كتاب المواطن / سلامة كيلة
مشهد الإسلام السياسي بعد مصر:
فشل الإخوان ونهاية حلم الخلافة:
حين وصلت حركة النهضة إلى الحكم في تونس، وسيطر الإخوان المسلمون على مجلسي الشعب والشورى، ومن ثم على الرئاسة في مصر، نشأ تصوران موهومان ومتناقضان، الأول “إسلامي”، أي من قلب الإسلام السياسي، ومن جماعة الإخوان المسلمين يعتقد أن زمن الخلافة الإسلامية قد حان، وأن “الوعد الإلهي” يتحقق، وبالتالي فإن القادم يشي بسيطرة شاملة لهم من المغرب إلى المشرق، لكي يقيموا دولة الخلافة و”عاصمتها القدس” كما أشار صفوت حجازي ذات مرة، والثاني “علماني” أو “يساري” ينطلق من أن الزحف الفاشي قد بدأ، وأن المنطقة مقبلة على سيطرة مديدة للإسلاميين، ربما تستمر عقودًا، مما جعلهم يعيشون حالات هلع حقيقية.
في الحالين، ما هو واضح هو أن الصورة التي تبلورت أوحت بأن الجماعة منتصرة وستحكم إلى زمن مديد، بالتالي كان التقدير متوافقًا بين الطرفين المتناقضين، هذه ليست غرابة، بل ربما نتاج التوافق في “منطق التفكير”، الذي ينحكم للمنطق الصوري، الذي يتلمس ما يحدث دون فهم قاعة أو معرفة جذوره وأسبابه، لهذا يكون لدى الإسلاميين نتيجة “وعد إلهي”، ولدى اليسار “مصيبة حلت من السماء”، والنتيجة هي الفرح من طرف، والخوف من الطرف الآخر، وهنا يظهر تناقضهما، لكنهما يتوافقان على تضخيم الحالة، وعلى دفعها نحو المطلق، لنكون إزاء بالون ضخم يملأ الأبصار.
الان وقد سقط حكم الإخوان المسلمين في مصر بزحف مليوني لم يحصل ضد حسني مبارك، ماذا سيقول هذا وذاك؟
تبين أن المسألة أبسط من أن تخيف أو يجري التعلق بها، وأن الأمر كان زوغان نظر ليس أكثر، فالشعب الذي أتى بالإخوان لم ينتظر السنوات الأربع التي يحددها الدستور لكي يغيرهم، بل زحف إلى الشوارع لكي يسقطهم، الملايين التي ملأت الشوارع كانت تحمل غلًا لم يظهر ضد حسني مبارك، وهذا ما يحتاج إلى تفسير، حيث إن الشعب الذي ملأ الشوارع ليس ملحدًا ولا علمانيًا بل متدينا في غالبيته.
مصر التي يتسم الشعب فيها بالميل إلى التدين، وهذا ما كان يخيف العلمانيين واليساريين، حيث اعتقدوا أن سطوة الإسلام السياسي سوف تركب على تدين الشعب، وأن خطاب الإخوان المسلمين سوف يكون حاسمًا في استقطاب ملايين المصريين.
هذه الفكرة سقطت ببساطة، لأن ملايين المصريين هم الذين زحفوا بقوة وعنفوان من أجل إسقاط الإخوان، أكثر من ذلك كان واضحًا أن ميل الإخوان لفرض سلطة “دينية” كان من الأسباب التي حرّكت كل هذه الملايين، لهذا قلت إن هؤلاء يمتلكون غلًا وليس حقدًا فقط، حيث أوحت لهم سلطة الإخوان بأنها قادمة من القرون الوسطى، سواء من حيث المقدرة على الحكم، أو من حيث الخطاب، أو من حيث الميل السريع للنهب وفرض سيطرة مافيا أصولية محل مافيا حسني مبارك خبروها منذ أن تشكلت البنوك الإسلامية في السبعينيات والتي نهبتهم، بالتالي صورة حكم طالباني في بلد تمتلك تاريخًا طويلًا من الحضارة.
هذا لافت في ردة الشعب، لافت أنه وقف مرتعبًا من سلطة قروسطية تجاهل من أجل “التمكين”.
لكن بالأساس لم يلمس الشعب، العاطل عن العمل والمفقر والمهمش، أن تحسنًا قد طرأ على وضعه، خصوصًا أن من انتخب الإخوان انتخبهم لأنهم يقولون إن “الإسلام هو الحل”، وأنهم يمتلكون حلولًا لمشكلات الشعب، وبالتالي اكتشف أنهم يزيدون الوضع سوءًا، حيث لم ترتفع الأجور بينما ارتفعت الأسعار، ولم يتحقق تحسن في مشكلة البطالة، والتعليم والثقافة باتا يزدادان انهيارًا، فالسياسة الاقتصادية ظلت كما هي، بل نفذ الإخوان سياسات لم يستطعها حسني مبارك، ومشوا في طريق “بيع مصر”، خصوصًا قناة السويس والسد العالي، ومن ثم يمارسون كتاجر قروسطي يهمه النهب.
الشعب تمرد على “أبو الهول” (حسني مبارك) لأنه لم يعد يستطيع تحمّل الوضع الذي هو فيه، الوضع المعيشي أولًا وأساسًا، فكيف يمكن ألا يتمرد على سلطة وعدت ولم تحقق شيئًا، كل النقد هنا ينطلق من أن الإخوان لم يعطوا فرصة كافية، لكن هل يمكن إقناع جائع بأن ينتظر سنوات على أمل أن يتجاوز وضعه؟ المسألة هنا، فالوضع الثوري لا يسمح بانتظار حلول، بل إن كل من يصل إلى السلطة عليه أن يقدم حلًا مباشرًا، للعاطلين عن العمل ولانخفاض الأجور، ولإنهيار التعليم والصحة والبنية التحتية، هذه مسائل لم يعد ممكنًا انتظار الزمن من أجل تحقيقها، هي النقطة الأولى في جدول أي سلطة جديدة وإلا ستكون هناك ثورة جديدة، الشعب تمرد ولن يعود خالي الوفاض، ولقد كسر حاجز الخوف، بالتالي لن يهمد قبل أن يحقق ما يريد.
هذه هي المعادلة التي اسقطت “حكم المرشد” و”دولة الخلافة”، وستسقط كل من يتصدر السلطة دون أن يحقق للشعب مطالبه، وربما سيظهر الآن سقوط “الليبراليين” الذين سيبدون البديل الممكن.
طبعًا الصورة في مصر أعقد من ذلك، حيث إن ميل الإخوان للسطو على الدولة عبر سياسة “التمكين” (التي تعني الهيمنة على كل مفاصل السلطة) كان يؤدي إلى نشوء تناقض مع بيروقراطية عريقة لا ينقصها اللؤم ولا الحنكة، وجيش قيادته هي جزء من طبقة مسيطرة تتحكم باقتصاد البلد.
وكان يرى أن أفضل إستراتيجية لمواجهة ثورة الشعب هي الاتيان برئيس منسجم معها، ومن داخلها، لكن الضغط الأميركي فرض إنجاح مرسي بدل شفيق، وكان يتحسس سياسة الإخوان الهادفة إلى السيطرة، والتي ستطال مصالح كثيرة، بالتالي كان الإخوان حلولًا لمشكلاته، وكان الصراع الاجتماعي يتصاعد خلال السنة الأخيرة، وصل إلى حد اقتحام الاتحادية، وأيضًا في مواجهة مع البيروقراطية الحاكمة (ومنها قيادة الجيش) نتيجة الميل لتهميش سلطتها، وفرض سلطة إخوانية كاملة.
لهذا فإن ما أخاف الشعب (أي ما أسمي الأخونة) حرّك مشاعر الخوف لدى البيروقراطية، وأصبح الإخوان بين نارين حاميتين، لهذا كان أمرًا “طبيعيًا” أن يطردوا من السلطة، هل هذه ثورة أو انقلاب؟ من يركز الانتباه على دور الجيش يصل إلى أن ما حدث هو انقلاب، ومن يلمس دور الشعب يؤكد على أن ما جرى هو ثورة حدث فيها ما حدث مع حسني مبارك، أي تدخل الجيش لحسم الأمر لكي ينهي كل النظام وليس فقط الرئيس أو الحزب الحاكم، بالتالي هي ثورة انتظرت دور الجيش، وكأن تجربة المجلس العسكري قد نسيت، أو كأنه محكوم على مصر أن تجد مخرجها بالجيش.
هذا الأمر هو ما يهرب من تناوله اليسار الذي ارتعب من سلطة الإخوان، وظن أنها سوف تتأبد، فسبب سلطة الإخوان هو غياب البديل الذي يعبر عن مطالب الشعب، في وضع لن يستقر الوضع قبل تحقيق مطالب الشعب تلك.
ما أثر ذلك على الإسلام السياسي في المنطقة؟
في مصر يرقد المرشد العام لمجمل الجماعة، ونهاية حكم الإخوان في مصر تعني نهاية حلم الخلافة، ليس لأن الجماعة سقطت في مصر بل لأنها لا تمتلك حلولًا لمشكلات راهنة ومستعصية للشعب، كما توضح في مصر، ويتوضح في تونس، الجماعة لا تمتلك حلولًا بل تكرر النمط الاقتصادي القائم، والذي أوصل إلى الثورات، وأوجد كل هذا التمرد لدى الشعب، وظهر أنها تذكّر بقرون خلت لقطاع كبير من الشعب يعتقد أننا بتنا بعيدين عنه، وأنه لا يناسب وضعنا الراهن.
هذا الأمر سوف يدفع للإطاحة بحركة النهضة في تونس، وبحركة حماس في غزة (وفي سورية يبدو أن دور الإخوان قد انتهى)، ويهمش كل الأصوليين في المنطقة.
بالتالي لحظة المجد انتهت، وقمة الغرور أودت بالجماعة، والشعب لا زال يقاتل من أجل تحقيق التغيير الذي يحل مشكلاته، والعسكر لا زالوا يلعبون اللعبة ذاتها.