تعز | خالد سعيد الحاتمي
بين بيوت الأهالي يحشرُ الطلاب أنفسهم كلّ صباح، يحملون كرّاساتهم المهترئة، وحقائبهم البالية؛ نتيجة تنقلهم بين الشّعاب، يبحثون عن التعليم في زوايا الدِّيار القديمة على مشارف قرية مولية (غرب مديرية جبل حبشي) التي نالت منها الحرب، وهدّمت ما تبقى لهم من بصيص أمل، وأبقتهم يكابدون العناء، ويصارعون المشقة، من أجل الحصول على التعليم.
يغدون كلّ صباحٍ، في طرقٍ محفوفة بالمخاطر، مليئةٌ بالمتاعب، بين أزقة القرية الريفيّة، يتسللون خِلسة خلف جدران منازلهم؛ خوفًا من قناصٍ متربص، أو قذيفةٌ طائشة تودي بحياتهم، كون المعارك تحتدم بين حينٍ وآخر بين طرفي الصراع في هذه المنطقة.
مدرسة الشهيد الزبيري (غرب مديرية جبل حبشي) واحدةٌ من آلاف المدارس، التي تضررت بشكل بالغ، ونالت الحرب منها، وجعلتها خارج الجاهزية، لم تعد صالحة للتعليم؛ بعد أن دُمّر أجزاء واسعة منها، وقُنِص بعض الطلاب فيها او أصيب خلال أيام الدراسة؛ نتيجة المعارك.
لم يشفع للطلاب الريفيّين بُعدهم عن المناطق الحيَوية، أو حرمانهم من معظم الخدمات العامة، لكنّهم، نالوا نصيبهم من الأضرار التي لحقت بهم؛ نتيجة الحرب بين أطراف الصراع.
يتردد على مدرسة الزبيري ما يزيد عن 300 طالب وطالبة كلّ عام، وكان يعجُّ على شُرفاتها الكثير من أبناء قرية “العنين ومولية” والمناطق المجاورة، لينهلوا من وافر علمها، يرسمون مستقبلهم بالأحرف الأبجدية، والألواح والطباشير، إلى أن اندلعت الحرب في اليمن في مارس/آذار 2015م ، وتسببت بتدمير العديد من المنشآت التعليمية، والحقت الضرر بكثير من المدارس كـ “مدرسة الزبيري”.
صراعٌ حتى في الريف
يسكن بين 60-70% من اليمنيين في الأرياف، وتُعد الأرياف معزولة عن المناطق الحضرية، ولا تلقى الاهتمام الكافي من حيث الخدمات العامة، أو حتى تسليط الضوء على قضاياها الهامة، أو تطالها التغطية الإعلامية، فتظل غالبا في عالمٍ مغلق، بعيدة عن الأنظار.
لم يشفع للطلاب الريفيّين بُعدهم عن المناطق الحيَوية، أو حرمانهم من معظم الخدمات العامة، لكنّهم، نالوا نصيبهم من الأضرار التي لحقت بهم؛ نتيجة الحرب بين أطراف الصراع.
ففي صبيحة يوم الأحد 30أكتوبر2016م -وكما هو معتاد-كان الطفل محمد عبدالفتاح يؤدي تمارينه الرياضية أثناء الطابور الصباحي في مدرسته الواقعة في أرياف مديرية جبل حبشي (غرب تعز)، وعلى حين غفلة اصابته رصاصةُ الحرب في “الفك”، من إحدى التباب المحيطة بالمدرسة، لتبدأ قصة المعاناة التي جعلته خارج أسوار المدرسة، هو والكثير من زملائه في المنطقة.
يقول والد محمد: “احنا في الأرياف حُرمنا من أغلب الخدمات، ولا سمعنا عن دولة طيلة السنوات الماضية، الى أن جاءت الحرب، بدأ الناس يتقاتلوا على المناطق، ولا خلّوا (تركوا) لنا حالنا، وكأن هذه الجبال مليئة بحقول النفط، أو مناجم المعادن”.
ويواصل حديثه، “ولا جنينا من هذه الحرب الا المتاعب، وكما تشوف أولادنا، مشتتين بكل البيوت، على شأن يدرسوا، ومن يوم ما أصيب ولدي محمد، الكل خائف على عيالة، والمدرسة أصبحت محل استهداف، ولا أحد يستطيع الذهاب الى المدرسة”.
يعد محمد واحدٌ من ملايين الأطفال الذين تسببت الحرب في جعلهم خارج أسوار المدرسة. حتى أنَّ الطالب مازن عبدالعليم (12) عاما، وهو زميل محمد، وكان متواجدًا أثناء حادثة الإصابة، ما زال يتذكر هذه الحادثة التي بدأت معها مأساتهم ومتاعبهم في الحصول على التعليم، يقول: “كنّا في الطابور الصباحي، وما درينا الّا والدم بوجه محمد عبدالفتاح، وشفناه (رأيناه) وهو بدون أسنان، لأنّه أصيب تحت العين (الفك)”.
ويواصل الطالب مازن حديثه: “ومن ذلك اليوم نبكّر الصباح ندرس ببيوت الناس، واحنا (نحن) خائفين، ولا نستطيع الذهاب الى المدرسة، لأنّها أصحبت غير آمنة، وقد تدمروا فصول بقذائف الحرب”.
وبحسب التقرير الصادر عن منظمة اليونسكو في يوليو 2021م ” هناك ما يزيد عن مليوني فتاة وفتى في سن الدراسة في اليمن خارج المدرسة، بسبب الفقر والصراع ونقص الفرص التعليمية”. وتتزايد المخاوف من ارتفاع هذه الأعداد نتيجة استمرار الصراع.
تسرّب نتيجة الحرب
يلوّح “هيثم محمد” (12عام) وهو تلميذ في الصف السادس، ، يلّوح بيده كل صباح نحو مدرسته من على بُعد نصف كيلو متر تقريبًا، لا يستطيع الاقتراب منها؛ لأنها تقع على خطوط التماس، ويخشى على نفسه من رصاصات الحرب، أو قذائف الموت، أن تنهال عليه، في لحظة ترديد السلام الجمهوري، الذي اعتاد عليه في الطابور الصباحي قبل الحرب، كما حدث لزميله محمد، يتساءل كل مرة متى ستتوقف الحرب ويعود الى كنف مدرسته، وفصولها الواسعة.
ويعتبر الطفل “هيثم” واحدٌ من مئات الأطفال الريفيّين الذين أبعدتهم الحرب عن التعليم، نتيجة ما لحق بالمدارس من أضرار.
يقول الأستاذ “نجيب أحمد” مدير مدرسة الشهيد الزبيري ” الحرب أثرت بشكل سلبي على الأجيال، وهناك العديد من الطلاب تسرّبوا من المدرسة، وأغلبهم نازحون في المدن، ويعملون بأعمال مختلفة لا تتناسب وسني طفولتهم، بدلًا من ذهابهم الى التعليم، وأغلب من أصيبوا متأثرين نفسيًا، ويعانوا كثيرًا إزّاء ذلك”.
يواصل الأستاذ نجيب، حديثه: “أبرز ما نعانيه الآن، أننا ندرّس الطلاب في منازل المواطنين، وعلى جنبات المنازل بين الشمس والأمطار”. ويضيف: “اضطررنا لإستبدال المدرسة – بعد توقفها نتيجة الحرب- ببيوت أشخاص تبرّعوا بها كمدارس بديلة، ولأنّ عدد الطلاب كبير، ندرّس البقية تحت الشجر”، إشارة منه إلى كون المدارس في المناطق الريفية متباعدة، ولا يستطع الطلاب أن يلتحقوا بمدارس أخرى؛ بسبب بعد المسافة ومخاطر الحرب، وقلة المدارس في أرياف اليمن.
أثر نفسي على الطلاب
يقول الأستاذ عبدالسلام صالح وهو متخصص في الإرشاد الاجتماعي: “تأثير الحرب على الطلاب نفسيًا، هي أشد المخاطر التي يعاني منها الأطفال في الوقت الحالي، وخاصة من هم في سن الدراسة، كونهم أكثر عرضة للصدمات، ونفسيّاتهم لا تتحمل مشاهد الحروب، والعنف”.
أكثر من 8 ملايين طفل يمني بحاجة الى دعم تعليمي طارئ
ويواصل الأستاذ عبدالسلام: “ولابد أن يكون هناك بيئة حاضنة للأطفال المعرّضين للإيذاء النفسي أو الجسدي، ويجب عزلهم تمامًا عن أجواء الحرب، ومشاهد العنف، أولًا، وإعادة تأهليهم نفسيًا، حتى يتجاوزون مراحل الخطر، وهذا يحتاج الى وقت”.
دعم تعليمي طارئ
وفقًا لتقرير صادر عن منظمة اليونيسف في يوليو 2021م، فإن أكثر من 8 ملايين طفل يمني بحاجة الى دعم تعليمي طارئ، أي أنهم بحاجة الى مشاريع تضمن استمراريتهم في التعليم في الأوقات الطارئة. كـ توفير بديل للمدارس المدمرة، ودعم الأطفال بالمواد التعليمية، وكذلك صرف حوافز نقدية للمعلمين الذين انقطعت رواتبهم، لضمان استمراريتهم في التعليم ومنع انهيار النظام التعليمي.
ويقول مدير مكتب التربية والتعليم بمحافظة تعز الأستاذ عبدالواسع شدّاد “أنَّ 48 مدرسة في تعز خرجت عن الصلاحية ومتضررة بشكل كلّي من الحرب، ولا تستقبل الطلاب حاليًا”، ويواصل شدّاد حديثه: “بينما 264 مدرسة تضررت بشكل جزئي” في المناطق التابعة للحكومة الشرعيّة المعترف بها دوليًا، وهذا يشكل عبئا على الطلاب، ويؤدي الى صعوبات كبيرة في الحصول على التعليم.
ويعيش اليمن أسوأ أزمة إنسانية على مستوى العالم “بحسب وكالات الأمم المتحدة”، وأدت الحرب في اليمن منذُ ما يزيد عن سبع سنوات الى مقتل ما يزيد عن 233 ألف شخص.
تم انتاج هذه المادة بالتعاون مع مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي