المواطن/ كتابات – قادري أحمد حيدر
الإهداء:
إلى رموز الوطنية اليمنية المعاصرة الذين نفتخر بهم وبأدوارهم واسهاماتهم في تاريخنا الوطني اليمني :عبدالله السلال، قحطان الشعبي، فيصل عبداللطيف، محمد محمود الزبيري، الأستاذ أحمد محمد نعمان، القاضي عبدالرحمن الإرياني، سالم ربيّع علي ، عبدالفتاح اسماعيل،ابراهيم الحمدي، عبدالله باذيب… ذاكرة وطن، وتاريخ شعب.
إليهم: مع كل المحبة والوفاء .
عند الحديث عن استشهاد الرئيس المغفور له، إبراهيم الحمدي، يقفز زبائن علي صالح، ومن كل مستوياتهم .. ليأكدوا أن علي صالح لم يكن هو القاتل المباشر، ولا المشارك، ولكنه كان يعلم بالحدث.
وبالطبع هذا شأنهم ليحدّثوا أنفسهم بما يشتهون .. غير أن الحقائق-كما يقال- عنيدة وصلبة للغاية، ذلك أن الشهود على مشهدية جريمة القتل كثر، إلى جانب التقارير الأمنية الدولية الرسمية، والتقارير الدبلوماسية و”ويكيلكس”، التي بدأت تظهر وتعلن عن نفسها، ومن ذلك أن علي صالح أعترف بذاته عن إسهامه الرئيسي المباشر في تنفيذ اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي .. فقد ذكر الإعلامي الفلسطيني الشهير الذي كان مقربا من علي صالح/ عبدالباري عطوان، في لقاء على إحدى القنوات الفضائية -والرجل أطال الله في عمره لم يزل حياً- أن علي صالح أخبره في لقاء معه أنه وصل إلى السلطة “بهذه”، مشيراً إلى “جنبيته”، وأنه لن يخرج من السلطة إلاَّ بها. أي بالجنية بكلمة : أتيت دماً ، وسأغادر دماً، وهو ما كان .
لقد وصل علي عبدالله صالح إلى قمة السلطة/ الحكم، بالدم ، والقتل الجبان للشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي ، وصل إلى الحكم على جثث رموز سياسية، ووطنية ، وعسكرية عديدة لامجال لحصرهم لكثرتهم طيلة فترة حكمه.
وهذا الحديث فلته وأعلنته في مقابلة مع صحيفة “الأمة”، قبل حوالي خمسة عشرة سنة، وعلي عبدالله صالح في قمة سطوته وهيلمانه، وسلسال الموت، والدم يتقطران من بين أصابعه، ومن فمه، وصل للحكم ضمن صفقة مع دول الجوار ، ومع رموز المشيخة القبلية التي أرادت الانتقام والثأر من الرئيس إبراهيم الحمدي بسبب موقفه من تحول المشيخة القبلية إلى دولة، في صورة “الجمهورية القبلية” ، ولأنه حاول تقليص نفوذ بعضهم في قمة السلطة ، والجيش، وبدأ بناء علاقات خارجية مستقلة حول ما يتصل بأمن المنطقة، (البحر الأحمر /باب المندب).
وبذلك تحددت طريقة وآلية حكم علي عبدالله صالح بأمرين أو اتجاهين: الأول، التبعية للخارج، والثاني، مبدأ أو منهج تصفية المعارضين ،سياسياً أو قتلهم، إن وجد في ذلك ضرورة، وما أكثر ضروراته التي تحولت من استثناء إلى قاعدة للحكم. واستكمالاً لهذه السيرورة ، افتعاله الحروب الداخلية ، حتى قامت أكثر من مائتي حالة حرب داخلية في قلب خارطة “الجمهورية العربية اليمنية”، قبل الوحدة ، وتصاعدت أكثر بعد الحرب على الوحدة السلمية، واستبدالها بالوحدة بالدم، والحرب، بهدف اقصاء شراكة الجنوب في السلطة، والثروة.
لقد نبش علي صالح بعد حرب 1994م من خلال أعوانه وأجهزته، تربة بعض المحافظات الجنوبية، التي حلت فيها مشكلة القتل / الثأر مع دولة الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م ، وبقانون اسمي “قانون الثأر”، حيث حلت الدولة بديلاً وحكماً في حل مشكلة الثأر وبصورة نهائية، ومع ذلك سعى علي صالح من خلال أعوانه، وبعقلية ممنهجة، وثأرية، إلى استنطاق تاريخ صراعات العشائر، والأفخاذ القبلية . ففي “شبوة” وحدها أنعش وأحيا ثارات قبلية حسم أمرها ويعود زمنها إلى ما قبل مائة عام وأكثر ، ليعيد بعثها والعبث بها وفيها من جديد ، والتحكيم قبليا فيها بأثر رجعي، لهدف سياسي أولاً : بعث نار الحروب الداخلية، وثانياً: تصفية حساب سياسي مع بعض الرموز السياسية ذات التاريخ القبلي ” بيت الحنكي” مثالاً، وعشرات غير ذلك!!، حيث تحددت صورته وهويته السياسية كحاكم، من هذه الخلفية ، والبداية ، سلسال الدم، والثأر، والقتل، الذي هندس له علي صالح ، عبر اجهزته الامنية، ولم يتوقف حتى اللحظة،ذلك السلسال من الدم، وهو ما يسهم في تفسير كل التطورات السياسية ،والأمنية والعسكرية اللاحقة.
لقد تميز حكم علي صالح بالتبعية للخارج ، وبالمزاجية ، واحتكار صورة الدولة في اسمه وشخصه ، وصولاً إلى وهْمه بإمكانية “قلع العداد”، للإستفراد بالحكم إلى ما لانهاية، كحاكم مطلق الصلاحيات ، دون رقابة ولا محاسبة، حين كان يتوهم أن بإمكانه “توريث الجمهورية”، الدولة ، ومؤسساتها، في أبنائه. وهنا كان مقتله الحقيقي المبكر، والأول الذي بدأت منه الخطوات الأولى لتفكيك بنية النظام ، وتشظي قاعدته الاجتماعية في انقسامها على بعضها ،وخاصة بعد ثورة فبراير 2011م، والذي يفسره ويوضحه حالة مقتله الأخير، وانفضاض الناس “الحشود”، عنه، وتركه بمفرده، حيث يجب أن يكون ، وهي نتيجة طبيعية لمن أراد أن يختصر، ويختزل اليمن، وتاريخه، في اسمه، وعائلته .. إنه وهم جنون القوة، والعظمة، من قاده إلى حتفه، “أنا ومن بعدي الطوفان”، وعلى من لا يتعلم من التاريخ، أن يشرب من سم مكره، وهي دعوة لعدم القفز على الواقع، والتاريخ.
لقد أوصل علي عبدالله صالح البلاد طيلة نيف وثلاثة عقود إلى حالة من الفشل، والعجز، والانهيار الكامل لمعنى سلطة الدولة، بعد أن استبدل ذلك بدولة للرئيس .. إنه فشل، وعجز، كاملان على مستوى النظام، والاقتصاد، وبناء الدولة ، بعد أن مأسس حالة تدمير المجتمع ، واحترابه ضد بعضه البعض ، وصولاً لوهْمه بإمكانية تأسيس جمهورية وراثية “عائلية/جملكية”، بدلاً عن دويلة المشايخ/ والعسكر، التي تشكلت بصورة رسمية بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م.
لقد أوصله هيلمان السلطة، وجنون الوهم الذي سيطر على حواسه، ومنطق تفكيره -كما يسيطر كذلك على البعض اليوم- من خلال طول بقائه في الحكم، ومهارته – كما كان يتصور- في اللعب على رؤوس الثعابين –حسب تعبيره- ، أن بإمكانه تجاوز واقع ثورة شعبية عارمة وواسعة، قامت ضد “ملكه”، العضوض ، ولذلك لم يقبل بالحصانة المجانية له ولزبانيته المقربين ، فتمادي ماضياً في عتهه وغيه، في تعويق العملية الانتقالية، بالاكتفاء بتسليم “العلم” ، مع احتفاظه بالجزء الأعظم من الجيش، وأجهزة الدولة في قبضته وأعوانه. وكل المسار السياسي، والعملي يقول إن علي عبدالله صالح هو السبب الحقيقي ، والمصدر المادي، والسياسي ، والعسكري للانقلاب الذي تم على العملية السياسية السلمية (المرحلة الانتقالية/ وتحديداً نقل السلطة).
ذلك أن المؤامرات ، والفتن والحرب، هي ديدنه في الاستمرار في الحكم طيلة تلك العقود .. رحلة حكم تميزت بالقتل و محاولة العبث بالتاريخ .
لقد تطلب تنفيذ بعض قرارات الرئيس الانتقالي، في الجانب العسكري، إلى تدخل مجلس الأمن بكامل هيئته ، وحضورهم إلى صنعاء للاجتماع فيها دعماً للرئيس الانتقالي، ولتشكيل ضغط سياسي، ودبلوماسي دولي، لاجبار علي صالح ، وأقربائه بتنفيذ قرارات السلطة الجديدة، وهي واحدة من اشكاليات المرحلة الانتقالية، التي لم يستوعبها صالح، وكأنه في أعماقه كان ينظر إلى قضية نقل السلطة كمرحلة تكتيكية، وأن عبدربه منصور ليس أكثر من “محلل”، وهذا الحديث قيل وشاع بوضوح على لسانه، خلال حديثه عن الرئيس/ كلينتون، أنه جاء (كمحلل)، ليأتي بعد بوش الصغير خلفا لوالده، بوش الأب، لأن الاستراتيجية والمبدأ والأصل في عقل علي عبدالله صالح هي في عودته للحكم، وفي استمرار بقائه في السلطة، بالسلم، أو الحرب، أو على الأقل استعادة الملك عبر الوريث، أحمد علي صالح، أو “الورثة”من أخوته.
ومن هنا استعصاء سيرورة العملية السياسية السلمية، والمرحلة الانتقالية، وبالنتيجة تعويق قضية نقل السلطة، وهو ما تحقق. وقد رأينا ذلك مباشرة من داخل قاعات فرق مؤتمر الحوار الوطني الشامل ، في أشكال التعطيل العديدة مثل محاولة البعض نقض نص ثبته فريق “الحكم الرشيد”، في عدم وصول العسكرين المقربين لرابع قرابة من العودة للحكم والسلطة، إلاَّ بعد انقضاء زمن عشر سنوات، وهي الفقرة التي رفضوها وقاتلوا من أجل عدم تثبيتها في نصوص قرارات الفرق/ والمؤتمر، لأن عين العودة إلى السلطة / الملك، كانت مبيتة وأصيلة في عقل علي صالح وأعوانه … إنها السلطة المطلقة التي تمنع العقل من التفكير السليم والسوي، وهي الذهنية “السيكوباثية” المريضة، التي تمتع بها علي صالح، وحكم من خلالها طيلة أكثر من ثلاثة عقود.
وعلى طريق تأمين استمراره في الحكم دون تحديات أمنية داخلية، فقد سعى إلى عسكرة العاصمة صنعاء، فوق ما هي محاصرة بالطوق القبلي(القبل السبع المسلحة)، التي تخنق وتحاصر المدينة صنعاء، من جميع الجهات، فسعى جاهداً إلى استكمال الطوق القبلي بأكثر من خمسين لواء، ووحدة عسكرية، واستخبارية، وقوات خاصة، أحكمت الخناق على العاصمة، (عسكرة شاملة، من القبيلة المسلحة / والجيش العائلي)، حفاظاً على ديمومة حكمه، ومنعاً لأي محاولة انقلابية عليه. ففي مقابلة تلفزيونية له مع أحمد منصور رداً على السؤال : لماذا يسيطر أفراد أسرتك على مفاصل الجيش؟!! فقال: بما معناه، خوفا من أن يأتي مجنون، ويقدم على القيام بانقلاب!!
كان يتعامل مع اليمن، والسلطة، والدولة، وكأنها ملكية شخصية ، ومن هنا غياب العمل المؤسسي، والنظام المؤسسي، والدولة المؤسسية، وسلطة القانون، طيلة فترة حكمه ، لتعذر إمكانية الفصل بين الرئيس، والمؤسسة ، ككيان للدولة ، وتلكم هي المقدمات السياسية، والموضوعية لكل ما يجري اليوم.
إن الحرب الجارية ليست سوى نتيجة لمسار سياسي، اقتصادي، مالي ،أمني، عسكري،(استبداد، وفساد عظيم)، دام ما يقارب الأربعة عقود، كان علي عبدالله صالح عنوانه ورمزه القبيح.
اليوم في باكستان، يعتقل رئيس الوزراء نواز شريف، ومعه ابنه احمد، وابنته، مريم، وزوج ابنته (صافدار)، من اجل سرقات محدودة معلومة، لان مصادر الاموال التي اشتروا بها بعض المساكن الخاصة بهم الى جانب فندق، لم يتمكنوا من تحديد مصادرها، ماليا، وقانونيا، من أين حصلوا عليها وكيف؟!!، وعلي صالح المقتول، وابنه احمد علي، وورثته، يملكون مدينة كاملة في الامارات، وقصور ومباني، وارصدة مالية تم الاشارة اليها، في اكثر من بلد اوروبي، وفي غيرها،ومع ذلك يطالبون وبتسويق، ودعم من دول عربية، منها من تقع تحت مسمى التحالف، بالعودة للسلطة، والحكم، ومحاولة الاستمرار في قيادة المؤتمر الشعبي العام.
كلام عجيب، غريب، اليس المفروض لو نحن في احوال طبيعية أن يفتح اليوم/والان، (ملف الاموال المنهوبة)، علنيا، وقضائيا، لاثبات ذلك ، أو عكسه، ادانة، أو براءة، وهي اموال منهوبة تحدثت عنها لجان من الخبراء الامميين، اموال بعضها معلومة وموجودة في بعض البنوك، وتحت تسميات وعناوين مختلفة، اموال يعود اصلها، وملكيتها للشعب اليمني .
ومع ذلك تتحرك بعض الدول (الامارات)، لفرض ورثة صالح كقوة سياسية، في قمة السلطة، والجيش (طارق عفاش)، ولاخيار سوى تفعيل قانون العدالة الانتقالية، بعد اصداره، واصدار قانون الاموال النهوبة، الممنوع من الاصدار والاقرار .
حقاً لقد أوصل علي صالح، البلاد إلى حالة من التفكيك، والتدمير الشامل للمجتمع ، والدولة، تاريخ حكمه كان انتقالاً دراماتيكياً، من ديناميكية التفكيك ،والفشل ، إلى ديناميكية القتل للإنسان ، والتدمير للمجمتع ، والتشظي لبنية مؤسسات الدولة ، بعد أن استبدل الدولة ومؤسسات النظام ، باسمه وذاته، وعائلته.
هذا هو حالنا في كل ما نراه اليوم ، والانقلاب السبتمبري 2014م، ليس سوى تتويج سياسي ، وعملي لذلك المسار السياسي الدامي، حيث تقاطعت المصالح، وتلاقت الأهداف السياسية التكتيكية، بين علي صالح، والجماعة الحوثية ” أنصار الله”. والحقيقة أنه ليس فقط تقديري السياسي، بل أيضاً حقائق الواقع قد أفصحت ، أنه لولا وهْم وجنون علي صالح باستعادة السلطة ، أو اقتسامها مع جماعة “انصار الله”، لما كتب للانقلاب النجاح والاستمرار، هذه هي قناعتي السياسية.
إن جذر الانقلاب العسكري والسياسي، هو علي عبدالله صالح ، ولذلك ذهب ضحية وهمه بالملك العضوض غير مأسوف عليه ، في غياب أي دور حقيقي فاعل ومؤثر لقيادات المكونات السياسية ، ومنظمات المجتمع المدني، وتقصير عظيم، وكارثي في الأداء السياسي المرتبك للرئيس عبد ربه منصور، والبطانة من حوله ، الأمر الذي سهل تمرير الانقلاب ضمن قراءة سياسية خاطئة لما كان يجري في البلاد .. ويمكنكم العودة إلى تصريحات الوكيل العام للأمانة العامة للمؤتمر الشعبي العام الأخ/ ياسر اليماني قبل يومين من شهرنا هذا 15 / سبتمبر 2018م … انقلاب كان رائده وقائده ومهندسه الحقيقي هو علي عبدالله صالح، وبعلم ورضا من دول اقليمية مجاورة لتصفية حسابات، مع بعض أطراف المعادلة السياسية في البلاد “الأخوان المسلمين”.
وما يجري في الجنوب اليوم، وفي الشمال ، ليس سوى صورة واقعية للمقدمات السياسية التي تشهدها البلاد، في صورة النتائج الكارثية ، وفي مشاريع تقسيم ، ووصاية ، وانتداب،واحتلال للحالة الوطنية اليمنية في جنوب اليمن ، حيث التحالف يدير لعبته السياسة بمعزل عن مصالح اليمن، واليمنيين ، في كل ما يسمى “مناطق محررة”!! .
أما العمل على الخروج من هذه الحالة البائسة فبدايته وحدة الصف الوطني الديمقراطي، واستنهاض القوى ، في داخلنا، بالمبادرة بطرح رؤية سياسية وطنية يمنية للحل. “مشروع سياسي وطني ديمقراطي”، وهنا تأتي شجاعة القرار ، وعمق الرؤية في استلهام واستنهاض حالة صعود للمشروع الوطني اليمني الديمقراطي التعددي ، على قاعدة دولة اتحادية ديمقراطية ، مركزها المواطنة المتساوية، التي يحلم الجميع بها ، على قاعدة دولة مدنية ، تقوم على انقاض دولة العصبية ، و”المركز السياسي التاريخي المتخلف” .. من هنا تكون البداية الحق، للانتصار لكل اليمنيين ، في الشمال، والجنوب، دون إقصاء، ولا استبعاد ولا تهميش، لأي مكون اجتماعي، أو سياسي، من مكونات المجتمع .