كتاب المواطن / سلامة كيلة
خاتمة
ماهو وضع الثورات العربية؟
قبل ثلاثة أعوام، وعبر “حادث عابر”، شهدنا ثورات كبيرة، بدأت من مدينة صغيرة في تونس هي سيدي بوزيد، حيث أشعل احتجاج شاب ثورة أفضت إلى تهريب بن علي، لتمتد بعد أيام من انتصارها إلى مصر، حيث جرى تنحية الرئيس بعد 18 يومًا من الاعتصام في ميادينها، ليتوسع الأمر إلى البحرين واليمن وليبيا، ويتحرك الشعب في الأردن والعراق والمغرب، بعد أن كان قد تحرك لفترة وجيزة في الجزائر وعمان، ومن ثم تحرك في السودان، ولا زال يتحرك في سورية.
ولازلنا في معمعان الثورات رغم ما أتت به، وما أوحى بأنها فشلت أو جرى الالتفاف عليها، أو حتى أنها انتهت، فقد أفضت، كما ظهر، إلى اللاشيء، حيث تكرس النظام القديم بأسماء جديدة، وكانت قد قادت أطراف من السلطة القديمة مرحلة انتقالية سريعة أوصلت في انتخابات أطراف “إسلامية” (الإخوان المسلمون) إلى السلطة في كل من تونس ومصر (ووصل أيضًا السلفيون)، وبدرجة أقل مع سلطة أ ضعف في ليبيا التي جرى تدمير الدولة والجيش فيها، وبتغيير شكلي جدًا في اليمن، ولازال الصراع الدموي قائمًا في سورية، حيث تدافع السلطة عن وجودها إلى النهاية، حتى وإن قاد ذلك إلى تدمير البلد، وتراجعت التحركات في البلدان الأخرى دون أن تنتهي تمامًا.
السؤال الذي طرح خلال السنوات الثلاث تلك هو: هل هذه هي نهاية الثورات؟ وبالتالي ما الداعي لها ما دامت توصل إلى سيطرة الإسلاميون؟
خصوصًا هنا مع ما جرى في الثورة السورية، التي تحولت إلى مجزرة بفعل الوحشية التي مارستها السلطة، وممالاة العالم، ومساعدته على ذلك بأشكال مختلفة، سواء ادعى دعم الثورة أو وقف على الحياد، أو دعم السلطة طبعًا، حيث بدا أنها يجب أن تكون نهاية الانتشار الثوري، وخاتمته المأساوية لكي تتأدب الشعوب، وتتعلم قبول الحكم القائم، والتكيف مع النمط الاقتصادي القائم، وتقبل ما يعطى لها من النظم القائمة، بعد أن ظهر أنها استمرأت التمرد، وباتت تقلد سابقاتها بسرعة لا مثيل لها، وبعد أن ظهر أنها تحمل من الاحتقان ما يجعلها تهدم أحلام الطبقات المسيطرة، وتهدد مصالحها.
لا شك أولا في أن الثورات قد أحدثت صدمة كبيرة لدى التكوين السياسي القائم الإقليمي والعالمي، حيث إنها فوجئت بأن الشعوب يمكن أن تنهض، وأنها بدأت فعلا بالنهوض، وهو الأمر الذي فرض وضع إستراتيجيات مواجهة، خصوصًا وأن العالم يعيش أزمة كبيرة يمكن أن تجعل ما حصل هنا بداية لثورات عالمية كبيرة، لهذا كان الميل الأولي يتمثل في تحقيق التغيير السريع لتسكين الوضع الشعبي، وهو الأمر الذي حصل في تونس ومصر، لكن من ثم بدا الأمر أعقد من ذلك، لهذا جرى التدخل العسكري في ليبيا، وفرض حل شكلي في اليمن وسحق ثورة البحرين، وصولًا إلى جعل الثورة السورية هي خاتمة المسار الثوري عبر تحويلها إلى مجزرة، ولازال الأمر كذلك، حيث أصبح إجهاض الثورات هو الهدف العام، وبات القلق الذي ينتاب الرأسمالية بفرض البحث عن سبل وقف تمرد الشعوب، وستصور الثورة السورية كمثال على أن التمرد يفضي إلى الدمار، وأن ما تأتي به الثورات هو الخراب.
لكن هل هذه هي حصيلة الأعوام الثلاثة من الثورات؟
ما يبدو اليوم هو أن التغيير الذي تحقق كان شكليًا إلى حد كبير، وأن الثورات عممت الفوضى، وبالتالي لا يبدو أن التغيير الحقيقي ممكنًا، لأن النظم (أي الطبقات المسيطرة) تدافع عن سلطتها بكل العنف، وحتى الوحشية . وحيث إن الثورات قادت إلى ديمقراطية أتت بـ”الإسلاميين” دون أن تتحقق مطالب الشعب، ومن ثم أن الأفق مسدود، لأنه لا الطبقة المسيطرة تتخلى عن سلطتها ولا المعارضة تحمل مشروعًا مختلفًا، يمكن أن يكون مدخلًا لتحقيق مطالب الشعب، ولهذا بعد الأمل الكبير الذي حكم الشعوب، والأوهام التي حكمت النخب، أصبح اليأس هو المسيطر، وبات الوهن هو الذي يحكم نشاط النخب.
طبعًا لم تجرِ مساءلة الماضي لماذا سيطر الإسلاميون، ولم يجرِ التشكيك في ممارسات النخب، ولا في سياسات الأحزاب المعارضة، فكما فاجأت الثورات تلك النخب، فاجأها انتصار الإسلاميين، وأيضا فاجأها انهيارهم في مصر، لهذا لا يجب أن يؤخذ وضع هذه النخب بعين الاعتبار لأنها هي ذاتها من الماضي، ولقد توهمت بأنها يمكن أن تركب على الثورات مطمحها الأساسي وهو: الحرية، لكي لا تتعرض للمساءلة فقط، وليس لكي تبني عليه مشروع تغيير كبير، ففوجئت بأن الحرية تأتي بالإسلاميين، لهذا أخذت تهرب إلى دكتاتور يحميها من سلطة هؤلاء.
وإذا كانت التجربة قد أوضحت بأن “الإسلاميين” غير جديرين بالحكم، لأنهم لا يمتلكون برامج تغيير تحقق مطالب الشعب، فقد أوضحت كذلك بأن الحرية والديمقراطية هي أوهام النخب، وأن الأمر أعمق من أن يحل في انتخابات أو حريات يمكن أن تسمح للنخب بأن تعلي صوتها، فلا حريات حقيقية تحققت، ولا استقرار عاد، وظهر أن الأمور تسير نحو الفوضى، هذا الأمر فرض أن تميل بعض النخب لأن تقبل الاستقرار حتى في ظل دكتاتور على أن تسير الأمور نحو الفوضى أو نحو صراع دموي كما في سورية.
لكن في كل الأحوال يمكن أن نشير إلى أن هناك ثلاث مسائل جوهرية وضحت خلال السنوات الثلاث، وهي التي تؤشر لماهية المستقبل بالضرورة.
فأولًا أن للشعب مطالب، وأن من يصل إلى السلطة بعد الثورات يجب أن يحققها أو أن يرفض من جديد، والمطالب لا تقف عند تغيير الأشخاص أو شكل السلطة بل نفترض إيجاد حلول اقتصادية لمشكلات مجتمعية عويصة، فقد ظهر أن التركيز على الحرية والديمقراطية ليس كافيًا، وأصلًا هو غير ممكن دون تلمس المشكلات الأساسية التي فرضت ثورة الشعب، فقد سارت مصر نحو الانتخابات وتحققت حريات معينة لكن الشعب لم يتوقف عن الاحتجاج في مطالب اقتصادية واضحة، وبات الحراك الشعبي يتمحور حول المطالب الاجتماعية، وليس في التوهان خلف الانتخابات والصراعات السياسية، هذا الأمر يوضح بأن أفق الثورات مرتبط بتحقيق ما هو أبعد من تغيير شكل السلطة أو أشخاصها، أو حتى إعطاء قدر أعلى من الحريات، بل مرتبط بتغيير النمط الاقتصادي الذي فرض نشوء مشكلات البطالة والفقر الشديد وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية، وبهذا فإن المطلوب هو تغيير جذري يبدأ من البنية الاقتصادية ليعيد صياغة الشكل السياسي، وكل تجاهل لذلك لا يفعل سوى استمرار الثورات، ومن ثم لا استقرار قبل تحقيق التغيير العميق ذاك، نحن في عقد من الصراعات إذن.
وثانيًا أن مستوى التهميش والفقر والبطالة والسحق فرض على الشعوب أن تتمرد، وبالتالي أن تكسر حاجز الخوف الذي أقامته النظم عبر كل أجهزتها الأمنية وعنفها طيلة عقود طويلة . فقد قامت استراتيجية النظم على إرعاب الشعوب عبر الاستبداد، وفرضت عليها قبول الأمر الواقع، لكن كان ممكنًا قبول الأمر الواقع حينما كانت الشعوب قادرة على العيش، لكن أن تصبح غير قادرة على العيش يفرض كسر كل إمكانية للخوف، هذا الأمر يعني بأن الصراع سیستمر، وأن الاستقرار لن يكون ممكنًا قبل تحقيق التغيير الذي يحقق مطالب الشعب، بالتالي نحن في مرحلة صراع ربما يكون ممتدًا لعقد، والذي لن يتوقف قبل أن يتحقق التغيير بما يعنيه من تغيير النمط الاقتصادي والتكوين السياسي، وهنا تندرج مطالب الحرية والدولة العلمانية الديمقراطية بمطالب العمل والأجر المناسب والتعليم والصحة المجانيين والحقيقيين.
الشعب لم يعد يستطيع العودة إلى السكون والهدوء بعد أن تمرد، وهو يريد التغيير الذي يغير من وضع الاقتصادي أولًا والسياسي بالتالي.
وثالثا أن الثورات قامت على أكتاف الشباب الذي كان قد “هرب” من السياسة والأحزاب السياسية، ولقد أصبح منخرطًا في السياسة بعد أن خاض الثورة، واكتشف أنه يخوض في غمار السياسة من أوسع أبوابها: الثورة، وهو الأمر الذي فرض الميل العام لتطوير الوعي السياسي وزيادة الفعل السياسي.
هذا الأمر يعني تحقيق تجديد عميق في الفعل السياسي وفي الحركة السياسية، يقوم على مبدأ التغيير العميق انطلاقًا من مطالب الشعب، وهو الأمر الذي يؤشر إلى أن المرحلة القادمة سوف تشهد تبلورات سياسية جديدة وجادة، يمكن لها أن تخرج الثورات من عثراتها التي نتجت بالضبط عن غياب القوى السياسية والفعل السياسي.
هذه العناصر هي خلاصة سنوات ثلاث من الثورات، وهي البداية لثورات أعمق وأكثر تأثيرًا، فالشعوب تريد التغيير الحقيقي لكي تتحقق مطالبها، وهي مصممة على الاستمرار بعد أن كسرت حاجز الخوف، وإذا كانت لم تحظ بقوى تساعدها على التغيير فقد أخذت تفرز من ذاتها القوى التي يمكن أن تحمل مشروع التغيير، خصوصًا أن كل ذلك يجري في وضع عالمي مأزوم.
الأزمات تلاحق العالم الرأسمالي
اليونان تحركت قبل الثورات العربية بقليل، وكانت مؤشرًا إلي أن وضعًا عالميًا جديدًا يتشكل، يتسم بالثورة، وبعيد الثورات في تونس ومصر وتوسعها إلى بلدان أخر بدأت احتجاجات تتصاعد في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال مع استمرار الحراك في اليونان، وبعضه ظهر وكأنه “تقليد” للثورات العربية مع ميل عالي للنظر بإعجاب لهذه الثورات.
والآن، نشهد حركات احتجاج كبيرة في تركيا، وأخرى في البرازيل، وأيضا شهدنا ذلك في ماليزيا، لكأن العالم يسير نحو انفجار كبير، ولكأن الثورات العربية ليست مقطوعة الجذور عن وضع العالم، وربما كان انفجارها وتحقيقها تغييرات في بعض البلدان هو نتاج “ظرف خاص” حكم المنطقة منذ عقود، وأفضى إلى أن ينسحق الشعب إلى الحد الذي دفعه إلى تفجير ثورة قبل غيره من شعوب العالم.
ربما ينظر إلى ما يجري في بلدان جنوب أوروبا، وما حدث في تركيا والبرازيل وأوكرانيا وتايلاند، من زاوية أنه عابر، أو أن بإمكان تلك البلدان تجاوزه، لكن الأمور أعمق من ذلك، وهي أكبر من أن تقف عند حد حدوث احتجاجات عابرة، ما يحدث يؤشر إلى اختلال هائل في التكوين الرأسمالي، وإلى أننا مقبلون على نهوض عالمي ضد الرأسمالية.
فالاقتصاد الرأسمالي ليس في حالة جيدة، ونسبة النمو ضئيلة، ويغرق في أزمات قديمة وملاصقة للنمط الرأسمالي مثل أزمة فيض الإنتاج التي تفضي إلى الكساد والركود، وانهيار صناعات وشركات وبنوك، وأزمات جديدة نشأت عن التشكل الجديد للرأسمال، وتحول كتلة هائلة منه إلى النشاط المضارب، وبالتالي اختلال العلاقة بين الرأسمال المنتج والمال البنكي لمصلحة الأخير، وهو الأمر الذي فرض نشوء أزمات جديدة أكثر تعقيدًا من الأزمات الدورية التي كانت تمر الرأسمالية بها.
ولقد انفجرت الأزمة الأخيرة في 15 أيلول/ سبتمبر سنة ۲۰۰۸، ولازالت مستمرة رغم كل محاولات تجاوزها، وفي سياق تجاوزها تجري محاولة حلها على حساب الشعوب، شعوب الأطراف أولًا، وشعوب البلدان الرأسمالية الطرفية ثانيًا، وشعوب البلدان الرأسمالية عمومًا ثالثًا، هذا الحل هو الذي يفجر الاحتجاجات، حيث تقوم الدول التي راكمت مديونية هائلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة باتباع سياسة تقشفية تنهك العمال والفئات الوسطى، فقد تقلصت المقدرة الشرائية لقطاع كبير منهم، نتيجة ثبات الأجور وزيادة الأسعار، أو حتى نتيجة تخفيض الأجور وزيادة أعداد العاطلين عن العمل، فالتقشف يعني تقليص مصروفات الدولة عبر تقليص الانفاق الاستثماري، و تقليص دعم الضمان الاجتماعي والتعليم، وتراجع فرص العمل.
وفي تركيا والبرازيل، البلدين الذي يشار إلى أن الأولى هي دولة “بازغة” تسير نحو التحول إلى “قوة عالمية” من القوى الكبرى، والثانية يشار إلى تطور وضعها الاقتصادي وإلى سعيها أيضا للتحول إلى “قوة عالمية”، في البلدين نشهد ديناميكية اقتصادية كبيرة، لكنها ترتبط بديناميكية هائلة لتمركز الرأسمال وتوسع الفروقات الطبقية، ومع توسع الأزمة الاقتصادية العالمية نلمس الميل لانحطاط وضع أعداد متزايدة من العمال والفئات الوسطى والفلاحين.
وإذا كانت الثورات قد بدأت في البلدان العربية، فإن السبب هو الضغط العنيف الذي مارسته الإمبريالية الأميركية خلال العقود الأربعة الماضية (أي ما بعد الناصرية) لفرض هيمنتها وتحكمها بالاقتصاد ونهبه، فقد عملت على تدمير القطاع المنتج في الاقتصاد (وهنا الزراعة والصناعة) ودفعت لإعادة تشكيل الاقتصاد كاقتصاد ريعي يقوم على الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد والبنوك، الأمر الذي همش ۸۰% من الشعب (هم من العمال والفلاحين والفئات الوسطى)، ودفع جزءًا كبيرًا منهم إلى “حافة الموت جوعًا”، ولهذا كان عمق النهب الممارس والتشويه الكامل للبنية الاقتصادية هما أساس هذا الانفجار الثوري، وتصاعده واستمراره.
هذا المنظور يجعلنا نرى الثورات العربية في سياق نهوض عالمي ثوري، وأن نتلمس بأن الثورة ستصل إلى البلدان الرأسمالية مرورًا ببلدان الأطراف المخلف، وأطراف الرأسمالية، وربما يطال بلدان رأسمالية (حتى أميركا وروسيا وفرنسا ليست بعيدة عن هذا السياق)، وهذا المنظور كذلك يفرض علينا أن نتلمس الأزمة العميقة التي باتت الرأسمالية غارقة فيها، والتي ربما لن تستطيع الخروج منها، حتى وإن طال الزمن الذي يودي بها، والذي ربما يكون زمن تعفن وتفكك.
بمعنى أن الصراع الطبقي الذي بدأ في البلدان العربية ويتوسع عالميًا هو في ارتباط بأزمة الرأسمالية، الأزمة الاقتصادية التي تفجرت سنة ۲۰۰۸ ولم يستطع المركز الإمبريالي (أميركا) حلها فقرر العمل على إدارتها لكي لا توصل إلى انهيار شامل، لقد ارتبط توسع الرأسمالية وفرض سيطرتها العالمية بتحقيق الاستقرار الطبقي في المراكز نتيجة أن الطبقة الرأسمالية استطاعت “تقديم تنازلات” للعمال جعلتهم يميلون إلى “الحوار”، ووسعت من الطبقة الوسطى، ووسعت السوق الداخلي عبر زيادة مضطردة للأجور، وعبر ذلك نهبت العالم، وأسست لثورات في الأطراف، لكنها اليوم، مع استمرار نهب الأطراف، تعود إلى خرق “الستاتيك” الذي أوجدته في المراكز، والذي قام على ما أسمي “المساومة التاريخية” بين العمل والرأسمال، ويظهر ذلك أن نهب الأطراف لم يعد كافيًا، بالتالي يجب العودة إلى نهب العمال في المراكز، ويجب التخلي عن السياسة التي أسست الاستقرار طويل في المراكز، وهو الأمر الذي بات يعني تصاعد أعداد العاطلين عن العمل، وانحطاط الوضع المعيشي للعمال والفئات الوسطى، فأزمة المديونية التي راكمت الثروة بيد طغم مالية باتت تحل عبر نهب المجتمع، وبهذا يزداد التراكم المالي لدى تلك الطغم وينحدر وضع العمال والفئات الوسطى.
والمديونية هي شكل مهم من أشكال التوظيف المالي في الرأسمالية “الحديثة”، حيث باتت استثمارًا يحقق الأرباح الأعلى (طبعا دون أن يحقق أي فائض في القيمة)، ولقد كانت مدخل الطغم الإمبريالية للتحكم في المسار الاقتصادي لبلدان الأطراف، التي أغرقت في مديونية كبيرة ذهبت إلى جيوب مافيات سلطوية، وفرض عليها من ثم تغيير النمط الاقتصادي لكي يتواءم مع آليات النهب الجديدة التي نشأت في الرأسمالية الأحدث (خصوصًا بعد أزمة سنة ۱۹۷۱)، الأزمة التي فرضت على الإدارة الأميركية فك الارتباط بين الذهب والدولار لكي يتسنى لها طباعته دون احتياط من الذهب، بعد أن أصبح التراكم المالي أضخم من أن يوظف في “الاقتصاد الحقيقي”، أي الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات، وبات بحاجة إلى مجالات توظيف “جديدة”، وجدت في ديون “العالم الثالث” هذا المجال الذي عنى نهب كل التراكم الذي حصل في “مرحلة التحرر” بالشراكة مع فئات في النظم الطرفية ذاتها، لكن هذا النهب زاد في التراكم المالي، وفرض زيادة الميل للتوظيف في هذا القطاع نتيجة الربحية الأعلى، وفي البحث عن أشكال جديدة للتوظيف الذي يستوعب المال المتراكم ويدر ربحًا أعلى، هذا ما فتح الباب على أشكال جديدة من النشاط المالي هي ما أسمي المشتقات المالية.
في السنوات منذ سنة ۱۹۷۱ إلى سنة ۲۰۰۸ كان المسار الاقتصادي للرأسمالية يشير إلى أن القطاع المنتج في تعثر كبير، وأن القطاع المالي هو الذي يسير في تصاعد متسارع، إلى حد أن كل التقديرات تشير إلى أن ۹۰٪ من الحركة اليومية للرأسمال تتمركز في القطاع المالي، بالتالي أن الاقتصاد الحقيقي لا يحظى سوى بـ ۱۰٪ من النشاط المالي، هذا الأمر فرض أن تتحكم الطغم المالية بمجمل الاقتصاد، وبالسلطة في الدول الرأسمالية، وأن تفرض منطقها عالميًا، لكنه فرض كذلك أن تصبح آليات النهب هي السائدة في مجمل النمط الرأسمالي، ومن ثم يصبح الشكل الريعي هو الشكل “الطبيعي” في الأطراف، وأن يعود مبدأ “الإفقار المطلق” هو الشكل المهيمن من جديد في المراكز الإمبريالية (تخفيض الأجور، التخلي عن الضمان الاجتماعي والصحي والتعليم المجاني، وزيادة العاطلين عن العمل).
وإذا كانت أزمة فيض الإنتاج قد عادت بعد نهوض أوروبا واليابان من جديد، ووضعت الاقتصاد الحقيقي في أزمة عميقة، فقد أوجد الشكل الجديد للرأسمال بهيمنة الطغم المالية (التي تنشط في المضاربات والمشتقات المالية وأسواق الأسهم والمديونية) أزمة أخطر، هي تلك المتعلقة بتضخم القيم دون وجود فائض قيمة، والذي يتمثل بتصاعد قيم المواد (وهنا العقارات والأسهم والعملة وحتى السلع الغذائية) بشكل تضخمي نتيجة المضاربات المالية، إن ضخ الكتلة المالية الهائلة في شكل مضارب يرفع القيم بشكل متسارع، ويؤدي إلى أرباح خيالية تفرض امتصاص الرأسمال من الاقتصاد الحقيقي إلى هذا القطاع، لكن الأمر يؤدي إلى “انفجار الفقاعة”، وبالتالي حدوث انهيار مالي كبير يؤثر على مجمل الاقتصاد، بما فيه الاقتصاد الحقيقي طبعًا، فهذا التصاعد الهائل في القيم لا يتناسب مع قدرات الاقتصاد الحقيقي، فيصل التضخم إلى لحظة لا بد من أن ينفجر فيها، ليحدث انهيارًا ماليًا هائلًا كما شهدنا في أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، وقبلها أزمة تكنولوجيا المعلومات (سنة2000).
وسبب تمركز الانفجارات في أميركا هو أنها باتت المركز المالي، أي أن بنوكها باتت مركز تراكم كل المال الفائض، الذي كانت بحاجة إلى استقدامه من أجل تعديل “الميزان التجاري” بعد أن باتت تستورد أكثر كثيرًا مما تصدر، وهذا ما جعل القطاع المالي الذي ينشط في المديونية والمضاربة وأسواق الأسهم والمشتقات المالية من القطاع الأساسي في الاقتصاد الأميركي، ومن ثم أًصبحت أميركا هي مرتع الطغم المالية، ولهذا باتت في وضع أسوأ من كل البلدان الرأسمالية، وتقف على “شفير انهيار كبير”.
هذا التشكل للرأسمالية، وهو التشكل الأحداث، الذي يتسم بسيطرة الطغم المالية، يؤشر إلى أنها باتت تعاني تضخمًا سرطانًا لا علاج له، لهذا دخلت في دائرة الأزمات المستمرة، وفي وضعية إدارة الأزمة دون التفكير في إمكانية حلها، بالضبط لأن حلها يفترض شطب الطغم المالية ذاتها، وحرق تراكم مالي هائل بات عبئًا على الاقتصاد الحقيقي وشالًا له، وهذا مستحيل في علم الاقتصاد، لهذا سنشهد أزمة مستمرة متصاعدة، مع انهيارات متتابعة بين الحين والآخر يمكن أن تطيح بدول، إن هذه الوضعية باتت تفترض “تضخم التمركز” المالي، وبشكل متسارع على حساب كل المجتمعات، في الوقت الذي يقود إلى انهيارات مالية مستدامة، ومدمرة، لهذا يتعمم الإفقار بشكل متسارع حتى في بلدان المراكز التي شهدت استقرارًا طبقيًا طويلًا، ومن ثم يتحضر العالم لتصاعد في الصراع الطبقي سيفرض نشوء ثورات كبيرة في كثير من مناطق العالم.
ربما أصبحت فكرة ماركس عن تعفن الرأسمالية حقيقة، وبهذا تكون الرأسمالية قد استنفدت ممكنات وجودها، لهذا سنشهد تصاعدًا هائلًا في الصراع الطبقي على صعيد عالمي، وتفككًا في كل التحالفات والعلاقات السابقة بين القوى الرأسمالية، وفي العلاقة مع الأطراف، وهو وضع ثوري يفتح الأفق لتغيير كبير في بلدان العالم.