أو المشبوهين ماليا وأمنيا، بل عن العضوية التي تتفلت من إطار الحزب لأسباب عجز الحزب عن الإحاطة بها ومعالجتها فاختار أبسط الطرق: الوصم بالتساقط.
التساقط بحد ذاتها كلمة عنجهية، وتعبير مرضي عن الاحساس بالتفوق والطليعية، ومنبع احساس بالراحة والأمان الأبدي للعضوية الحزبية في فقاعتها المعزولة عن التاريخ والوقائع اليومية.
فالناس تترك الأحزاب لأسباب لا تعد ولا تحصى، الاحساس باليأس، فقدان القيمة الايجابية، سقوط شرعية القيادة، النقد الجذري للبرنامج السياسي، عدم التأقلم مع السياسات والسلوكيات التنظيمية، أو الغضب بحد ذاته كمحرك من محركات الفاعلية الذاتية التاريخية.
وبالتالي، فإن هذا “التساقط” استخدم للأسف للتقليل من قيمة العضو التارك، والاعلان عن طرده من جنة الحزب وارفة الظلال، وحرمانه من أن بكون “طليعيا” وفردا من “النخبة المختارة”. وهذا عموما ما تكذبه الوقائع، لأن الفرد يستمر في الانجاز، والعطاء، وربما بإبداع أكثر بكثير لأنه تحرر من قيود السيطرة والضوابط الحزبية التي تكون في معظم الأوقات غير موضوعية وتفتقد لفضيلة الاعتراف بالاختلاف والتميز، وتعمل بعقلية تحويل الكل إلى رؤوس متشابهة، قطيع حزبي.
10- أسطورة المراجعة التاريخية:
هذه واحدة أخرى من معضلات أي حزب، ورغم أن المراجعات ضرورية وحاسمة في حياة كل حزب وكل تشكل اجتماعي منظم إلا أنها تم أسطرتها على مقاس القوى المسيطرة ففقدت معناها.
فالمراجعات افتقدت تاريخيا لأي أداة وظيفية تنفذ ما جاء فيها وتضعها على سكة التطبيق، ما حولها إلى نقد ذاتي قاصر ومزيف في اجتماع حزبي لمنظمة هامشية.
وبدون ترسيخ أدوات التنفيذ بصلاحيات كاملة لن يكون لجلسات طويلة من النقاش ورفع التوصيات أي قيمة.
وبالتأكيد إن إيكال هذه المهمة للهيئات المنتخبة الجديدة ليس إلا نوع من خداع الذات والآخرين، وتحايل على وقائع المراجعة ذاتها، فالمراجعات للأسف تحاكم هيئات ولا تحاكم بالتوازي أفرادا على أفعالهم وسلوكياتهم، ويصبح انتخاب فرد من هيئة قديمة في الهيئة الجديدة بفعل هذه الآلية أمرا طبيعيا ومقبولا، رغم أن هذا الفرد نفسه ربما تكون أفعاله قد قادت إلى مسار المراجعة والنقد بل وجلد الذات بمستوى الحزب في أحيان كثيرة.
ختاماً
لا يزعم هذا النص الاحاطة بمشكلات أو معضلات يعيشها الحزب، ناهيك عن أنه لا يقدم حلولا، وسيكون مبعث رضا أن ينال هذا ما يستحقه من نقاش، وفتح الأبواب على مصراعيها للجدل والمثاقفة في هذه العناوين التي ليست شاملة طبعا ولا تحيط بكل شيء. كل ما يطمح إليه النص أن يكون مدخلا لنقاش جدي يمكن ربما من إيجاد مسارات للحلول، تحول ما قلناه سابقا من مجرد أساطير إلى أسلحة فتاكة يمتلكها الحزب تقوم مسيرته وتشعل نيران مجده من جديد.