تقرير – احمد حسين
رغم أنه يسود اعتقاد في اليمن بأن القبيلة وسيلة من وسائل تفاقم الصراع الذي تشهده البلاد واستفحاله إلا أن الحالات المختلفة لادوار القبيلة في الصراع الحالي يشير إلى أنها وسيلة لصناعة السلام في اليمن.
حيث قامت القبائل في محافظات مختلفة من اليمن بأدوار مساهمة في تخفيف وتسوية حدة الاقتتال الداخلي الذي تشهده البلاد وحالت دون استفحاله وكنت محافظات مختلفة من أن تتحول الى ساحة للصراع بين أطراف محلية أو خارجية.
وتستند القبائل اليمنية في القيام بأدوارها في صناعة السلام إلى ” العرف القبلي” وهو مجموعة من القواعد العرفية الشفهية المتوارثة والملزمة التي تتخذ أساس في حل او تسوية اي نزاع.
العرف القبلي بدل القانون
تغيّرات كثيرة أحدثتها حرب اليمن الأخيرة في المجتمع. ولعلّ بعضها تَمثّل في العودة إلى تقاليد وعادات قبلية بهدف تنظيم شؤون الحياة في ظلّ غياب المؤسسات الرسمية المعنيّة بتسيير أمور المواطنين.
عوامل مختلفة أدّت إلى اندثار حكم القانون في المجتمع اليمني لا سيّما مع تصاعد الحرب الدائرة في البلاد. ومن تلك العوامل اختفاء العناصر الأمنية في أقسام الشرطة وضعف أداء النيابات العامة والمحاكم في معظم المناطق اليمنية من جرّاء الحرب وانقطاع الرواتب منذ شهور عدّة.
وأمام عجز الدولة عن أداء وظيفتها لبسط سلطة القانون في مناطق اليمن أضحى العرف القبلي أفضل الطرق لفضّ نزاعات المجتمع اليمني في المدن والمناطق الحضرية بعدما كانت المجتمعات البدوية والريفية هي التي تحافظ على الاستقرار والتماسك المجتمعي داخلها باعتمادها الأعراف القبلية كمرجع لحلّ الخلافات.
عبد السلام عبيد من أبناء المدن الحضرية، كان واحداً من المنتقدين الذين يعدّون القبائل سبباً من أسباب عدّة تؤدّي إلى عدم الامتثال للقانون، لكنّ الحرب بحسب ما يقول “أرغمت كثيرين من سكان تلك المدن على اللجوء إلى الطريقة القبلية في فضّ النزاعات، نظراً إلى فعاليتها في هذه البيئة”.
يضيف عبيد أنّ “مجتمعات ريفية كثيرة في الشمال، مثل محافظات عمران وحجة وريف صنعاء ما زالت تتمتّع باستقرار أمني على الرغم من غياب الدولة أو السلطات القانونية إلى حدّ كبير، فيما نسب التعليم والتنمية فيها متدنية”.
ويشير إلى أنّ “المشهد الأمني يختلف تماماً في مدن تفتقر إلى بسط سلطة القانون مثل صنعاء وعدن وإب وتعز حيث تتكرر الجرائم الأمنية أو الخلافات المجتمعية بصورة متزايدة. ويرى بعض الأطراف في غياب القانون وتوقف عمل المحاكم فرصة لممارسة الأعمال الاستغلالية والفوضوية من أجل الحصول على مكاسب غير شرعية”.
القبائل تفصل في قضايا جسيمة
تجمّع سكان قرية حجر بمحافظة الضالع جنوبي صنعاء ليشهدوا اللحظات الأخيرة في حياة نبيل مقبل الذي بدا مغمض العينين وبجسد نصف عار وهو يرجوهم أن يعطوه بعض الوقت ليوصي لأطفاله، وبعد ذلك تلا أحدهم الحكم الصادر بحقه “القصاص والتطهير من ذنب القتل العمد”.
وكان نبيل قتل ابن عمه صدام فتم اقتياده مكبلا إلى مكان الحادث وعلى مرأى الجميع شحن شقيق صدام الأصغر سلاحه الكلاشينكوف وأطلق على نبيل النار ليرديه قتيلا، فردد الجميع مباشرة “عفا الله عما سلف”.
وكان أحد شيوخ القبائل يرفع صوته وهو يشيد بأسرة القاتل والقتيل -اللتين حضرتا مشهد الإعدام– معتبرا أنهما “لم يسمحا للشيطان أن يفرّق بين الأسرة، وتقبلا الحكم، ولم تعد أي أسرة تحمل دما للأخرى، بالدين وعرف القبيلة”.
نزع الحادث فتيل التوتر بين الأسرتين، وحال دون أن تنشب بينهما قضية ثأر لكنها واحدة من المرات النادرة أن يفصل حكم قبلي في قضية جسيمة عوضا عن القانون.
ويقول عقيد اليافعي وهو شيخ قبلي في المنطقة إن الحكم صدر بعد تشاور بين القبيلة، وحكم القتل العمد هو القصاص.
ويضيف “القاتل اعترف بقتل ابن عمه عمدا وكان هناك شهود القضية واضحة ورغم ذلك كانت هناك مساع لتسليم القاتل إلى القانون لكن أسرة القتيل رفضت وقبلت بالتحكيم القبلي”.
وتقبلت الأسرتان الحكم عن طيب خاطر ودون تردد، وبحسب اليافعي فإن “العرف القبلي يحتّم عليك بالقبول بالحكم من المُحَكم مهما كان، لأي قضية”.
ويعزو اليافعي ما يحدث إلى أن الدولة لم تعد موجودة والمحاكم مغلقة وفي حال سُلّم القاتل للسلطات فإن تطبيق الحكم لن يتم إلا بعد سنوات مما سيغيظ أسرة القتيل وربما يكون ذلك سببا في اندلاع قضية ثأر لن تنتهي، فلذلك كان القصاص أولى.
عقوبات قبلية لتسوية النزاع
ولا توجد حصيلة محددة بعدد القضايا التي جرى حلها بالعرف (الحكم) القبلي وغالبا ما تكون فيه العقوبة معنوية تتمثل في ذهاب الجاني وأسرته وقبيلته إلى منزل وأسرة وقبيلة المجني عليه وذبح الماشية والاعتذار أمام الملأ وطلب الصفح.
كما أنه يُحتم على المجني عليه أن يقبل الاعتذار ومن يرفض ذلك فإنه يرتكب عيبا بحقه وحق أسرته وقبيلته.
ولا يتوقف الأمر عند العقوبة المعنوية فقط بل إن بعض القضايا تُرفق إليها التعويض المادي “الغرم” وتتم تلك المراسم عقب إشهار لأبناء القبيلتين وفي بعض الأحيان يخالط ذلك إطلاق للنار.
وتَعزّز حضور حكم القبيلة على القانون مع تشجيع السلطات لهذه الحلول، حتى وصل الأمر إلى أنه في حال قدم طرفان إيضاحات بأن قضيتهما -التي تكون أمام القانون والقضاء- جرى حلها قبليا، فإن السلطات تسلّم بذلك وتغلق ملف القضية.
كما أن جماعة الحوثيين -التي تسيطر على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات، و95% من مسلحيها رجال قبائل- تشجع على الحلول القبلية.
ويقول جميل علي (تاجر ذهب) من صنعاء إنه سحب قضيته من المحكمة التجارية، ولجأ للتحكيم القبلي في قضية إفلاس، وخلال أسبوع واحد حلت القضية التي بقت في المحكمة منذ 2014.
القبيلة تتوسط في الإفراج عن أسرى الحرب
تعقد ملف الأسرى أمام مبعوثيْ الأمم المتحدة في المشاورات ولم يحرزا فيه أي تقدم بينما أدت الوساطات القبلية للإفراج المتبادل عن المئات من الأسرى.
ويقول أستاذ علم الاجتماع والسياسة محمود إبراهيم إن القبيلة ساهمت في الإفراج عن الأسرى بينما فشلت الأمم المتحدة.
ويضيف أن الجهود القبلية مهمة في عملية السلام ومهمة فض النزاعات بالمجتمعات الأهلية لا يقتصر على دور المجتمع الدولي فقط بل إن أعراف المجتمع المحلي والقبيلة تسهم بشكل أكبر.
وأكد أن هناك أعرافا في الحرب -وإن كانت بعض الأطراف قد انتهكتها- لا يمكن لأي مسلح أو جندي أن يفتش أو يعتقل امرأة، و”هذه القيم قلما تجدها في مجتمع آخر”.
القبيلة تحمي أرضها من التحول إلى ساحة صراع
محافظة المهرة شرق اليمن تشكل ساحة صراع على النفوذ بين السعودية من جهة وعُمان من جهة أخرى بيد أن مدوّنة السلوك القبلية المهرية أتاحت لهذه المنطقة البقاء في منأى عن أسوأ التجاوزات التي رافقت الصراع،
تستند محافظة المهرة على مدوّنة سلوك قَبَلية لتفادي أسوأ تجاوزات الحرب الأهلية اليمنية. وتقدم بذلك نموذجًا محليًا لاحتواء النزاعات يمكن أن تستفيد منه مناطق يمنية أخرى.
ونجح المهريون عبر التقيّد بمدوّنة سلوكهم طيلة الحرب الأهلية اليمنية الراهنة في تفادي خوض صراع متواصل بين بعضهم البعض، على الرغم من انقسام المجتمع المهري بين موالين لعُمان من جهة، وموالين للسعودية من جهة أخرى. كذلك، ساعدت مدوّنة السلوك القبائل المهرية في تقويض قدرة المملكة على فرض إرادتها على المنطقة في أعقاب التدخّل العسكري السعودي.
اندلعت الحرب الأهلية اليمنية في العام 2014، ثم تفاقمت لاحقًا بفعل التدخل العسكري بقيادة السعودية في العام 2015. اجتاحت هذه الحرب أجزاء كبيرة من البلاد ومزّقت نسيجها الاجتماعي. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت الحرب قد أسفرت عن مقتل 100000 شخص في أرجاء البلاد كافة، وعن تشريد أكثر من 3.6 ملايين شخص.1 ومع أن محافظة المهرة بعيدة كلياً عن المناطق التي تشهد مواجهات مسلحة، إلا أنها وجدت نفسها في مركز صراع إقليمي وُجد نتيجة مزيج من ديناميكيات الصراع والمنافسة الإقليمية بين السعودية وكلٍّ من إيران وعُمان. مع ذلك، يبدو الصراع في المهرة صراعاً مسيطراً عليه من قبل المجتمع المهري، على الرغم من التباين الكبير بين الفاعلين الإقليميين، إذ أن ضحايا هذا الصراع منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2017 تشكّل رقماً لا يذكر إذا ما قورن بالمناطق الأخرى. إضافة إلى ذلك، ما زالت المهرة وجهة لعشرات الآلاف من الأشخاص الذين شُرِّدوا من مناطق أخرى في البلاد.2
ففي العام 2017 ادّعى السعوديون أن حدود عُمان مع منطقة المهرة تُستخدم لتسهّل على إيران عملية تسليح المتمردين الحوثيين وعبر إرسال قوات عسكرية إلى المهرة في مسعى إلى وقف تهريب السلاح للحوثيين، بحسب الرواية السعودية، لكن يبدو أن هناك أهداف أخرى تكمن في التصدّي للنفوذ العُماني المتنامي في المحافظة، وتأمين منفذ استراتيجي على بحر العرب، بحسب الطموح السعودي القديم في المنطقة.
اندلعت أعمال عنف متفرّقة بسبب التدخل السعودي في المهرة – بين القوات السعودية والقبائل المهرية، وبين قبائل مختلفة على حدٍّ سواء.
وشهدت المحافظة حادثتين خطيرتين ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2018، قُتل اثنان من أبناء قبيلة مناوئة للسعودية على أيدي قوات مدعومة سعودياً في منطقة أنفاق فرتك في حصوين بينما في نيسان/أبريل 2019 حدث اشتباك بين عناصر من الحراسة الأمنية التابعة لمحافظ المهرة المدعوم من السعودية، وبين رجال قبائل يمنيين عند حاجز نصبه القبليون في منطقة تُدعى اللبيب، ما أسفر عن وقوع عدد من الإصابات لدى الجانبين.
أدّت أحداث عنيفة مشابهة في مناطق يمنية أخرى إلى معارك توالت فصولاً لكن في المهرة تم تفادي مفاعيل هذه الحوادث، كما تم احتواء العديد من التوترات من خلال معالجتها قبل تطورها إلى أعمال عنف وذلك عبر الالتزام بمدوّنة سلوك عرفية قبلية غير مكتوبة تضمن عدم التصعيد لضمان عدم انزلاق الأحداث إلى اشتباكات عنيفة أو مواجهات مسلّحة مديدة وواسعة النطاق.
وبطريقة مشابهة للتجربة المهرية قامت القبائل في مختلف المحافظات اليمنية بأدوار تتشابه أو تختلف لكن يجمعها كلها المساهمة في صناعة السلام في بلد تمزقه الحرب منذ سبع سنوات.
“تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR – صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا”.