كتاب المواطن / سلامة كيلة
الإسلامفوبيا أو الخوف من الإسلاميين:
التخويف من شيء هو غير تقديم ما يتجاوز هذا الشيء ويمثل بديلًا له، ورفض الشيء هو غير تحديد ما يجعل هذا الرفض متضمنًا فيه، بمعنى أنه متضمن عبر البديل بالتحديد.
بمعنى أن التخوف والخوف من الإسلاميين الآن، الذي نتج عن سيطرتهم على السلطة في عدد من البلدان العربية (تونس، ومصر، والمغرب)، فرض أن تتجه النخب إلى التصرف برعب من غول يسيطر ويتمكن، ولقد بات الخطاب الذي تطرحه محشوًا بحالة رعب، ولهذا بات يحمل شحنة الرفض بأقصى طاقتها، و”الصياح” خوفًا من هذا الغول، وبالتالي التصرف بعشوائية لـ”تجميع” كل القوى المضادة لهم، في هذا الوضع لا تعود هناك أسس ومقاييس، لا طبقية ولا سياسية ولا قيمية أو أخلاقية، سوى مقياس العداء للإسلاميين.
رعب غريزي يظهر من أصولية تفرض سلطة شمولية، ليس في المستوى السياسي فقط ككل النظم الاستبدادية، بل في المستوى القيمي/ الأخلاقي الذي يجعل الشمولية والاستبداد يطالان حتى خصوصيات كل فرد.
والنقد هنا لا يطال السياسة التي يمكن أن يتبعها الإسلاميون حال وصولهم السلطة، فهم قوى تسعى حقيقة إلى الهيمنة الشاملة، وتوسيع الاستبداد ليصل إلى ما هو فردي/ خاص، ولقد أظهرت تجارب إيران، ثم السودان؛ هذا الطابع الشمولي وكذلك الاثار التي تتركها في المجتمع، رغم أن كل ذل لا يمنع نهوض الشعب ضد هذا النمط من النظم، كما ظهر في إيران، وما يمكن أن يظهر في الفترة القادمة بعد توسع الانهيار الاقتصادي والوضع المعيشي للشعب (كما حدث فعلًا)، لكن الأمر هنا يفرض البحث في الأسباب التي فرضت وصول هؤلاء إلى السلطة، ولماذا استمرت هذه النظم كل هذه السنوات؟ وأيضًا يفرض ملاحظة أن الآثار الاستبدادية، فيما عدا المستوى الشخصي، لم تختلف عن نظم التحرر عمومًا (مع أختلاف ما تحقق في مستويات أخرى، منها التطور الاقتصادي)، بالتالي هل يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تسيطر الآن كما سيطر الخميني في إيران بعد الثورة الإيرانية التي حدثت سنة 1978/ 1979؟ أو كما سيطر الإسلاميون في السودان بعد انقلاب سنة 1989؟
هنا لابد من دراسة الفروقات الواقعية محليًا وعالميًا، ولا شك في أن الخوف المغالى فيه هو نتاج ملاحظة فعل الإسلاميين في تجارب أخرى مثل إيران والسودان، لكنه أيضًا نتاج الشعور بإمكانية المس بـ”الحرية الشخصية” للنخب والعداء الأشد للأحزاب “الحديثة”، أن تلك التي تطرح مفاهيم “ما بعد إسلامية” هي نتاج التطور الرأسمالي، ونقصد الأفكار الديمقراطية والقومية والاشتراكية، التي هي في جوهرها في تضاد مع البنى التقليدية التي تمثلها الأصولية الإسلامية، وعبرت عن مرحلة تتجاوز واقع هذه الأصولية لتأسيس واقع جديد حداثي، بالتالي يختلط هنا، ما هو شخصي مع ماهو فكري/ أيديولوجي، وماهو سياسي/ ديمقراطي.
المشكلة أن كل ذلك ينتج “فوبيا” من الإسلاميين، ومن سيطرتهم على السلطة، وهذه “الفوبيا” تقود إلى تكتيك خاطئ يعزز قوة الإسلاميين ولا يضعفهم، فخطاب التخويف والترهيب من سيطرة الإسلاميين يظهر هؤلاء في وضع “القوة الماحقة”، الأمر الذي يعزز من شعبيتهم، حتى وإن نتج ذلك عن الخوف العام الذي يعممه هذا الخطاب منهم، لكن الأهم هو أنه خطاب “سلبي” والسلب حسب اللغة توكيد، أي “تعزيز قوة” لأن ذلك يفتقد “البديل”، فالتخويف دون خيار آخر يمكن أن يعزز من قوة هؤلاء نتيجة الضجة التي تثار حولهم على شكل فقاعات لا تحمل ما يجعل السامع يرى أن خيارًا آخر هو ممكن، وفي الغالب يتحقق ذلك خارج سياق “الصراع الواقعي” المتعلق بمشكلات الشعب، حيث إن الشعب لا يرفض قوة لأنها إسلامية أو شيوعية لذاتها، أي لأنها كذلك، بل يرفض أو يؤيد القوة التي يتلمس أنها تحمل حلًا للمشكلات التي يعيشها كل فرد فيه، فالعاطل عن العمل، أو الذي لا يكفيه الأجر الذي يتحصله، لا يدعم قوة إلا “متوهمًا” أنها تحمل حلًا لوضعه هذا.
ما هو إشكالي في نظر النخب المتخوفة من ظاهرة السيطرة الأصولية (أو الإخوانية) على النظم، هو أنها تنطلق من منظور “ثقافوي”، أي من منظور الدين (أو الوعي المجتمعي)، الذي يؤدي إلى لحظ “التوافق” بين الخطاب الإسلاموي لدى القوة الأصولية، والثقافة الشعبية التي هي “ثقافة دينية”، فيجري التقرير بأن هذا التوافق يسمح حتمًا بأن تستقطب تلك القوى، وتستشعر هذه النخب “الخطر القادم” عبر “الاكتساح” الذي سوف تحققه. ومن ثم تقر هي بـ”نخبويتها” وانعزالها، واغترابها عن الشعب، لأنها وفق هذه الرؤية تكون خارج الشعب بـ”ثقافتها” و”أفكارها”، وهي فعلًا كذلك، لأنها لا ترى سوى “الوعي” ولا ترى الواقع ككل، والذي هو بالأساس بشر يريدون الحياة قبل أن تكون لديهم القدرة على “الوعي” و”التدين”.
لهذا ترى أنها أقلية منعزلة في هذا البحر من المتدينين الذين هم قاعدة القوى الأصولية، وهذا الأمر يفرض عليها التعلق والتعريش بكل من يخالف أو يتناقض مع تلك القوى، بغض النظر عن أي موقف آخر، ويتجاهل لسياسات ومواقف ورؤى تطرحها، وأيضًا لا تجد سوى خطاب التخويف الذي يصبح هو “البرنامج السياسي”، وكل ذلك يعزز انعزالها، ويكرّس القطيعة مع الشعب، ويجعل اليسار الخائف ملحقًا بالقوى الليبرالية.
إذن المنظور الثقافوي لا يقود إلى فهم ما يجري بل يعزز الخوف، ويصعّد من التخويف من قوة الإسلاميين، وهو خاطئ لأن محاكمة الشعب لا تُبنى عليه، وليس فقط محاكمة الماركسي القويم، ولقد ظهر خلال العقود الماضية أن قوة الإسلاميين لم تستمد من “الدين في ذاته” بل جاءت نتيجة صراعات سياسية كانت توحي بأنهم “في صف الشعب”، سواء تعلق الأمر هنا في صراعهم مع النظم، أو تعلق الأمر في صراعهم مع الإمبريالية، وصراعهم مع النظم، الذي نتج لدى الإخوان المسلمين عن التنافس بين فئات تجارية مالية تقليدية وأخرى “ما بعد حداثية” (أو مافياوية بالتحديد) هي ما كان يسمى “رجال الأعمال الجدد” الذين كانوا هم السلطة، لكن قطاعات من الشعب دعمت الإخوان لأنها ضد النظم، وتريد التحرك في مواجهتها، في كل ذلك ليس من الدين أو عقيدة بل حياة دنيا، وهي المعادلة التي لم تفهمها النخب، ولم يفهمها حتى اليسار الذي من المفترض أنه ينطلق من “التحليل المادي الطبقي” أو من “التحليل الاقتصادي”، وفق ماهو في أساس الماركسية.
هذا الأفق وحده ما يعالج “رهاب” النخب لأنه يفتح على صراع “دنيوي” يمكن أن يخاض دون مسبق يضغط على الذهن فيفجّر حالة الرعب التي نشأت، بل يجعل الأمر يتعلق بـ”تنافس” في الخيارات، أي يجعل الأمر ينحى منحى تبلور الأفكار التي تعبر عن مشكلات الشعب، والتي تؤسس لطريق كي يتجاوزها، هنا يجري الانتقال من السلب الذي يخص الرفض والهلع من العدو إلى الايجاب الذي يتعلق بتقديم بديل يتضمن حل مشكلات الشعب، ومن التقوقع والقعود في “التكايا” إلى الانخراط في وسط الشعب للدفاع عنه ومساندته لتحقيق مطالبه، وتوضيح المسار الذي يمكن أن يفضي إلى حل كل مشكلاته، وهنا يجب الانطلاق من واقع الشعب الملموس، وتحديد مشكلاته الحقيقية، وبالتالي طرح الحلول لهذه المشكلات.
انطلاقًا من ذلك يمكن مواجهة الإسلاميين، ليس في المستوى العقيدي (الذي يبقى خارج الصراع) بل في المستوى المتعلق بكونهم حزبًا يحمل مصالح طبقية مناهضة لمصالح الشعب.
إن الخوف والتخويف من قوة الإسلاميين يزيدهم قوة، عدا عن أنه خاطئ، وتوقع مقدرتهم على الهيمنة خاطئ كذلك، بالتالي فإن المشكلة تكمن في النخب ذاتها، لهذا لا بد من أن يتجاوزها المد الثوري الجارف.
لماذا يسيطر الإسلاميون؟ لكن أين اليسار؟
السؤال الذي بات يطرح بعد انتصار الثورات في تونس ومصر والولوج في مسار الانتخابات، ومن ثم النتائج التي ظهرت، وأوضحت سيطرة الإخوان المسلمين على النظم الجديدة، هو: ما الفائدة من الثورات إذا كانت تفضي إلى سيطرة الإسلاميين؟ أو السؤال؟ لماذا سيطر الإسلاميون على النظم الجديدة؟ لكن الأخطر هو المواقف التي باتت تبنى على هذه النتائج، حيث يجري الاستنكاف عن المشاركة في الثورات، أو رفض دعمها، وحتى التشكيك فيها.
كل هذه الاسئلة هي اسئلة مراقب وليست اسئلة ثوري، هي كذلك لأن الثوري لا يمكنه إلا أن يكون مع الشعب حين يثور مهما كانت النتائج، وهو يحاول فهم لماذا تسير الأمور في هذا المسار بالتحديد، بدل أن يعتبر المسألة بسيطة إلى حدّ التعامل مع منطقة مقدمة/ نتيجة، وهو المنطق الذهني الذي ينطلق من المراقبة وليس من الغوص في عمق الواقع لفهمه.
فالسؤال لماذا تسير الأمور في هذا المسار الذي يفرض ملاحظة أن الشعب يثور عفويًا دون حزب أو قيادة، وأن واقعه المزري هو الذي فرض ذلك وليس أي تحريض من أي جهة كانت، ومن ثم فإن واقع الأحزاب والقوى يشير إلى أن العقود الماضية قد أظهرت تراجع وضع اليسار والقوميين وانهيار مشاريعهم، و”موت” أحزابهم عبر تكلسها وتقوقعها بعيدًا عن الشعب، وبالتالي عجزها عن فهم واقع الشعب، بينما تطور دور الإخوان المسلمين ومجمل الإسلاميين خصوصًا وقد ظهر أنهم “يرثون شعارات اليسار” في مواجهة النظم والإمبريالية الأميركية والدولة الصهيونية، لهذا باتوا قوة فعلية، ولها رمزية معينة، لتظهر كبديل للنظم، وهنا يمكن الإشارة إلى أن اليسار الذي يرتعب الان من سيطرة الإسلاميين لطالما نفخ بهم وتحالف معهم من موقع ذيلي، وعمل على إقناع الشعب بأنهم قوة معادية للإمبريالية والصهيونية ومناهضة للنظم، وأنهم تطورو وتحدثوا، الأمر الذي كان يعزز من شعبيتهم.
ولم يثبت الليبراليون مقدرة، وأصلًا وضعوا في صف “الغرب” وقد تمركز نقدهم لها على مسألة الحريات فقط، بينما كانت الليبرالية واليسارية المتلبرلة في مسار المطالبة بالديموقراطية والحريات، بينما كان الاحتقان يتراكم في روح الشعب.
هذا الأمر كان يظهر بحساب بسيط أن من سيأتي إلى السلطة هم الإسلاميون، فهم القوة التي ظهر أنها ضد النظم، أو أن النظم تعاديها.. خصوصًا أن منطقهم الاقتصادي كان يتوافق مع منطق الطبقة المسيطرة، التي باتت تدعم وصولهم إلى السلطة وإن من منظور تكتيكي، ولهذا أصبحوا هم السلطة الجديدة، ولا شك في أن سوء فهم طبيعة الثورات كان يفضي اعتبار أن ما حصل قد أنهى المد الثوري وأسس لسلطة استبدادية أصولية ستستمر عقودًا، بمعنى أن سوء الفهم هذا لم يسمح بتلمس حدود مقدرة الإسلاميين من جهة، وبأن الشعب لم يثر لأنه ضد شخص الرئيس، بل لأنه لم يعد يستطيع العيش أساسًا، في ظل النمط الاقتصادي والتكوين المجتمعي الذي تشكل في ظل ذاك الرئيس، وأن هذا الواقع هو الذي يحتاج إلى تغيير قبل الحرية والديمقراطية (دون أن يعني ذلك نفيًا لهما، بل بتضمينهما كل مشروع تغييري).
لهذا يحسن تفسير ما يجري انطلاقًا من فهم موازين القوى التي تحكم الأحزاب السياسية المعارضة من جهة، ومن جهة أخرى مساومة الطبقة المسيطرة التي فرضت من أجل بقائها القبول بحكم الإسلاميين، وهذا ما حدث في تونس ومصر، لكنه فشل إلى حد ما في ليبيا نتيجة وضع ليبيا المختلف.
لهذا فإن الأحلام التي نحملها سواء تعلقت بالديمقراطية أو العدالة لن تتحقق الآن، أي بعد سقوط النظام، لأن هذه الأحلام تحتاج إلى قوى تحملها هي غير موجودة، وهو الأمر الذي يفرض البحث العميق في اسباب فشل اليسار وهامشيته، ومن ثم عجزه عن توقع الثورات، وبالتالي ضعف مشاركته فيها، هذا هو الأمر الأهم بدل العتب على الثورات أو تكديس الاتهامات لها، فالشعب ثار في لحظة كان يجب أن تكون متوقعة لدى أي ثوري، وأن يكون قد أعد ما يجب فعله من أجل انتصارها، لكن اليسار كان قد ضاع في متاهات الديموقراطية والليبرالية أو حلّق في سماوات معاداة الإمبريالية.
لكن ذلك لا يعني أن الثورة سرقت، الثورة لن تسرق وستبقى مستمرة، لكن ما يمكن الآن هو اسقاط النظام فقط، وربما تغيير الأشخاص لأن واقع الثورة الحالية لا يعطي أكثر من ذلك بالضبط نتيجة غياب القوى التي تعبر عن الشعب.
لكن هذه خطوة مهمة لكي تضعف السلطة ويتفكك طابعها الاستبدادي الشمولي، ولكي ينفتح الأفق لتبلور سياسي ثوري جديد يكمل الثورة، بمعنى أن الثوريين سيولدون في الثورة والشعب سيطّور القوى التي ستحمل البديل وتفرضه.