كتاب المواطن – روجيه جارودي
هذا لا يعني أننا نضع الاشتراكية والرأسمالية في عِدل واحد. فالاشتراكية لم تتلبس هذا الشكل العسفي إلا لأسباب تاريخية: فقد قامت أول ما قامت في أقطار متخلفة، فأفضى تداخل مشكلات بناء الاشتراكية ومشكلات النضال ضد التخلف إلى ضرورة اللحاق بالأقطار الرأسمالية وتجاوزها (أي الإصابة بعدوى دينها وديدنها: الفاعلية الاقتصادية، وإنزال الوسائل منزلة الغايات) وكذلك إلى ضرورة مركزة مشتطة الموارد والسلطة.
بيد أن هذا التشوه المزدوج: غياب الغائية الانسانية واستمرار الثنائية العسفية، إذا كان يصم الرأسمالية في ماهيتها فإنه لا يصم الاشتراكية إلا في انحرافاتها.
على أن الشيء الأساسي هو أن الثورة اليوم لا يمكن أن تتشبه بثورات الماضي. فنموذجها ما يزال ينتظر من يبدعه.
إن على ثورة اليوم، كثورات الأمس، أن تتصدى للبنى كما قلنا لتوِّنا. ولكن البنية الجديدة المطلوب خلقها للتصدي الجذري للبنى الثنائية للمجتمعات والثورات الماضية التي لم تمنح قط الجماهير القدرة على التقرير بنفسها، هي بنية اشتراكية التسيير الذاتي. وهذا ليس من المنظور البرودوني عن مجتمع حرفي، وإنما من منظور مجتمع يتميز بانقلاب علمي ونقي كبير لم تتم السيطرة عليه بعد.
ونحن نعلم أن من الناس من لا تزال أنظاره مشدودة إلى الماضي، فلا يسعه أن يتصور التسيير الذاتي إلا من منظار برودون مثلما لا يسعه أن يتصور الاشتراكية إلا من منظار ستالين.
مع أن الحقيقة التي تواجهنا حقيقة في منتهى البساطة، حقيقة باتت ملكا للجميع: «إن نحرر الشغيلة سيكون من صنع الشغيلة أنفسهم»، هذا ما كان يقوله ماركس. وبعده بقرن واحد قال يوحنا الثالث والعشرون: «إن المعنيين يجب أن يكونوا الفَعّلة الرئيسيين لارتقائهم».
حقيقة بسيطة يسهل فهمها كما يسهل فهم حقيقة أن التسيير الذاتي لا يمكن أن يتحقق في ظل النظام الرأسمالي، وإنما فقط في ظل النظام الاشتراكي.
وما التسيير الذاتي إلا طريقة أخرى لتسمية الاشتراكية التي لا يمكن أن تصنع من أجل الشعب، والتي ليست هي باشتراكية إلا لأن الشعب، على العكس، هو الذي يصنعها.
لا «من الخارج»، ولا «من فوق»، وإنما من الداخل ومن تحت.
بهذا، وبهذا وحده يمكن التغلب على الثنائية التي يتسم بها كل مجتمع طبقي.
إن ثورة على مستوى مشكلات عصرنا لا يمكن أن تكتفي بالقيام بأول اختيار للغايات منذ عصر النهضة والقطيعة مع قدسية النظام.
بل ينبغي أيضا أن يكون هذا الاختيار من صنع الجميع، لا من صنع بعض القادة «من فوق».
والحال أن الانقلاب الذي طرأ على عالمنا منذ خمسة أو ستة آلاف سنة مع اكتشاف الزراعة والاستقرار في الأرض والذي كان البشير بميلاد الحضارة قد أدى إلى تكوين مجتمعات ثنائية: الانفصال الطبقي على الصعيد الاجتماعي بين الذين يملكون الأرض وبين الذين يعملون فيها، بين السادة وبين العبيد، وانقسام العمل إلى عمل فكري وعمل يدوي على الصعيد التقني، وثنائية الحكام والمحكومين على الصعيد السياسي مع نشوء الدولة والبيروقراطية، وعلى الصعيد الروحي أخيراً ثنائية الأديان والفلسفات المبررة لجميع هذه الثنائيات.
إن البيروقراطية، التي عاصر ميلادها ميلاد الحضارة، سمة مميزة لكل مجتمع ثنائي.
وهي بحكم كونها «تعبيراً تأسيسياً عن استلاب المصلحة الخاصة والمصلحة العامة» كما كتب ماركس، تُلبِس جميع أشكال السيطرة وجها غفلاً. فهي من الثنائية السياسية أسسها وقاعدتها.
والبيروقراطية من وجهة النظر التقنية شكل تنظيمي يرمي إلى تعقيل النشاطات الجماعية عن طريق مركزة أجهزة التقرير وتحويلها إلى أجهزة متسلسلة، مرتبيه، لا شخصية.
أما من وجهة النظر السياسية فالبيروقراطية نظام الحكم يتسم بثلاث سمات رئيسية: جهاز دولة مؤلف من موظفين معينين وغير منتخبين، وخضوع سلك الموظفين هذا، المنظم تنظيماً هرمياً، لسلطة عليا مستقلة بذاتها، وإقصاء المواطنين بفعل هذا النمط من الحكم عن كل مشاركة وإخضاعهم على العكس للرقابة والدمج.
ولا يتغير شيء في هذا الطابع الثنائي، المستلب، القمعي، للمجتمعات البيروقراطية إذا كان النظام السياسي ملكية مؤسسة على الحق الإلهي أو ملكية انتخابية أو ديموقراطية تمثيلية.
ولئن كان الأباطرة الرومان يعينون بالانتخاب، فإن هذا لا يخفف شيئا من استبداد النظام. فانتخاب المستبد ليس معياراً للديموقراطية. وفي فرنسا ظل الجهاز البيروقراطي المركزي التابع لملكية لويس الرابع عشر المطلقة، والذي أعاد بناءه الثوريون اليعاقبة ثم الامبراطور نابليون تبعاً للحاجات الاقتصادية، ظل الإطار الإداري الأساسي للجمهوريات الأربع التي تعاقبت بعد ذلك، وهو ما يزال محتفظاً إلى اليوم، في عام 1972، بسماته الأساسية.
وقد تعزز هذا النظام البيروقراطي في أوروبا بأسرها، في القرن التاسع عشر بوجه خاص، تحت تأثير مزدوج: تكوين الوحدات القومية الذي كان يقتضي مجهوداً من الدمج السياسي (ومثاله البيروقراطية البروسية)، والثورة الصناعية التي كانت تقتضي مجهوداً من التنظيم الاقتصادي (وكان نموذجه الأمد طويل نظام تايلور).
إن هذين النمطين النموذجيين من البيروقراطية قد أوحيا لماكس ويبر بنظريته التقريظية التي تؤكد أن نجاح النموذج البيروقراطي كشكل مشروع وعقلاني من التنظيم والرقابة أمر لا يقل حتمية عن حتمية نجاح الآلات المخبرية والانتاج المسلسل.
ويخيل إليّ أن التشاؤم لدى تلامذة ويبر المتأخرين الذين يرون أن استفحال أمر البيروقراطية باطراد هو قدرنا ومصيرنا يصدر عن منبعين: الخلط بين البيروقراطية التقنوقراطية، وتصور بالٍ فات أوانه عن التقنوقراطية.
صحيح أن البيروقراطية والتقنوقراطية كانتا تشدان كل منهما من أزر الأخرى في القرن التاسع عشر الذي كان في أوروبا القرن العظيم للتصنيع والقرن العظيم في أن للوحدات القومية، وصحيح أنهما كانتا تنزعان إلى التداخل والاندماج لتحقيق الاندماج القومي والعقلانية الاقتصادية معاً.
ولكن الانقلاب العلمي والتقني الكبير في النصف الثاني من القرن العشرين قلب معطيات المشكلة.
ومن الأمثلة الفصيحة الدلالة على هذا التحول مثاله التبدلات التي يفرضها استعمال الناظمة الآلية في تنظيم مشروع من المشاريع أو إدارة من الإدارات.
كيف تفرض المعالجة الآلية للإعلام أشكالاً جديدة من التعاون؟
إن كل نشاط إنساني جماعي سواء كان مشروعاً صناعياً أم تجارياً أم جيشاً أم إدارة، هو جملة من إجراءات روتينية ومن قرارات.
والروتين عمل ينفذ تبعاً لتعليمات لا تترك شيئاً للمصادفة. أما القرار فيأتي دوره حين ينكشف عجز التعليمات وعدم فاعليتها في الإطار المحدد: إما حين تبرز حالة غير متوقعة وإما حين تنطرح مشكلة جديدة. وعليه فإن القرار مبادرة تزيد من كمية إعلام النظام، في حين أن الروتين يتواجد عندما لا ينطوي تنفيذه على أي غموض أو إبهام تنبغي إزالته.
وما دامت الآلة تحل محل الانسان في جميع العمليات الروتينية، وما دام الانسان لا يتدخل إلا حيثما كان هناك قرار ينبغي اتخاذه، أي معلومات إضافية ينبغي ضمها لتحقيق المشروع الاجمالي، فإن المشروع في جملته، ومن حيث أنه سلسلة من القرارات والاجراءات الروتينية، بشكل منظومة من دوائر إعلامية ناظمة لجماعة من أناس يتبع كل منهم الآخر ويرتبط به. وهذه الشبكة من المبادلات وهذه الشبكة من التبعيات تشكل نموذجاً تنظيمياً يتعارض جذري التعارض مع النموذج البيروقراطي: إن استخدام الناظمة الآلية يوجه إصبع الاتهام إلى مبدأ التسلسل البيروقراطي الوحيد الاتجاه إذ يستبدله بشبكة من التبعيات المتبادلة.
ولما كان دور الناظمة الآلية أن تتولج بسرعة أكبر وبلا أخطاء بالإجراءات الروتينية وأن تجمع وتغربل بفعالية أكبر المتراكم من المعلومات، فإن الإيقاع الذي ستتخذ به القرارات سيتسارع. إن الناظمة الآلية ترغم إرغاماً على اتخاذ القرارات بسرعة أكبر. وهذا يستوجب لا مركزة القرارات، وإلا تراكمت الملفات في الادارة العامة متى ما طبعت هذه الأخيرة بأن تحتفظ لنفسها باحتكار القرارات. وعلى نقيض الهرم البيروقراطي حيث يأتي كل شيء من فوق، ينبغي هنا إزالة الصفة المركزية عن قرارات العمل اليومي والرقابة والتنظيم، وبكلمة واحدة عن جميع القرارات التكتيكية حيث لا تحتفظ الادارة العامة لنفسها إلا با قرارات الاستراتيجية.
وهذا يقتضي تغيّراً عميقاً في علاقات السلطة. فنظراً إلى أن الظاهرتين كلتيهما – تزايد الترابط والتبعية المتبادلة وتسارع وتيرة القرارات – تتآزران وتتضامنان، فلا مفر من إزالة الصفة المركزية عنهما ومن تنظيم مشاركة أوسع نطاقا، أي لا مفر من مكافحة النموذج البيروقراطي وبناه وطرائقه في سبيل المزيد من الفعالية.
وليست الناظمة الآلية محض عامل من عوامل لا مركزة القرارات: فالقرارات في جملتها عبارة عن كل تترابط عناصره جميعاً. وعليه فإن اتخاذ القرارات يتطلب تداولا وتنسيقاً. وبيت القصيد ههنا شيء يختلف كل الاختلاف عن تفويض السلطة: فعلى الرئيس أن يشرح أسباب اختياره، وعلى المقرر التابع أن بطلع رئيسه على نتائج القرارات التي يتخذها، وعلى الجوانب غير السوية التي يلاحظها، وعلى التغيرات التي يستشفها.
هذا الحوار هو بمثابة تصحيح ارتجاعي للنظام.
أي أن النموذج التنظيمي الميكانيكي المميز للتصور البيروقراطي حيث يأتي كل قرار من الأعلى ويترجَّع انعكاسه من منفِّذ إلى منفَّذ، يحل محله نموذج سبراني يتطلب الحوار والتداول والتنسيق والمشاركة.
هذه التقنيات وهذه المقتضيات الجديدة تتنافى والنمط البيروقراطي في التسيير والحكم لأنها تتطلب:
– تدريباً إضافياً دائماً لمتابعة التطور العلمي والتقني، مع ما يترتب على ذلك من تبدلات في الملاكات وفي مفهوم ((الملاك)) بالذات.
– مسؤوليات محددة بوضوح، لأن استعمل الناظمة الآلية لا يسمح بإلقاء تبعة الخطأ على منفذ من المنفذين.
– العمل التعاوني المتضافر ضد السلطان المطلق للرئيس.
– الحوار والتداول والمشاركة، بل إن المعارضة بالذات تصبح ضرورة تقنية.
– القرار الذي يكف أكثر فأكثر عن أن يكون تحكيمياً ليصبح أكثر فأكثر محركاً ومحرضاً.
***
هذا لا يعني البتة أن هذه التقنيات الجديدة وهذه المقتضيات الجديدة متحررنا آلياً من ربقة البيروقراطية والثنائية.
فمشكلتنا المركزية هي على وجه التحديد اقتراح المبادرات الضرورية حتى تأخذ إمكانيات أنسنه العلاقات البشرية طابعاً راهناً.
إن كل شيء يجب أن يعاد من جديد في معترك النضال ضد الثنائيات: تنظيمنا الاقتصادي والاجتماعي، مؤسساتنا السياسية، ثقافتنا. علينا أن نحدد علاقاتنا بالطبيعة، بالعلم وبالتقنيات، بالناس الآخرين وبالثقافات. علينا أن نصنع كل شيء من جديد، بتناولنا المشكلات في الوضع الذي تركها عليه البشر الذين خرجوا لتوهم من عصر الحجر المصقول.
وليس هناك من فلسفة جاهزة لطرح المشكلة على هذا النطاق، وليس هناك من مذهب أو حزب أو نموذج من مجتمعات قائمة.
والثورة لن تكون على القدر الضروري من السعة والشمول إلا إذا حلت هاتين المشكلتين:
– اكتشاف الغايات الجديدة من خلال إعادة النظر في الغائيات المتجشَّمة منذ عصر النهضة.
– وضع نهاية للثنائية المميزة لجميع المجتمعات منذ نهاية العصر الحجري الأخير وميلاد الحضارة.
***
سوف نبين أن التسيير الذاتي لا يمثل مرحلة تم تجاوزها من التطور الاقتصادي، بل يمثل على النقيض من ذلك الشكل الوحيد لاشتراكية قادرة على تلبية المتطلبات الراهنة للتحول الناجم عن الناظمة الآلية والتأليل والتخطيط الديموقراطي.
وهذا الكتاب يسعى إلى أن يثبت إمكانية هذه الاشتراكية التي تقوم على التسيير الذاتي والتي تطرح مشكلات اشد تعقيداً من ثورات الماضي ومن التحويلات المألوفة للسلطة.
وفي طليعة هذه المشكلات الصعوبة الجسيمة التالية: إن الاشتراكية والحرية غير الممنوحتين «من الخارج» والمنتزعتين من قبل الشعب انتزاعاً، تقتضيان أن يترافق تغيير البنى بتغيير للضمائر.
2 – تغيير للضمائر: لا «دين أفيون للشعب» ولا إلحاد وضعي:
إن تغيير البنى على النحو الذي عرضناه لا يرمي لا الى تحويل السلطة فحسب ولا إلى تغيير نظام الملكية فحسب. وإنما يتطلع أولا وأخيرا الى إرساء أسس اشتراكية تسييريه ذاتية، أي اشتراكية تهدف إلى وضع نهاية لجميع الثنائيات والى خلق الشروط التي تتيح لكل فرد أن يقرر بنفسه الغايات وأن يسيِّر المجتمع ذاتياً، بدلاً من أن يستلب سلطته ويقوضها.
هذه المشاركة الشخصية لكل فرد تستوجب ضمناً وحكماً تغيير الضمائر: فمن المستحيل تحقيق التسيير الذاتي والجماهير راضية بأن تتلقى غاياتها «من الخارج»، مستكينة إلى ما تكابد من تحكم وتلاعب بها.
وتغيير الضمائر هذا ليس مقدمة لتغيير البني ولا نتيجة آلية له.
فنحن لسنا بملزمين بأن نظل أسرى الإحراج الكاذب: غيِّروا الإنسان أولاً فتتغير البني “إن عشرين قرناً من فشل الوعظ المسيحي قد برهنت على عجز هذا المنهج” أو غيروا البنى فيولد آلياً إنسان جديد “إن نصف قرن من التجارب التاريخية قد أكرهنا على الإقرار بأن إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وتحويل السلطة الى حزب شيوعي لا يكفيان لتحقيق ديموقراطية اشتراكية ولولادة انسان جديد وثقافة جديدة ومشروع جديد للحضارة”.
كان ماركس فد طرح طرحة جدلياً لا ميكانيكياً هذه المشكلة في نقده لماديي القرن الثامن عشر الفرنسيين: إن الظروف تصنع الانسان ولكن الانسان يصنع الظروف.
وكيما نتجاوز تلك الأوهام المتناظرة المتولدة عن روحانية عاجزة وعن مادية ميكانيكية، يخلق بنا أن نعي، من جهة أولى، أن الشروط الموضوعية ليست «معطيات» ميتافيزيقية هامدة وإنما هي من صنع الإنسان أي مشاريع انسانية متحققة تاريخياً وقابلة بالتالي تاريخياً للتحويل والتجاوز، وأن الوعي، من جهة ثانية، ليس انعكاساً سلبياً وإنما هو فعل ومشروع. وبين هذا المشروع الفاعل وتلك الشروط حركة ذهاب وإياب دائبة، وحدة وتجانس ضروريان بين الغايات المنشودة وبين الوسائل المستخدمة لبلوغها. إن عملاً «روحياً» خالصاً “يصادر على ثنائية الروح والجسد، الوعي والعالم، الانسان والله” لا يمكن أن يفضي إلى تغيير العالم. ولكن على العكس من ذلك أيضاً، فإن تقنية ثورية خالصة لتغيير البنى لا يمكن أن تفضي إلى أن يصبح كل انسان باني تاريخه.
إن مدرسة التسيير الذاتي لا يمكن إلا أن تكون جملة النضالات في سبيل التسيير الذاتي.
ذلكم هو حجر الزاوية في كل نظام تسييري ذاتي: التفاعل الدائم بين عمل المؤسسات وبين تربية الأفراد من خلال مشاركتهم الفعلية في هذا العمل.
إن الوحدة الجدلية بين تغيير البنى وتغيير الضمائر هي مبدأ التسيير الذاتي بالذات.
والمأثرة الكبرى لروسو في «العقد الاجتماعي» تكمن على وجه التحديد في طرحه لمشكلة وظيفة الديموقراطية التربوية، الديموقراطية المفهومة على أنها نظام المشاركة كل مواطن في اتخاذ القرار.
ولا يكتفي «المنظِّرون» الراهنون لـ «الديموقراطية»، بمكافحة ماركس بل يكافحون أيضاً روسو، عاملين بوجه خاص على تغيير مفهوم الديموقراطية حتى يجردوه من جوهره: المشاركة في اتخاذ القرار.
فمنذ كتاب شومبيتر («الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية» الصادر عام 1943) الذي اكتفى التلامذة جميعاً بنسخ موضوعاته وتكرارها، ما عادت الديموقراطية تُعرف إلا بأنها تقنية الحكم خاضعة، كسائر التقنيات، لمعيار الفعالية وحده.
وعليه لم تعد الأرستقراطية في أواسط قرننا العشرين هذا هي الخصم الرئيسي للديموقراطية كما هي الحال لدى روسو او روبسبيير، بل بات هذا الخصم يتمثل على العكس في المشاركة الشعبية.
وتلامذة شومبيتر يصطنعون تعارضاً مطلقاً بين الديموقراطية والتنظيم: ففي رأيهم أن كلاً منهما ينفي الآخر. بل إن ميكلز لا يحجم عن صياغة ما يسميه بـ «قانون الأوليغارشيات الحديدي». فالأوليغارشية تُصوَّر ههنا، كما في نظرية ماكس ويبر عن البيروقراطية، على أنها نتيجة ضرورية، حتمية، للتنظيم ولمعيار الفعالية.
وانطلاقاً من هذه الأفكار الثابتة يصاغ مفهوم «الديموقراطية» على منوال السوق الرأسمالية، وتنسب اليه الفضائل ذاتها : فمن الواجب أن يتمكن المواطن، نظير المستهلك، من الاختيار بين السياسات كما يختار هذا الأخير بين بضائع شتى.