عيبان محمد السامعي
المواطن – خاص
الحلقة الأولى
استهلال:
لرائي اليمن الشاعر الكبير عبدالله البردوني (1929 – 1999م) وصفٌ أثيريٌّ لوضع اليمن أثناء التشطير, إذ يقول: “في اليمن توجد دولتان شطريتان بشعبٍ واحد”..!
لكنّ حرب 1994م الآثمة قلبتْ هذه المعادلة رأساً على عقب, فأصبحتْ اليمن “دولة واحدة” بـ”شعبين”..!
أما الحرب الجارية فقد وسّعت الهوّة أكثر, وصار البعض يتحدث عن “يمنات” و”شعوب يمنية”..! بل وهناك من يعيد تعريف نفسه بالتضاد مع اليمن, مُستجلباً هوية من الماضي: جنوبيّ, شماليّ, جنوب عربيّ, قحطانيّ, عدنانيّ, هاشميّ, شافعيّ, زيديّ… إلخ في مشهد سوريالي ــــ كوموتراجيدي يحزّ في النفس؛ إلا أنه يعكس عمق الأزمة التي أصابتْ الكيان الوطنيّ والهويّة الوطنيّة الجامعة.
في معمعان هذه الأزمة وتداعياتها الماحقة, تأتي فكرة الانتقال من الدولة البسيطة إلى الدولة الاتحاديّة (الفيدراليّة).
ونقررُ ابتداءً أن الفيدراليّة ليست تعويذة بمجرد تلاوتها تتحقق كل الأمانيّ, بل هي عنصر معالجة رئيسي ضمن دزينة (Package) عناصر أخرى تحتاجها اليمن ــــ بإلحاح ـــ لمعالجة أزماتها المتفاقمة والحفاظ على بقاء اليمن كياناً سياسياً موحداً.
من هنا تأتي أهمية هذه الورقة البحثية التي ننشرها على حلقات. فقد سلّطت الضوءَ على مفهوم الفيدرالية كفكرة وكنظام وجذورها في اليمن في سياق تاريخي يمتد منذ ما قبل الميلاد حتى الوقت الراهن.
وبرهنتْ الورقة أنّ فكرة “الفيدرالية” ليست دخيلة على اليمن ـــ كما يظن البعض خطأً ـــ فقد عرفتْ اليمن الفيدرالية بصيغ وأشكال مختلفة وفي مراحل وسياقات تاريخية عديدة, وهو ما سيتضح لاحقاً.
وتطرّقتْ الورقة باستفاضة إلى حيثيات تنبّي خيار الدولة الفيدرالية في الوقت الراهن. وبيّنت أفضليات هذا الخيار عن غيره من الخيارات المطروحة, لاسيما في ظل ما تعيشه البلاد من أوضاع الحرب المدمرة, وتصاعد المشاريع الطائفية والجهوية, وتصارع الأجندة الخارجية على أرض اليمن, الأمر الذي ضاعف من مخاطر تفكيك الدولة وتشظي المجتمع.
واختتمت الورقة بتوجيه نداء عاجل لكل الوطنيين بأن يسارعوا لإنقاذ بلدهم ومواجهة كل المشاريع التي تستهدف الكيان الوطني والنسيج الاجتماعي ووحدتهما.
أولاً: مفهوم الفيدراليّة (Federation):
الفيدرالية (Federation): لغةً: “مشتقة من الكلمة اللاتينية (Foedus) ومعناها الاتفاق أو المعاهدة أو التحالف أو النظام الاتحادي (Federalism).
والفيدرالي (Federal) يعني اتحادي أو مؤلف من اتحاد وحدات سياسية تتنازل عن سيادتها الفردية للسلطة المركزية ولكنها تحتفظ بسلطات حكومية محدودة, كما تعني الفيدرالية عملية توزيع السلطة بين حكومة مركزية وعدد من الوحدات الإقليمية من خلال اعتماد الصلاحيات المتفق عليها بالدستور.”[1]
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة فيدرالية معاصرة على مستوى العالم, حيث نشأت عام 1787م.[2]
وباتتْ “الفكرة الفيدرالية اليوم أكثر شعبية على المستوى الدولي من أي وقت مضى في التاريخ” [3]. فهناك حوالي 25 دولة فيدرالية في العالم تضم أكثر من 40% من مجموع سكان العالم.[4]
وتتكوّن الدولة الفيدرالية من حكومة اتحادية مركزية وحكومات محلية أخرى تتشكّل في الأقاليم الفيدرالية المكوّنة ضمن إطار دولة واحدة, وتتنظم وفقاً لدستور موحد ضامن لوحدة الدولة تحدد فيه صلاحيات الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم التي لا تتعارض مع الدستور الاتحادي.[5]
ويكتسبُ النظام الفيدرالي (أو الاتحادي) هذه الأهمية لما يتمتع به من مرونة واستجابة أكبر لحاجات المواطن ــــ الفرد, وقدرة على استيعاب الخصائص المميزة للمجتمعات المحلية, وإشراكها في الحياة العامة, وربطها بالعالم في ظل تأثير الثورة التكنولوجية الاتصالية, وشمول هذا التأثير أرجاء العالم.[6]
والدولةُ الفيدرالية (الاتحادية) ليست قالباً جاهزاً, يتم استدعاؤه وتطبيقه بصورة ميكانيكية, بل هي صيغة تتشكّل وفقاً لمقتضيات واقع كل بلد. فلا توجد تجربة فيدرالية في العالم نسخة كربونية عن تجربة أخرى, بل كل تجربة لها خصوصيتها وميزاتها النابعة من الظروف الخاصة.
نستنتج مما سبق, الآتي:
النظام الفيدراليّ ـــ من حيث أصل الفكرة ـــ إنّما هو تنظيم إداري للدولة اخترعته البشرية, مثله مثل التنظيمات الإدارية الدولتية الأخرى المُخترعة بشرياً.
ينشأ النظام الفيدرالي في أي بلد استجابةً لأسباب وعوامل موضوعية: سياسية أو اقتصادية أو ثقافية… إلخ. وغالباً ما تلجأ له الدول التي تعاني من مشكلات على صعيد الاندماج الوطني.
يتميّز النظام الفيدرالي عن غيره من النُظُم الأخرى بانطوائه على بُعد سياسي. فالسلطة تُوزّع بين مستويات إدارية متعددة, ولا يحتكرها المركز.
النظام الفيدرالي نمط من أنماط الوحدة, يهدف إلى توزيع السلطة والثروة بين وحدات إدارية وفقاً لدستور وقوانين واضحة ومحددة. وليس كما يظن البعض خطأً بأنه تقسيم للدولة, فالدولة الفيدرالية تظل دولة موحدة, بشعب واحد, وبجنسية واحدة, وبشخصية دولية واحدة.
تتحقق عملية الوحدة أو الاتحاد الفيدرالي بإحدى صيغتين:
الأولى: تتم بين عدة دول مستقلة اتفقت ـــ طوعياً ـــ على أن تتوّحد لاعتبارات سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك.
الصيغة الثانية: أن تقرر دولة ما إعادة صياغة نمط وحدتها بالانتقال من الدولة البسيطة إلى الدولة الفيدرالية؛ إما لمعالجة مشاكل قائمة أو رغبة في تحقيق مزيد من التطور والنماء, كما حدث في تجارب بعض الدول, ومنها: البرازيل, وبلجيكا, واسبانيا, وماليزيا, وسويسرا.
النظام الفيدرالي ليس قالباً ثابتاً جامداً, يناسب دول معينة ولا يناسب دول أخرى, كما يتوّهم البعض, بل نظام يتشكّل وفقاً لخصائص كل دولة وأوضاع كل مجتمع. فهناك دول فيدرالية كبيرة من حيث المساحة وعدد السكان, مثل: أمريكا, وروسيا وغيرهما. وفي المقابل هناك دول فيدرالية صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان, مثل: سويسرا, والإمارات العربية المتحدة.
كما أن هناك دول فيدرالية تتميز بالتعدد والتنوع المجتمعي وتضم أجناساً وأعراقاً واثنيات متعددة, مثل: الهند وماليزيا. وفي المقابل هناك دول فيدرالية لا توجد فيها أجناس وأعراق واثنيات متعددة, مثل: الإمارات, وألمانيا.
الهوامش:
[1] د. رضا الشمري, إمكانيات تطبيق النظام الفيدرالي في العراق, مجلة القادسية, بغداد, المجلد8, العدد4, 2009م, ص130.
[2] يُنظر: المرجع نفسه, ص131.
[3] رونالد ل. واتس, الأنظمة الفيدرالية, منتدى الاتحادات الفيدرالية, أوتاوا, 2006م, ص8.
[4] ينظر: المرجع نفسه, ص5.
[5] ينظر: د. رضا الشمري, ص 132
[6] راجع: رونالد ل. واتس, ص6.
يتبع….