المواطن/ ثقافة – محمد عبد الشفيع عيسى
مقدمات أولى: ما اليسار .. واليسار العربى (1 من 4)
أفكار من أجل اليسار، و دعوة إلى الحوار …؟ فما اليسار ؟
يأتى أصل اللفظة من الظرف المصاحب لتوابع الثورة الفرنسية الكبرى (1789) إذ شهدت قاعة البرلمان جلوس نواب الشعب الفرنسى – من التيار المسمى “جيروند” على جهة اليمين – وكانوا يميلون إلى “الإتجاه المحافظ” ، بينما كان النواب من التيار المسمى “اليعاقبة” يجلسون جهة اليسار، ويميلون إلى إحداث تغيرات راديكالية (جذرية) فى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية آئنذ .
فلذلك جرى العُرف اللغوى – التاريخى أوربياً ومن ثم عالمياً، على إطلاق اسم اليمين على أنصار “المحافظة” على الوضع القائم- وربما العودة “الرجعية” إلى أوضاع ما قبل الثورات؛ بينما سمّى أنصار التغيير (الثورى) باليسار .
جرت مياه كثيرة فى الأنهار خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فانضوى تحت لواء “اليسار” كثيرون من اتجاهات فكرية متعددة تنتمى عموماً إلى مدارس الفكر الاشتراكى بالمعنى العام والعريض بروافده المتنوعة ، ابتداء من “الماركسية” – نسبة إلى المفكر الألمانى كارل ماركس مؤلف الكتاب الموسوعى الأشهر فى تحليل النظام الرأسمالى الأوربى تحت عنوان “رأس المال”. ونشأت على إثر ذلك مجموعة من الأحزاب المسماه بالشيوعية ، انتساباً لما دعاه ماركس بالطور “الشيوعى” فى تطور المجتمع البشرى بعد مرحلة المجتمع الاشتراكى اللاحق لإنهيار الرأسمالية .
إلى جانب الماركسية ، مرّ اليسار فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بموجات أخرى من الفكر الاشتراكي مثل ما سمّى بالاشتراكية “الفابية” ، أى المطالبة بالتغيير التدريجى والجزئى – لا الجذرى الشامل – و “الاشتراكية “التعاونية”. وخارج الفكر الاشتراكي أو اليسار بمعناه المحدد، ظهر ما أطلق عليه الاتجاه (الإصلاحى) الذى يقبل ببقاء النظام الرأسمالى مع إجراء تعديلات (ترقيعية) عليه بين حين وآخر .
و قد بقيت السمة العامة لليسار دائما فى حيز “النقد ” للنظام الرأسمالى إما بهدف استبداله بنظام اجتماعى أرقى-وهذا هو اليسار “الراديكالي”، وإما بهدف تعديله بصورة أو أخرى في إطار موقع “الوسط” فيما بين اليمين واليسار، وخاصة ما يسمى بيسار الوسط.
أما اليمين فقد صار – من وجهة الفكر الاجتماعى والسياسى ذى الطابع “النقدى”- إسماً علماً على الاتجاه المحافظ، و كذا “الشق الرجعى” الأكثر التصاقا بمصالح الشرائح ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة الوطنية.
بقيام الاتحاد السوفيتى – إثر “الثورة البلشفية” بقيادة “لينين” عام 1917 – ولدت حاضنة كبرى لليسار الاشتراكى، فى شقة الماركسى المنادى بالتغيير الجذرى الشامل للأوضاع القائمة فى ظل المنظومة الرأسمالية . وتأكد ذلك من خلال واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية بانضواء أوربا الشرقية تحت الزعامة السوفيتية ، فقامت “الكتلة الشرقية” مقابل “الكتلة الغربية” بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية .
ولما سجلت الثورة الصينية بقيادة ماوتسي تونج-زعيم الحزب الشيوعي الصيني- نصرها النهائى فى ديسمبر 1949 تعاظمت قوة المنظومة الاشتراكية العالمية ، حتى وقع الانشقاق الصينى – السوفيتى ، اعتباراً من عام 1957 ، لأسباب ليس هنا محل ذكرها .
فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قامت حركة استقلالية فى عموم المستعمرات سعياً إلى التحرر السياسى فالاقتصادى، من الاستعمار – القديم والجديد . وشيئاً فشيئاً تبلورت حركة التحرر الوطنى والقومى فى القارات الثلاثة : آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ، تحت شعارات التنمية ، بدءً من حركة التضامن الآسيوى – الإفريقي منذ مؤتمر باندونج عام 1955 والاتجاه إلى “الحياد الإيجابى” بين الكتلتين الكبيرتين ، انتهاءً إلى “عدم الانحياز” كسياسة وحركة، و خاصة بعد مؤتمر بلغراد عام 1961 .
فى الإطار العام لحركة التحرر الوطنى العالمية بأفاقها الاستقلالية والتنموية ، تبلورت حركة التحرر العربى فى ساحة المشرق والمغرب ، خلال الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ، بمسعاها الاستقلالي وتوجهها الوحدوى و أفقها التنموى ، خاصة الاشتراكى .
وقد انتصرت مصر سياسيا،ً و صموداً عسكرياً إزاء العدوان الثلاثى فيما سمى حرب بورسعيد (أو السويس) عام 1956 ، على إثر تأميم قناة السويس ومقاومة “حلف بغداد” ومساندة ثورة الجزائر عسكرياً وسياسياً (1954-1962). وقامت الجمهورية العربية المتحدة بوحدة مصر وسوريا (1958-1961) وانتصرت مصر لثورة اليمن اعتباراً من عام 1962 وقامت من أجلها (حرب اليمن) حتى 1967.
فى ظل هذه المنجزات التحررية – الوحدوية ، حافظت “مصر الناصرية” على موقعها كقاعدة للحركة القومية العربية . وكانت هذه الحركة قد نشأت كمحض حركة سياسية بأفق وحدوى (مشرقى) أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لتتطور كحركة للتحرر القومى والوطنى بُعيْد الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين 1948 ، ثم لتستوى فى الخمسينات والستينات قوة عالمية صاعدة تحت لواءات الحرية والاشتراكية والوحدة ، بقاعدة من مصر وقيادة من جمال عبد الناصر ، فى غمار التجربة المصرية فى التخطيط والتحول الاشتراكى والتصنيع (حتى وفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر من عام 1970) .
فى إطار حركة القومية العربية – الثورية الجديدة هذه، تطور اليسار العربى ليأخذ مناحى متنوعة ، منها ما هو اشتراكى خالص (وفيه شق ماركسى) كالعديد من الأحزاب والحركات الاشتراكية و “الشيوعية”، ومنها ما هو قومى وحدوى بأفق اشتراكى عام (مثل أحزاب وتنظيمات متنوعة فى المشرق العربى خاصة) ، ومنها ما هو تحرري وطنى جذري بمضمون اشتراكى (كما فى الجزائر والمغرب) ، ومنه ما هو “التلخيص والمتلقى” حيث تآلفت عناصر اليسار العربى فكرياً وسياسياً من تكامل الشعارات الثلاثة ، على اختلاف ترتيبها : ما بين (الحرية والاشتراكية والوحدة) لدى عبد الناصر ، و (حرية – وحدة – اشتراكية) لدى “حزب البعث” بفرقه المتعددة ، و (حرية – وحدة – اشتراكية) كما نادى بعض المفكرين .
بعد عدوان نكسة 1967 انزوى اليسار العربى جانباً ، وبرز إلى الواجهة تيار “الإسلام السياسى” بفصائله وتياراته العديدة . و خلال عقود زمنية أربعة تقريباً، تربع على عرش “السلطة والمعارضة” فرسا الرهان العربى العليل : العسكريون ، والإسلاميون .
ومن قلب المعمان برز حصاد التجربة البائسة لنظم الحكم العربية ذات الجوهر التسلطى ، وذات منحى اقتصادى – اجتماعى (يمينى) محمول على أجنحة “الانفتاح” و”اقتصاديات السوق” والاعتماد الكامل على العالم الخارجى، و على التفاوت الطبقى الهائل فى توزيع الثروات والدخول.
آنئذ طفح الكيل وانفجر البركان (الثورى) عند خواتيم 2010 ومطالع 2011 – فى مصر وتونس واليمن بشكل محدد . ومن بين الركام صعد تيار الإسلام السياسى ، حتى بزر إلى قمة السلطة ، بالاحتكار أو بالمشاركة، ثم هوى النجم الساطع انطلاقاً من مصر فى منتصف العام 2013.
منذئذ تهيأت الفرصة لإعادة صعود اليسار العربى بديلاً مستطاعاً، ونجماً مؤهلاً للسطوع ، ولكن التقاء تيار المحافظة على الوضع القائم Status – quo مع تيار محاولة العودة إلى ما مضى ، جعل المحافظين والرجعيين على خط واحد مستقيم معاد فى جوهره لجدول أعمال اليسار ملخصاً فى الشعارات الأساسية لثورة يناير 2011 : حرية، تغيير ، عدالة اجتماعية.و كانت محصلة هذا الالتقاء بروز –أو “إعادة بروز”- التيار المسمى بالليبرالية الجديدة، النيو ليبرالية، كما يسميها البعض.
فكيف يمكن استنهاض اليسار ؟ ومن أين نبدأ فى “نقد الفكر” و “فكر النقد” ..؟
وإنّا لنأمل أن تثير هذه الكلمات اهتماماً مستحقاً ، وأن تفتح باباً واجباً للحوار بين المعنيين بالأمر من أهل اليسار فى مصرنا العربية وفى الوطن العربى الكبير .
وفى الجزء التالى عود على بدء ، للبحث فى علامات الطريق المفضى إلى “الليبرالية الجديدة” الراهنة فى مصر بالذات، ثم نعرج من بعد في جزء ثالث على نقد “الليبرالية الجديدة”، اننتهي إلى جزء رابع فيه عرض موجز لبنود برنامج اقتصادي مقترح لليسار العربي-بما فيه المصري- مقابل للبرنامج “النيو ليبرالي” المطروح.
الطريق الطويل إلى “الليبرالية الجديدة” في مصر
(2 من 4)
اليسار – بصفة عامة- وجهته الأساسية هى الاشتراكية بأطيافه المتنوعة ، وقلبها المركزى العدل التوزيعى للثروات والدخول تأسيساً على بناء قاعدة انتاجية قابلة للاستمرار زمنياً، و للتعمق موضوعياً من زاوية التصنيع والعلم والتكنولوجيا .
وفى كلمات أخرى، اليسار يتجه أساساً نحو تحقيق التنمية الشاملة ، مستخدما أدوات المنهجية التخطيطية دون إخلال بمقتضيات السوق إن وجدت .
أما اليمين فوجهته الأساسية إعطاء الأولوية لتطوير مصالح الأقلية الاجتماعية من الشرائح الاجتماعية ذات النصيب الأكبر من الثروة والدخل ، فى مواجهة الأغلبية الشاسعة الممثلة لنحو 80% من أبناء المجتمع .
وفى كلمات أخرى ، اليمين يتجه إلى تعزيز الأنشطة الاقتصادية الهامشية نسبياً ، مع الاعتماد على إطلاق قوى السوق – العرض والطلب – دون تدخل فعّال من جهات الدولة ، و ذلك سعياً إلى تعظيم عوائد أصحاب الملكية الخاصة الكبيرة و الرأسمالية من رجال المال والأعمال ، الكبار بصفة أساسية ، فى مواجهة العاملين والمنتجين المباشرين المجردين إلى حد كبير من تملك رأس المال المادى والمالى والمعرفى.
بعد تصفية التجربة التنموية المصرية –بقيادة عبد الناصر-و التى اكتسبت فى مراحلها الأخيرة ، أواسط الستينات، السمات الاشتراكية ، تبلورت منذ مطلع السبعينات، برعاية السادات ونظامه الانفتاحي التابع للرأسمالية الدولية، نخبة جديدة.
تلك النخبة، كانت تتعيش فئاتها المتنفذة من “رجال المال والأعمال الجدد” على الأنشطة الهامشية لتغذّى الانقسام الطبقى الحاد للمجتمع بين أقلية مؤسرة وأغلبية معسرة من جميع الوجوه، خلال حقبة “الانفتاح” في عقدى السبعينات والثمانينات ، ثم تحت ظلال ما سمّى (الإصلاح الاقتصادى) – وفق “وصفة صندوق النقد الدولى” – خلال عقد التسعينات .
من اجتماع “الانفتاح” و (الإصلاح) برزت في العقد الأول من القرن الحالى نخبة “الليبرالية الجدد” التي أمن أعضاؤها بقدسية الأسواق ، وباقتصاديات السوق – آليات العرض والطلب (العمياء) – كآلية منفردة لتسيير الحياة الاقتصادية وفق مصالح الأقلية من المجتمع، المشتغلة – كأولوية أولى – فى الأنشطة العامشية ذات العائد السريع المرتفع ، لاسيما العقارات والاتصالات ، بدلاً من الزراعة والصناعة التحويلية والخدمات العلمية – التكنولوجية المتطورة .
وكان أن دفعت نخبة الليبرالية الجديدة بوجوه رجالها إلى سدّة السلطة العليا منذ عام 2004 فيما سمّى بحكومة “رجال الأعمال” تحت رعاية “مشروع التوريث” المعروف، وكان ما كان من تزاوج “السلطة وعالم الأعمال، حتى واقعت الواقعة فى 25 يناير 2011 .
كانت سياسة “الليبراليين الجدد” خلال العشرية الأولى من هذا القرن نموذجاً نمطياً للسياسة الداعية إلى (انفتاح) الاقتصاد الداخلى على العالم الخارجى دون ضوابط ، فأصبح اقتصاداً قائماً على الاستيراد بصفة أساسية وشبه كلية – سواء فى ذلك استيراد السلع الغذائية والدوائية الأساسية أو استيراد السلع الإنتاجية من المستلزمات والمدخلات الوسيطة (كالكيماويات والمعادن الأساسية) ، ومن الآلات والمعدات وأدوات الورش .
وكان قد قام على “مدماك” الانفتاح –الذي بدأ اواسط السبعينات- مدماك آخر سُمّي من طرف دعاته ب(الإصلاح) و بدأ فى أول التسعينات وفق سياسات موجهة نحو ما أطلق عليه “التثبيت” أو “الاستقرار” عبر استهداف التضخم بواسطة خفض الإنفاق الاجتماعى على الدعم العينى والخدمات الأساسية ، من أجل تقليل عجز الموازنة العامة ومن ثم استبعاد الحاجة إلى التوسع فى التمويل التضخمى الذى يضخّ السيولة النقدية كرافعة لصعود المستوى العام للأسعار.
ولما أضيفت إلى سياسات “التثبيت” و استهداف التضخم ، سياسة للصرف هادفة إلى خفض قيمة العملة المحلية Devaluation مع إزالة الضوابط على حركة رؤوس الأموال نحو الخارج (Capital Controls)، فإن ذلك أدّى في نهاية الأمر–مع سياسة رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية -إلى تثبيط حركة الاستثمارات المحلية مع ما يتبع ذلك من ركود. هذا من جهة أولى . و من جهة ثانية، فقد انتقل أثر التضخم الدولى إلى الداخل عبر آليات الاستيراد الحر واقتصاديات السوق الطليقة فى الداخل.
و كان أن هزمت سياسة (الإصلاح) نفسها ، إذ بدأت باستهداف التضخم فإذا بها تنتهى إلى الوقوع فى “جب الركود” ممتزجاً بالتضخم المستورد ، وهذه هى حالة السياسات التى تهزم نفسها بنفسها Self-defeating .
وكان هذا أوضح ما يمكن فى مطلع القرن الحادى والعشرين، خلال فترة 2000-2003، مع بروز سمات الكساد المقيم .
فوق المدماك المزدوج للانفتاح والإصلاح ، وجدت السياسة الاقتصادية نفسها وقد انجرفت تلقائياً إلى المزيد من خدمة مصالح الأقلية فى وجه مصلحة الأغلبية تحت راية “الليبرالية الجديدة”، وفق ما أشرنا إليه آنفا، مما مهدّ السبيل سالكاً إلى حدث الثورة العظيم في الخامس والعشرين من يناير 2011.
ومن عجائب الدهر أن فشل “الليبرالية الجديدة” – خلال فترة محاولة توريث السلطة (2004-2010)- لم يشكل رادعاً كافياً للنخبة المصرية المتنفّذة بعد الثورة بما يحول دون العودة إلى السياسات الفاشلة نفسها بعد حين . غير أن هذا حديث آخر ، نعود إليه فى مقالنا التالى ، للسؤال عن البديل من واقع بنات أفكار اليسار .
“أفكار اقتصادية من أجل اليسار
و دعوة إلى الحوار”
نحو نقد ” الليبرالية الجديدة
(3 من 4)
“الليبرالية الجديدة” هى نوع من أنواع السياسات الاقتصادية ، أخذت قوة دفعها على مستوى العالم الرأسمالى الصناعى المتقدم كنوع من رد الفعل إزاء أزمة “التضخم الركودى” التى ضربت الاقتصادات الغربية فى منتصف السبعينات من القرن المنصرم ، إثر فوْرة أسعار النفط التى أعقبت حرب أكتوبر (تشرين) 1973 .
قبل ذلك بنحو أربعين عاماً ، وفى غمار أزمة الكساد الكبير فى أوروبا وأمريكا (1929-33) ظهر مذهب اقتصادى داخل الفكر الرأسمالى الدولى ، دشّنه عالم الاقتصاد البريطانى “كينز”، يقوم على تدخل الدولة فى الاقتصاد ، لمقاومة الكساد والبطالة عبر رفع مستوى الادخار المنتج والاستثمار والتشغيل، انطلاقا من أن الاقتصاد القائم على المشروعات الخاصة غير قادر في حد ذاته عن تحقيق التوازن الكلّي بصفة تلقائية عند مستوى “التشغيل الكامل” أو قريبا منه، وفق ما دأبت على تأكيده الأدبيات الرأسمالية التقليدية. و اعتبر كينز-في المقابل- أن زيادة معدل التوظف من خلال الإنفاق العام للدولة والتوسع فى المشروعات العامة، داخل الاقتصاد المصاب بالركود ، كفيل بحقن هذا الاقتصاد بجرعات منشطة تبدأ من زيادة الدخول الفردية والأجور ، تعقبها زيادة فى النفقات الاستهلاكية ؛ وعن طريق ما أسماه (المضاعف) تحدث زيادات متتالية فى مستويات الدخول حتى تصل إلى زيادة نهائية فى مستوى الدخل الوطنى تبلغ أضعاف الزيادة الأولية فى الإنفاق العام الاستهلاكى العام والخاص.
اعتباراً من أوائل الثلاثينات وجدت أفكار كينز سبيلها إلى التطبيق العملى فى أوروبا الولايات المتحدة، وخاصة فى هذه الأخيرة من خلال ما سمى “السياسة الاقتصادية الجديدة” New Deal التى اتبعها الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت .
ومنذئذ –أواسط الثلاثينات – وحتى أواسط السبعينات ، على مدى أربعين عاماً ، جرى اتباع سياسات اقتصادية فى الدول الصناعية الغربية قائمة على ما يطلق عليه (سياسات دولة الرفاهة) من خلال قيام جهاز الدولة بدور رائد فى مضمار حفز الزيادة فى دخول الأفراد ومستويات معيشتهم ، إبتداء من رفع معدلات التشغيل وزيادة مستويات الأجور وبناء نظم فعالة للتأمين الاجتماعى والصحى والتأمين ضد البطالة ودعم الغذاء الأساسى والقطاع الزراعى ، إلى غير ذلك من سياسات توسعية نشطة فى المجال الاقتصادى ، إنتاجاً وتشغيلا واستثماراً واستهلاكاً وتصديراً .
فى منتصف السبعينات ، حدث الانقلاب الكبير فى محاور السياسات الاقتصادية للدول الصناعية ، فى محاولة للاستجابة لتحديات أزمة التضخم الركودى ، كما أشرنا.
وقد حدث (الانقلاب ) على سياسات الرفاهة الاجتماعية التى قادتها “الدولة” فى العالم الرأسمالى- وعلى أنقاض المذهب “الكينزى” نهض مذهب آخر من باطن الفكر الرأسمالى نفسه لينتشر باسم “الليبرالية الجديدة” ، على سبيل التناظر مع “الليبرالية القديمة” التى سبقت ظهور الكينزية عبر منحنيات مختلفة ، وتعرجات حادة ، منذ ظهور كتاب آدم سميث عام 1776 بعنوان (بحث فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم) .
تمثل (الليبرالية الجديدة) امتداداً من نوع ما لليبرالية القديمة ، من حيث الاستناد إلى الركائز الأساسية للرأسمالية دون (شوائب) كينزية، بالعودة إلى آليات السوق الحرة ، وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص (الكبير غالباً) على حساب الدور التنظيمى القوى للدولة وعلى حساب الطبقات العاملة ، تشغيلاِ ودخولاً وإنفاقاً ورفاهاً .
كان (نبىّ) الليبرالية الجديدة البازغة هو (ميلتون فريد مان) المفكر الاقتصادى الأمريكى الحائز على جائزة نوبل فى علم الاقتصاد ، والذى دشّن مذهباً معارضاً للكينزية وقاد تياراً اقتصادياً كاملاً سمّى تيار (النقديين الجدد) كامتداد للنظرية الأصلية أو (الأصولية) التي يمثلها الفكر الاقتصادي التقليدي- أو “الكلاسيكي”- في شقّه النقودي، القائل بأن كمية النقود تحدد مستوى النمو الاقتصادي.
قوام المذهب الليبرالى الجديد ، وفق النسخة المستحدثة لفريدمان ما يلى :
إن سبب التضخم هو زيادة الإنفاق الاجتماعى فى الموازنة العامة للدولة ، والتي تؤدى إلى “العجز” فى الموازنة ، أو تؤدي إلى تفاقمه، ، ومن ثم تضطر الحكومات – هكذا يقول – إلى محاولة سد العجز عن طريق وسائل التمويل التضخمى ، وفى طليعتها إصدار النقود دون غطاء مناسب (= الإصدار الجديد) وزيادة حجم الدين الحكومى وديون الهيئات العامة عبر الاقتراض العام، فيرتفع مستوى السيولة النقدية ، مما يؤدى إلى تصاعد المستوى العام للأسعار .
هذه السلسلة الفكرية المترابطة تعلق الجرس فى رقبة القطّ – الذى هو هنا : الفئات محدودة الدخل والطبقات العاملة ، باعتبار أن تكريس شطر مؤثر من إنفاق الدولة لرفاهية هذه الفئات هو الذى يسبب الاختلال فى التوازنات النقدية والمالية للاقتصاد .
لم يهتم ميلتون فريدمان بزيادة إنفاق الحكومات الغربية على التسليح والعسكرة وعلى الحروب العدوانية والتدخل فى شئون الدولة الساعية إلى التنمية والاستقلال، وحبك المؤامرات الاستخبارية وانتهاج سبيل المغامرة فى السياسات الخارجية – ولم يهتم ميلوتن فريدمان بضرورة زيادة معدلات الضريبة على الشرائح الدخلية العليا للأفراد و أرباح الشركات ـ بل دعا وأضرابه إلى خفض الضرائب على تلك الشرائح من الدخول والأرباح فيما يسمى Tax cuts و من ثم أُطِلق العنان للسياسات الاقتصادية القائمة على عسكرة الطلب الحكومى و الطابع الاحتكارى للعرض ، عبر صيغة “احتكار القلّة” من الشركات العملاقة عابرة الجنسيات .
لم يهتم النقديون الجدد والليبراليون الجدد بهذا كله ، وكان ديْدنهم إلقاء اللوم والتبعة على الفقراء وعلى الدور الاجتماعى للدولة الذى يؤدى – فى عرفهم – إلى تصاعد الديون العامة الداخلية والخارجية .
وجرياً على سنّة الليبراليين الجدد ، وخاصة لمواجهة أزمات الديون فى العالم النامى – التى انفجرت إثر انخفاض أسعار البترول والمواد الأولية مرة أخرى ، وخاصة منذ 1986 -كان المنهج المتبع هو إجبار الدول النامية المدينة على اتباع سياسات تقشفية هدفها “اعتصار” جهد الفئات الفقيرة ، وتوجيه الفائض الاقتصادى الوطنى لسداد الديون الخارجية ، بعد مراكمة الأرباح للفئات الغنية، وتحويل الشطر الأكبر من الدخل القومى إليها فى صورة أرباح وفوائد وريوع مختلفة .
كانت أكبر أزمة للديون فى العالم الثالث هى أزمة ديون المكسيك التى وصلت عام 1985 إلى حد تعذر سداد الديون وطلب تأجيل السداد (موراتوريوم Moratorium) – و كان أن اهتبلت الدول الصناعية الرأسمالية الفرصة ، فأوكلت إلى “صندوق النقد الدولى” مهمة تدبير حزم تمويلية إنقاذية أو إسعافية للدول المدينة ، مقابل التزامها بتطبيق نهج اقتصادى ليبرالى جديد ، نقدى – جديد ، قائم على ضمان سداد الديون ، وضمان عدم التوسع فى طلب المعونة من الخارج . وكان المفتاح لهذه السياسات هو “التقشف العام”، عبر خفض نفقات الدولة الاجتماعية على الطبقات المنتجة المسماة بالفقيرة . وسميت البرامج المتفق عليها مع الصندوق- وفق ذلك – ببرامج التثبيت أو الاستقرار أو التصحيح الهيكلى أو التكيف ، أو ما شئت من الأسماء المرادفة، ولكن جوهرها واحد : التقشف ، الانحياز للسوق الحرة عبر استبعاد دور الدولة والنهج التخطيطى، و من خلال محاباة أصحاب الأعمال الكبيرة عبر خفض مستويات الضرائب و تقديم التسييرات والحوافز الضريبية على اختلافها ، وإطلاق حرية أصحاب الأعمال وأرباب المهن العليا فى فرض الأسعار وعوائد الخدمة دون ضوابط حقيقية ، وإطلاق العنان للشركات الكبيرة ذات الموقع الاحتكارى فى الأسواق (احتكارات القلة oligopoly) …. كل ذلك بالإضافة إلى “اعتصار” جهد الفقراء ، من خلال خفض مخصصات الدعم السلعى الموجّه للفئات الفقيرة والطبقات المتوسطة ، وزيادة الضرائب “غير المباشرة” المفروضة على المبيعات والاستهلاك والقيمة المضافة، والتى يقع عبؤها الرئيسى على المستهلك النهائى .. بالإضافة إلى الخفض المبرمج – أو عدم التوسع المبرمج – فى مخصصات الخدمات الاجتماعية بما يتكافأ مع أهميتها المركزية فى سلّة الحاجات الاجتماعية الأساسية للناس، وخاصة التعليم والصحة .
بذلك يتحقق فى عرفهم مواجهة العجز فى الموازنة العامة للدولة ، وتكوين احتياطى نقدى ولو بالاقتراض الأجنبى ، مما يؤدى – كما يقولون – إلى الاستقرار الاقتصادى أو (التثبيت) ومن ثم ضمان النمو الاقتصادى فى الأجل الطويل .
نقل “صندوق النقد الدولى” حزم السياسات المذكورة باسم “برامج التكيف الهيكلى خلال الثمانينات والتسعينات وأوائل القرن الجارية ، من بلد نام إلى بلد آخر ، مقابل تدبير حزم الإقراض أو مقابل إعطاء “صك حسن السلوك” المشجع للمقرضين الكبار فى العالم الصناعى الرأسمالى المتقدم اقتصادياً .
ومن دولة نامية إلى أخرى جرت سياسات “الصندوق” على نفس النسق، تحت راية تحقيق التوازنات النقدية – المالية للاقتصاد – أى “التوازن الإسمى” باختصار Nominal . والرافعة الأساسية لسلة السياسات هذه فى المجال النقدى هى رفع أسعار الفائدة ، وخفض سعر صرف العملة المحلية . ويؤدى رفع أسعار الفائدة – فيما يذكرون – إلى جذب المدخرات نحو الجهاز المصرفى وسوق المال من جهة أولى ، وتقليل الإنفاق الاستثمارى “غير الضرورى” من جهة أخرى .
أما خفض قيمة العملة المحلية فيؤدى – فى عُرفهم – إلى خفض أسعار المنتجات المحلية حال تصديرها ، مما يزيد التصدير بالتالى ، ورفع أسعار السلع والخدمات الأجنبية حال استيرادها ، مما يشجع على خفض الواردات ، ويؤدّي بالتالى إلى نوع من التوازن فى الميزان التجارى وميزان المدفوعات إلى حد كبير .
أما السياسات المالية – الليبرالية الجديدة – فقوامها تقليص إنفاق الحكومة الاجتماعى – على الدعم الأساسي و التعليم والصحة – مقابل انخفاض مستويات ومعدلات الضريبة المفروضة على الشرائح الدخلية العليا .
هذا البناء الفكرى الضخم ، الذى تم نقله إلى مصرنا العزيزة مؤخراً ، سواء بدفع من (الصندوق) أو بغير دفع منه، يتجاهل الأخطاء الكامنة فى هيكل هذا البناء . فالتوازن الإسمى أو النقدى يتم في هذه الحالة– إذا كان يتم أصلاً – دون اهتمام موازٍ بالتوازن للاقتصاد العينى أو الحقيقى ، أي التوازن القائم على التوسع المبرمج فى القطاعات الإنتاجية الأعلى قدره على توليد الناتج بكفاءة في الأجل الطويل، وهى الصناعة التحويلية والزراعة الأساسية والخدمات القائمة على العلم والتكنولوجيا .
لذلك تتم السياسات النقدية والمالية فى بيئة غير منتجة وغير إنتاجية . فارتفاع أسعار الفئدة وتراكم المداخرات لدى الجهاز المصرفى فى صورة ودائع لأجل ، يحد من استثمارها المنتج لأشخاص القطاعين العام والخاص الراغبيين والقادرين على الإنتاج وفق خطة قومية شاملة مفترضة .
وإن خفض قيمة العملة المحلية يؤدى إلى رفع أسعار الواردات – فى الاقتصاد المصري المعتمد بدرجة عالية على الواردات من جميع الأنواع : استهلاكية ووسيطة واستثمارية – مما يؤدى إلى اتصال موجات متتابعة من ارتفاعات الأسعار . ومع انسحاب الدولة من الوظيفة الاقتصادية – الاجتماعية ، تصعد الأسعار انطلاقاً من ارتفاع هوامش الأرباح لاحتكارات القلة ، دون ضوابط حقيقية لتحديد تلك الهوامش من قبل الدولة ، مما يضع العبء الرئيسى على المستهلك النهائى – من بين كاسبى الأجور والمرتبات غير القادرين بطبيعة الحال على تعويض أثر التضخم على مستويات دخولهم الحقيقية .
وفي كلمة، يؤدى خفض قيمة العملة المحلية إلى رفع قيم الواردات دون أن يؤدى إلى تطوير الصارات ، نظراً لضيق قاعدة الأنشطة الاجتماعية ، ولغياب خطة اقتصادية فعالة تحدد أولويات صارمة للإنتاج بدء من تصنيع المنتجات التى تحل محل الواردات تدريجياً على مدى زمني معقول .
أما خلل هيكل الضريبة لمصلحة الأغنياء ، وتقليص أو إلغاء الدعم الموجه للأغلبية الاجتماعية (80% أو 90% من السكان) فإنه يؤدى إلى تفاوت اجتماعي واسع النطاق عميق .
و أما إطلاق آليات السوق الحرة دون تدخل فعال من الدولة ، وفتح باب الخصخصة ، مرة أخرى ، بدلاً من توسيع قاعدة النشاط المنتج للقطاع العام فإنه يؤدى إلى تعميق الركود .
و بذلك يتآلف التضخم السعرى مع الركود الإنتاجى لتقوم “حلقة خبيثة” و “دائرة شريرة” لا فكاك منها إلا بانتهاج سياسة نقيضة لليبرالية الجديدة، وفق برنامج متناسق لليسار. وهذا ما نشير إليه بإيجاز في مقالنا القادم- و هو الأخير في هذه السلسلة.
برنامج اقتصادي لليسار مقابل البرنامج “النيو ليبرالي”
(4 من 4)
” لا يفلّ الحديد إلا الحديد” .. هكذا قالوا ، ونحن نقول .. وإن حديد “الليبرالية الجديدة” القاسى لا يفلّه إلا حديد اليسار ، فما حديد أو جديد لليسار ؟ وهل من بنود فارقة وعلامات فاصلة فى برنامج لليسار، يصلح رداً مقترحاً لمواجهة إخفاق الليبرالية الجديدة ، تلك التي انتشرت كانتشار النار في الهشيم مؤخرا في مصر، سواء كسياسة أو كتيار فكرى، يشتغلان على مستوى التطبيق وعلى صعيد تكوينات النخبة المثقفة وخاصة منها تلك العاملة فى مهنة البحث الاقتصادى والتعليم الجامعى سواء فى جامعات العاصمة – حكومية أو خاصة – أو جامعات “الأقاليم” …؟
فيما يلى نرصد أهم النقاط التى يمكن إثارتها فى هذا الشأن :
1- استعادة معالم الوظيفة الاقتصادية – الاجتماعية للدولة فى مجال “الحنوّ” على أبناء الغالبية الاجتماعية للشعب، من خلال العمل – عبر الزمن – على تلبية الحاجات الاجتماعية الأساسية، المادية منها والروحية ، حاجات الغذاء والسكن والكساء والدواء ، والتعليم والصحة والنقل والاتصال الإبداعى .
2- استعادة جوهر المنهجية التخطيطية ، عبر تخطيط الإنتاج والاستثمار والتشغيل والتجارة الخارجية، لمقابلة متطلبات التحول الهيكلى للاقتصاد باتجاه صبرورة اقتصاد مصر “اقتصاداً صناعياً جديداً” ثم “اقتصاداً مصنّعاً حديثاً” ، فى إطار الثورة العلمية – التكنولوجية المتجددة .
3- الانطلاق من الإرث “الكارثى” للتخفيض الدراماتيكى لقيمة العملة المحلية منذ مطلع نوفمبر 2016 ، سعيا إلى تشجيع التحول نحو بناء قطاعات إنتاجية وتصنيعية بديلة للواردات ، اعتماداً على ارتفاع تكلفة الاستيراد مقابل تكلفة المنتجات المحلية . ويتطلب ذلك-من بين أمور أخرى- سياسة متناسقة نشطة لدعم مستلزمات الإنتاج الزراعى والصناعى و الخدمى .
4- يلاحظ ضعف الإمكانيات التصديرية ، رغم انخفاض أسعارها المحتملة فى الخارج بفعل خفض سعر صرف العملة المحلية مقومة بالعملات الأجنبية ، وذلك بالنظر إلى انخفاض مرونة الجهاز الإنتاجى المحلى . لذلك يتعين أن تقوم الدولة بإعطاء الأولوية لتوسيع طاقات الإنتاج المحلى ، بما فيه القطاعات التى يمكن توجيهها للتصدير ، بدلاً من التفكير فى مجرد خفض قيمة العملة Devaluation.
5- ضرورة العمل على توسيع الطاقات الإنتاجية لمشروعات القطاع العام إلى جانب تشجيع القطاع الخاص الصغير والمتوسط فى القطاعات الأعلى إنتاجية ، وفق المخطط الإنتاجى والصناعى الذى تضعه الدولة وتصمّم من أجله حوافز إيجابية وسلبية لتوجيه المنظِّمين صوب الأولويات المحدّدة، من حيث الحوافز الإيجابية والسلبية، ومنها ما هو ضريبى أو ائتمانى ونقدى وصرفى ومصرفى ..الخ .
كل ذلك، بدلاً من صرف الجهد الذى تبذله حالياً الدولة النيوليبرالية (بالحوافز الضريبية المتنوعة و”الشباك الواحد”) للعمل من أجل مجىء المستثمر الذى لا يجىء..!! فيما قد يشبه ما أشار إليه صمويل بيكيت فى مسرحيته الشهيرة (فى انتظار جودو) ..!
6- وضع سياسة ضرائبية كفؤة من خلال تطبيق التصاعد الفعال لشرائح الضريبة ، بما يكفل الحصول على حق المجتمع من رجال المال والأعمال والمهن الحرة العليا ، واستخدام حصيلةالضريبة (المباشرة) لتمويل الدعم والخدمات الأساسية لغالبية المجتمع المنتجة .
… إن المنطلقات الأساسية لبنود هذا البرنامج اليسارى واضحة تماماً : أولها تحقيق التحول الهيكلى للاقتصاد باتجاه تنمية القطاعات الإنتاجية، وخاصة الصناعات التحويلية ، وبصفة أخص الصناعات المنتجة للسلع والخدمات التى تحل محل الواردات عبر عمل مرحلىّ ممنهج .
لا بأس لدينا من العمل على تحقيق التوازن للموازنة العامة للدولة ، ولكن ليس من خلال اعتصار جهد الغالبية الاجتماعية ، وإنما بالتوزيع العادل للأعباء، وفق تفاوت القدرات، بما يحقق الإنصاف equity .
ثانية المنطلقات، العمل على التقدم من الإنصاف – على طريق العدالة الاجتماعيةSocial Justice بشكل تدريجى – عن طريق مزج الإنصاف بالمساواة equality بمعنى تكافؤ الفرص ، وخاصة الفرص التعليمية والتدريبية والصحية، لاكتساب رأس المال المعرفى المؤهل لكسب الدخول المنتجة .
ثالثة المنطلقات، التحول عن أوهام ما يسمى “الاقتصاد الحر” و “السوق الحرة” إلى الاقتصاد الممنهج أو الموجّه، المخطط تخطيطاً قومياً شاملاً ، يراعى منطق قوى السوق مع توظيفها لخدمة الأولويات التنموية بمعناها الشامل . يدخل فى ذلك ضرورة تدخل الدولة بوضع سياسات فعالة وأدوات تنفيذية لنظم التأمين الاجتماعى والصحى ، و “التعليم للجميع” ، و “إدارة المواهب” للمتفوقين . كما يدخل فى ذلك تحديد هوامش الأرباح والنفقات وضبط المستويات السعرية وفق المعايير الصحيحة، بصرامة لا تخطئها العين البصيرة.
#عن الحوار المتمدن.