فهمي محمد
العقل السياسي أم الأحزاب السياسية ؟
العقل السياسي الحزبي وحضوره المباشر في ثورة الـ14 من اكتوبر
تشكل قوام اللجنة التحضيرية المنبثقة عن اجتماع الـ24 من فبراير 1963م في العاصمة صنعاء من 11 شخصية/ سياسية/ قيادية/ جنوبية / كانت يومها متواجدة في الشمال تشارك في معركة الدفاع عن ثورة سبتمبر وهم : قحطان محمد الشعبي مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الجنوب ورئيس الاجتماع، وناصر السقاف، والشيخ عبدالله المجعلي، ومحمد الصماتي، وبخيت مليط ، والأربعة الأعضاء تخلوا بعد ذلك عن الجبهة القومية في عام 66 وأصبحوا أعضاء في جبهة التحرير التي تأسست عام 1966م، والرائد عيدروس القاضي انسحب في حينه لأن حزب الشعب الاشتراكي الذي ينتمي له حزبياً، كان له موقف معارض من إنشاء جبهة مسلحة تتولى الكفاح المسلح في جنوب اليمن، وثابت علي منصور والرائد أحمد الدقم، وأحمد عبدالله العولقي وعلي محمد الكاظمي ، وعبدالله محمد الصلاحي، وعلى إثر تشكيل اللجنة التحضيرية من الأسماء المذكورة، وإعداد ميثاق تأسيسها، تم الإعلان عن ميثاق تأسيس الجبهة المسلحة من إذاعة صنعاء والقاهرة.
في كتابه تحت عنوان لماذا تسلمت الجبهة القومية السلطة في الجنوب ، يذكر محمد عباس ناجي الضالعي – أن جبهة التحرير هو الاسم الذي طرح في إجتماع دار السعادة الموسع ، للجبهة المسلحة المراد تأسيسها – ربما كان هذا الاسم الأولي للجبهة المسلحة ناتج عن أن قيادة حركة القوميين العرب كانت معجبة بتجربة الكفاح الثوري المسلح لجبهة التحرير الجزائرية التي كافحت ضد وجود الاستعمار الفرنسي في الجزائر ، إلا أن اسم الجبهة المسلحة في جنوب اليمن تغير في الإجتماع الثاني الذي عقد في تعز بحضور مؤثر لفرع حركة القومين العرب في جنوب اليمن « بعد أن تولت القيادة السياسية للحركة في شمال اليمن رمي الحجر في الماء » بحيث أصبح اسم الجبهة المسلحة في هذا الإجتماع المفصلي يعبر بشكل مباشر عن فلسفة العقل السياسي الحزبي للحركة التي تولت قيادة الثورة المسلحة في جنوب اليمن، سيما وقد تحولت ثورة الـ14 من اكتوبر مع قيادة العقل السياسي الحزبي لمسارها الثوري بشكل مباشر إلى حدث تاريخي أكبر من كونها حدث سياسي، كما هو حال ثورة ال26 من سبتمبر 1962م التي توقف مسارها الثوري نحو المستقبل « مع فكرة التغيير السياسي والإجتماعي » عند نقطة الحدث السياسي، وذلك راجع حسب تحليل هذه الدراسة إلى غياب العقل السياسي الحزبي كقائد وموجه لمسار الثورة في شمال اليمن، إلا أن ذلك لا يعني قط التقليل من عظمة وأهمية ثورة سبتمبر الخالدة.
بعد الإعلان عن مخرجات الإجتماع الأول المنعقد في العاصمة صنعاء، باركت قيادة الحركة في الجنوب تلك الجهود المبذولة في سبيل العمل الجبهوي، ثم عقدت قيادات الحركة على مستوى الشطرين إجتماعاً حزبياً حضره، قحطان محمد الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي ، وعبدالفتاح اسماعيل، و سالم زين وطه أحمد مقبل، وعلي أحمد السلامي، وسيف الضالعي، وعبدالرحمن محمد سعيد وعبدالقادر سعيد ، وعبدالحافظ قائد فارع ، وقد تقرر في هذا الإجتماع الحزبي للحركة تحديد زمان ومكان عقد الإجتماع الثاني المتعلق بالتشكيل النهائي للجبهة المسلحة، مع الدفع بالفصائل والمنظمات الخاضعة لسيطرة الحركة في الجنوب، للمشاركة في هذا الإجتماع التأسيسي الذي عقد في اغسطس في قرية حارات ناحية الأعبوس في ريف تعز الجنوبي ()
في هذا الإجتماع الذي حضره قحطان محمد الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي وسلطان أحمد عمر وعلي السلامي وطه أحمد مقبل وسالم زين محمد، ونور الدين قاسم ، وعبدالله الخامري ، ومحمد صالح مطيع ، وعبدالرحمن محمد عمر ، تم توسيع دائرة التحالفات الوطنية على قاعدة، الكفاح الثوري المسلح، بحيث تأسست الجبهة التي تغير اسمها في هذا الإجتماع إلى مسمى الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني ، وذلك من إتحاد حركة القوميين العرب فرع الجنوب ، الجبهة الناصرية، المنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، الجبهة الوطنية، التشكيل السري للضباط الأحرار ، جمعية الإصلاح اليافعي ، تشكيل القبائل ، وعلى إثر ذلك تشكلت القيادة المركزية للجبهة القومية من 12 عضو ستة أعضاء من حركة القوميين العرب وستة أعضاء من الفصائل الأخرى ، وهي التي انتخبت قحطان محمد الشعبي أميناً عاماً للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل ، ثم انظمت إلى صفوف الجبهة القومية منظمة الطلائع الثورية في عدن، ومنظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب الجنوب اليمني المحتل .
نستطيع القول أن ما يميز ثورة 14 أكتوبر، كفعل ثوري «وطني» عن كل الانتفاضات السابقة ضد المستعمر البريطاني في عدن، وبكونها أيضاً ثورة مسلحة استمرت في زخمها الثوري والجماهيري حتى استطاعت تحقيق الإستقلال الوطني الناجز في 30 من نوفمبر 1967، هو قيادة العقل السياسي الحزبي الذي ورثته الجبهة القومية عند تأسيسها من حركة القوميين العرب ، لهذا نجد أن الانتفاضات -المسلحة- السابقة الخالية من حضور العقل السياسي الحزبي كانت تنتهي بعقد اتفاقيات ومساومات مع السلاطين أو المشائخ الذين دخلوا في مواجهات مع البريطانيين، مع منح هؤلاء مبالغ مالية كبيرة، ما يعني أن العقل السياسي الحاكم تاريخياً في الجنوب لم يكن معني في مواجهاته المسلحة مع الإستعمار البريطاني تحقيق مسألة الإستقلال الوطني الناجز والمستقبل السياسي في جنوب اليمن، بعكس العقل السياسي الحزبي الذي قاد ثورة أكتوبر فقد تولى في عام 1961 طرح مسألة تحقيق الاستقلال الوطني وإسقاط النظام الإمامي على قادة الإتحاد اليمني في القاهرة، ما يعني ضروري تشكيل جبهة وطنية، ولم يتم التفاعل مع هذا المشروع، وعندما تمكن من تأسيس الجبهة القومية فتح مكتب لها في تعز واتخذ مدينة تعز قاعدة إنطلاق وغرفة عمليات وإمداد وتدريب عسكري، ناهيك أن العقل السياسي الحزبي هو الذي تولى الإعداد الصارم للشخصية « الثورية » المقاتلة والفدائية داخل الجبهة القومية، وتولى تربية هؤلاء الجبهويين على مسألة التضحية من أجل الوطن، والاستقلال والسيادة ، وهو ما جعل الجبهة القومية في زخم سياسي وجماهيري متزايد أثناء معركتها مع الإستعمار البريطاني، فبعد أن تم تفجير الثورة من جبال ردفان، كان لا بد أن يتم نقل الفعل الثوري المسلح إلى داخل مدينة عدن حتى يتعرض الإستعمار للضربات الموجعة وهذا تطلب نقاش مباشر مع جمال عبدالناصر ، ومع ذلك لولا وجود العقل السياسي الحزبي في قيادة عملية الفدائيين والمواجهات داخل عدن المحصنة بالجيش والسلاح والشرطة والمخابرات ، والجواسيس ، لما استطاعت الجبهة القومية تحقيق تلك العمليات العسكرية النوعية داخل مدينة صغيرة المساحة، سيما وقد تولى قيادة الفدائيين نور الدين قاسم لأشهر ثم اسندت المهمة إلى مستودع العقل السياسي الحزبي والطامح في تأسيس حزب من طراز جديد عبد الفتاح إسماعيل الذي استمر في قيادة الفدائيين داخل عدن ، وبخط يده وضعت خرائط العمليات العسكرية النوعية حتى رحيل آخر جندي من عدن.()
واذا كان ذلك ما يميز الثوره فإن ما يميز تأسيس الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل ، في 19 اغسطس 1963م عن تأسيس منظمة التحرير التي تشكلت في 1965م من حزب رابطة أبناء الجنوب وحزب الشعب الاشتراكي وبعض السلاطين، ليس انتهاجها خيار الكفاح المسلح وقيادة الثورة فقط، بل أن المكونات السياسية والفصائل والمنظمات التي أسست الجبهة القومية فقدت شخصيتها الاعتبارية المستقلة في إطار الجبهة القومية « فلم يعد في جنوب اليمن على سبيل المثال، بعد تشكيل الجبهة القومية حركة القوميين العرب فرع الجنوب، مع بقاء فرع الحركة في الشمال، يشكل عمق سياسي وحزبي للجبهة، في حين أن منظمة التحرير تأسست كتحالف سياسي بين أحزاب وسلاطين مع احتفاظ هذه الأحزاب باستقلاليتها التنظيمية والسياسية، حتى قيام جبهة التحرير في عام 1966م التي كانت ناتجة عن محاولة دمج الجبهة القومية مع منظمة التحرير في جبهة واحدة وهو ما رفضته الجبهة القومية واعتبرته دمج قصري من قبل القيادة المصرية بعد أن باتت الجبهة القومية عن طريق كفاحها الملسح منذ 14 اكتوبر 1963م قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النصر وطرد المستعمر البريطاني من جنوب اليمن، وهو ما تحقق في 1967م أي بعد شهور من محاولة فرض الدمج القصري بين الجبهة القومية ومنظمة التحرير في إطار مسمى جبهة التحرير، ناهيك عن أن الأحزاب السياسية التي شكلت منظمة التحرير واريد لها بعد ذلك أن تكون نداً سياسياً في مسالة الدمج مع الجبهة القومية على قاعدة الكفاح المسلح (واستمرت بعد ذلك في جبهة التحرير) هي الأحزاب السياسية التي كانت لها موقف معادي ومعارض بالمطلق للكفاح المسلح بل إن حزب الشعب اصدار كتيب يسفه فيه خيار الكفاح الوطني المسلح.
إذا كانت الأمانة التاريخية تقول أن جبهة التحرير بعد تأسيسها في 1966م شاركت في عملية الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني بدعم من مصر بعد أن استاءت علاقة الجبهة القومية مع مصر بسبب رفض هذه الأخيرة الاستمرار في إطار جبهة التحرير ، لكن الأمانة التاريخية تقول في نفس الوقت إن جبهة التحرير توجهت إلى خيار الكفاح المسلح بعد فوات الأوان في حسابات العقل السياسي الحزبي ، أي بعد أن أصبحت الجبهة القومية مسيطرة في الواقع وقادرة على فرض شروطها وهو ما مكنها من إسقاط كل المشيخات والسلطنات والإمارات قبل رحيل الإستعمار ( ) وهذا كلام اعترف به محمد سالم باسندوة في برنامج ساعة قبل سنين على قناه أبوظبي الفضائية ، ومع ذلك كان رفض عملية الدمج لا يخلو من بعض أنانية العقل السياسي الحزبي.
ومن بعدً ثاني في اعتقادي أن حماس الجامعة العربية والقيادة المصرية ودول الإقليم الخليجية بضرورة حدوث الدمج بين الجبهة والمنظمة كان مصدره القلق من التحويلات السياسية الأيديولوجية الحزبية داخل الجبهة القومية سيما جنوح هذه التحولات نحو الإشتراكية العلمية التي بدأت تغزو الفكر السياسي في تلك المرحلة وهو ما بدأ جلياً في الإنتشار بين أعضاء وقيادة الجبهة القومية التي بدت قادرة على تحقيق النصر، وحتى لدى الأحزاب القومية في شمال اليمن ، لهذا اريد بعملية الدمج احتواء جموح الجبهة القومية من زاوية حضور عقلها السياسي الحزبي الذي بدأ يتجاوز المفهوم السياسي للقومية العربية نحو الأممية ، والنظرية الماركسية، ولعلى قصيدة المقالح – ذئاب حمر – التي حاول فيها الشاعر أن يشد من أزر الثوار في جبال ردفان، كانت تكشف معنى التهمة التي بدأت توجه للجبهة القومية التي كانت تقود الثورة وتحقق نجاحات كبيرة، الأمر الذي يجعلها صاحبة سلطة سياسية في مستقبل اليمن.
برغم حسابات تلك المخاوف الممانعة، لم يكتمل النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي حتى تحقق الإنتماء لفلسفة النجمة الحمراء على مستوى الشمال والجنوب على حد سواء، بحيث تحولت النسخة الأولى من الأحزاب القومية الفاعلة في اليمن إلى أحزاب ماركسية، فقد تحول البعث في الشطرين إلى حزب الطليعة الشعبية، بقيادة أنيس حسن يحي في الجنوب وفي الشمال بقيادة يحي الشامي، وتحول فرع حركة القوميين العرب في الشمال إلى الحزب الديموقراطي الثوري، بقيادة عبدالحافظ قائد وعبدالقادر سعيد، وعلى نفس المنوال تحول خط الجبهة القومية التى تولت قيادة سلطة الثورة في جنوب اليمن، ما يعني في النتيجة النهائية تحول تلك الأحزاب اليسارية في الشمال والجنوب إلى روافد سياسية ثقافية تغذي بنية العقل السياسي الحزبي الحاكم في جنوب اليمن حتى 1990م، كما سوف يتم توضيح ذلك في مبحث المسار السياسي للعقل السياسي الحزبي الحاكم في جنوب اليمن.