كتاب المواطن – روجيه جارودي
ولم تنج الماركسية نفسها، بدءاً من الأشكال التأسيسية التي تلبستها في شرقي اوروبا، من عدوى الوضعية. فقد تحوّل فيها الجدل إلى نقيضه: فبدلاً من أن يكون منهجاً للانسلاخ النقدي عن المعطى وأداة للبحث عن ممكنات جديدة ولخلقها، غداً أيديولوجيا تقريظية وتبريرية.
فحين يُعد التاريخ الإنساني حالة خاصة من حالات «جدل الطبيعة» خاضعة لقوانين «طبيعية» (وهذه هي الحالة القصوى التي ينزع اليها مجتمع مستلب)، نكون قد عدنا إلى لاهوت العناية الإلهية متلبسا شكلا علمانياً. وآنئذ يعود الانسان من جديد «أحادي البعد». وهذا ما يفسر نفور شبيبة الأقطار الاشتراكية من التعليم الالزامي لـ «مادية جدلية» منحطة إلى دين دولة. وحركات الشبيبة، حيثما أمكن لها أن تعبّر عن نفسها، من وارسو إلى براغ، كانت شاهداً مأساوياً على ذلك.
وفي العالم الثالث تفاقمت حدة الاستياء نظراً إلى أن الجامعات فيه لم تعدُ: أن تكون نسخة طبق الأصل عن النموذج الغربي. وبذلك انضافت إلى سيئات ذلك التصور عن المعرفة سيئات أخرى: فقد أفضى هذا التصور عن الثقافة، المبني على المسلّمة القائلة بوجود نموذج ممكن أوحد للحياة المتمدينة، إلى نفي هدام للثقافات المولودة خارج الغرب، أي لجميع الثقافات التي لا ترى في الفعالية التقنية وفي النمو للنمو غاياتها العليا.
ومن اللغو الباطل اتهام هذه الشبيبة بالنزعة القومية وبالظلامية «الإقليمية»: فهي لا ترفض التقنية البتة وإنما ترفض تبعية جميع الغايات الانسانية لتصور غربي عن التقنية للتقنية، هذه التقنية التي لا يؤدي استيرادها إلى بلادها – وتجربة الشبيبة في هذا المجال مريرة قاسية – إلى قهر التخلف وتقليص البون بين أقطارها والأقطار الغربية. إن مطلب الشبيبة في أقطار العالم الثالث ليس مطلب انعزالي، وإنما هو مطلب بـ «حوار حقيقي بين الحضارات» كبديل عن «المساعدات» المزعومة الوحيدة الاتجاه التي لا تني تعمِّق الحفرة.
اذا كان قد بات من المستحيل أن تكون مضامين الثقافة هي نفس مضامين الماضي: لا المقدسات ولا «الآداب القديمة» ولا «العلوم الانسانية»، فماذا يمكن أن تكون اليوم الأسس لـ «ثقافة عامة»، تتجاوب ومتطلبات عصرنا: ثقافة عامة لا ترمي كما في السابق إلى حمل الناس على القبول بنظام معطى، بل ترمي على العكس إلى تهيئة الانسان للتغيّر المتعاظم سرعة في شروط حياته، والى تشديد اللهجة على الروح النقادة والمبدعة لا على تمثل معرفة محددة وأخلاق محددة، وأخيراً ثقافة عامة لا تكون امتيازاً لحفنة من الأشخاص، بل تكون مشرعة الأبواب للجميع حتى يتوفر لكل فرد التكوين والإعلام الضروريان للمساهمة الواعية والخلاقة في المبادرات والقرارات؟
إن الأعمدة الرئيسية الثلاثة لمثل هذه الثقافة العامة يجب أن تكون:
الإعلامية،
الجالية،
التحسبية.
***
إن الإعلامية قادرة على تحرير الثقافة من كل ما هو مراكمة للمعارف لتطور في الانسان وتنمي فيه ما هو انساني صرف: طرح الأسئلة وتقرير الغايات.
ليس المطلوب اليوم تعبئة ذاكرات البشر كما كانت الحال في الماضي، وإنما تعبئة ذاكرات الناظمات الآلية، بحيث يمسي كل طفل، كل انسان، معموراً بكل ثقافة الانسانية المتراكمة، موصولاً بها. أي تعليمه كيفية الحوار مع الناظمة الآلية. هذا المران يجب أن يبدأ في سن مبكرة: ففي بالو آلتو، في كاليفورنيا، يتعلم صغار الأطفال القراءة والحساب وهم يتلهون بالضرب على ملامس المعزف.
وبعد بضع سنوات يكون في المستطاع أن يُفسح الطريق أمام الطفل إلى «بنك المعطيات» الذي تختزن فيه لا معارف الماضي فحسب، بل كذلك اكتشافات الحاضر التي هي في حالة تبرعم دائم والتي تتعدى إمكانيات أي ذكاء فردي في الفهم مهما تكن قدرته على الاستيعاب. إن الحلم القديم، الذي أكل الدهر عليه وشرب، بمعرفة كاملة شاملة، قد بات اليوم من الممكنات وان في شكل غير متوقع: فالذاكرة الموسوعية، المتمكنة من كل معرفة العصر، لم تعد ذاكرة أرسطوطاليس أو ليوناردو دي فنشي، وإنما هي تلك الذاكرة الجماعية، المتجسدة في آلة، التي ليس لها من مزايا غير القدرة على الاستيعاب، وبوجه خاص القدرة على التصنيف والتنظيم.
فضلاً عن ذلك، فإن استجواب الناظمة الآلية هو خير مدرسة للمنطق العيني. فاللغة التي ينبغي أن تطرح بها الأسئلة تتطلب دقة لا متناهية: لم يعد هناك مكان اليوم لإنشاء الجمل الفضفاضة الجوفاء كما هي الحال في «علوم البلاغة» القديمة.
هذا التخفيف من الوزن المتاح للعقل الذي لم يعد مرغماً على تكديس معرفة يملك في كل لحظة أن يستنفر ها بتمامها، وهذه الدقة المطلوبة في فن طرح الأسئلة، قادران على تمكين الانسان (كل إنسان) من أداء مهمته على نحو أكمل إذ يضعان تحت متناوله ذلك المساعد الرائع في اتخاذ القرار وفي استباق العمل.
بيد أن الناظمة الآلية لا تعفينا إلا من المهام الفكرية التكرارية والميكانيكية. ففيها يتلخص المكتسب من العلوم والتقنيات، أي الوسائل التي يمتلكها الانسان ليبني نفسه. وبدءا من هنا يمكن أن ينصرف بملء الحرية إلى خلق الغايات واختيارها.
***
لا يمكن للجمالية أن تكون الأساس الثاني للتربية إلا إذا لم تكن تأملاً ميتافيزيقياً ومجرداً في «الجمال»، أي إلا إذا كانت مراناً على الفعل الخلاق. إن الجمالية يجب أن تفهم ههنا على أنها علم وفن نحيا ونحيي بهما، من خلال الأعمال الفنية، الفعلَ الانساني الصرف الذي يتجاوز الانسان بفضله، من خلال عمل خلاق ومبادرة تاريخية، تحديده بالذات وماضيه وإكراهاته واستلاباته. إن الجمالية تخلق وتبعث اللحظات التي يتخطى فيها الانسان عتبة جديدة من الانسانية عن طريق التمرد، أو الصلاة، أو الحب، أو البطولة، أو الإبداع. فهي تعلّمه أن يستوعب وينتج انبثاق ما هو جديد. إنها تمرس على فن الاختراع من خلال الاحتكاك بأعمال الإنسان.
ليست التربية الجمالية إذن، بحال من الأحوال، هروباً من الحضارة التقنية، ولا حتى موازنة للتكوين العلمي. بل هي مركب أساسي في التربية، أجل شأناً حتى من التربية العلمية والتقنية، ما دام اختراع الغايات يسبق البحث عن الوسائل ويتحكم به.
ونوضح في غير هذا الكتاب، من خلال تحليل الآثار الفنية، كيف أن المشكلة الأولى في التربية، اليوم، ليست وضع الانسان في مدرسة الآلة والتطلع الى مزاحمة الناظمة الآلية والتنافس معها، وإنما المشكلة أن نتعلم كيف نتحكم بها ونعين لها غايات. ولئن كنا اليوم مغامرين، مفرقين بين الوسائل وقوتها، فإن حاجتنا الى فن الاختراع أشد إلحاحاً من أي وقت سبق. وأولى الفضائل التي ينبغي أن نغرسها في النفوس هي الخيال.
فبدون الخيال نرتد بالثقافة الى وظيفة حسابية خالصة، مفترضين أن الغايات متحددة سلفاً ومستخدمين الناظمة الآلية لاستخلاص أحسن النتائج الممكنة من الوسائل. أما الاستعمال الإنساني: غير المستلب، للناظمة الآلية فهو أن نرى فيها وسيطاً بين كتلة المعلومات وبين خيال الانسان الخلاق، لا أن نرى فيها انساناً آلياً ينوب مناب الانسان ويحل محله. فآلة القرن العشرين، بخلاف آلة القرن التاسع عشر التي قضت على الانسان بدور الخادم والوسيلة، قمينة بأن تحرير الانسان من جميع المهام التي ليست طرحاً للمشكلات واختياراً للغايات.
إن التكوين الجمالي الحقيقي هو ثقافة الخيال التي تتيح وحدها إمكانية «الاستخدام الحسن» للناظمة الآلية.
التكوين الجمالي الحقيقي هو أيضاً ثقافة التجربة الحسية التي أصابها الضمور والهزال في تقاليدنا الغربية لصالح المنطق والمقال المنطقي.
إن الجمالية: التي شلتها لحقبة مديدة من الزمن ميتافيزيقاً «الجمال المجرد، أو الشروح الثرثارة لـ «الآية الفنية الكلاسيكية» أو الادعاءات العلمية لقياس الإحساس (تتكرر في علم الجمال المراحل الثلاث ثقافات القديمة: الصوفية الأفلاطونية و«النزعة الانسانية» الإغريقية.. اللاتينية (الخالدة النماذج!) والتصورات الوضعية للعلوم الانسانية، أقول: إن الجمالية يجب أن تستعيد معناها الأول الاتصال الحسي، المباشر. بالطبيعة، بالتعارض مع المصادر الذهنية المتوسطة.
وبخلاف العقلانية الكبيرة عقلانية سقراط أو لايبنز أو هيغل.
وبخلاف العقلانية الصغيرة، عقلانية أوغست كونت الوضعية، بخلاف هاتين العقلانيتين اللتين تريان أنه ليس لشيء من الأشياء من معنى أو حتى من وجود فعلي خارج نطاق ما يمكن إرجاعه إلى العقل ومفاهيمه ومقولاته، يمكن لـ «حوار الحضارات»، مع الثقافات اللاغربية أن يساعدنا على وعي المركِّب الجمالي في معاناتنا للحياة، هذا المركب الذي لا يقل علوً مرتبة ومقام عن المركِّب المنطقي. إن تقاليدنا الغربية ترى إلى المركب الجمالي وكأنه دون ومتخلف.
وهي لا تترك من مكان البتة لما تسميه الطاوية على سبيل المثال بـ «اللاعلم»، أي في الواقع العلم اللامتوسَّط، الفعل أو التأمل اللذين نتطابق بفضلها مع حركة الكينونة. وإذا كنا قد ألفنا منذ أيام سقراط، كما أوضح ذلك نيتشه، أن نهون من شأن ما يفلت من شبكة مناهجنا الذهنية الخالصة، من شبكة فرضياتنا واستنتاجاتنا وتحققاتنا وجدليات مفاهيمنا ولغاتنا فإن التجربة الجالية تساعدنا على الإطاحة بالحقائق الكبرى التي تفلت من هذا السلطان: فحين أحلل لوحة من اللوحات يستحيل علي أن أثبت بطريق البرهان أنها جميلة وأن من الواجب أن تثير انفعالك، وكل ما هنالك هو أني أستطيع في أحسن الأحوال أن أوصلك إلى النقطة التي يصبح فيها بوسعك أن تحس بكل ما عجزت عن البوح به لك.
ويزداد جلاء هذه الحقيقة بالنسبة إلى بعض الفنون الأخرى كالموسيقى أو الرقص. فقد كانت الجوقة في المأساة الإغريقية البدائية تبادر إلى الغناء والرقص للتعبير ولإيصال ما تعجز الكلمات والحركات الإنمائية عن التعبير عنه وعن إيصاله.
إن القلق من الموت، أو الرغبة، أو الحب، أو الإيمان الذي يجعل المؤمن والمناضل الثوري على حد سواء يواجهان التضحية بنفس جذلى، أو الانفعال أمام جال موقع طبيعي أو كائن بشري، إن هذا كله يظل غير قابل للإرجاع إلى المفهوم.
وليست هذه البتة أمارة من أمارات الانحطاط: فالأعمال النفعية والتقنية والأشياء التي تبنيها هذه الأعمال يمكن التعبير عنها بالمفاهيم وباللغة، مثلها مثل حركة الأجرام السماوية أو الذرات. ولكن كل تجربة حياتية أو كل فعل إنساني نوعي يتجاوز المعرفة أو الممارسة اليوميتين يتطلب، كما يُعبر عنه، أن يتم تجاوز تلك اللغة: وهذا بالضبط ما يقوله الرقص أو الموسيقى أو الرسم أو الشعر من خلال فن، مهمته كما كان يقول بول كلي أن «يجعل اللامنظور منظوراً».
ألعلنا حاجة، هنا أيضاً، إلى رسل من الشرق لكي نتغلب على ثنائياتنا ولكي نؤالف بين اللحظة الجمالية واللحظة المنطقية؟ إن السؤال جدير بأن يُطرح كما طرحه نيتشه. أفلم يبدأ تشوهنا وانحطاطنا حين صاغ سقراط هذا القانون الأسمى: أن نعرف الخير فهذا يعني أن نكون من أصحاب الفضيلة، وحين استنتج أخلافه مستتبعات هذا القانون، وعلى سبيل المثال: حتى يكون الشيء جميلاً فلا بد أن يكون معقولاً؟ ألا ينبغي لنا، بعد مرور حوالي القرن، أن نفتح صدورنا لوعد نيتشه التنبؤي: «آمنوا معي بالحياة الديونيسية وببعث المأساة … ولسوف ترافقون من الهند إلى اليونان موكب دیونیسوس …».
هكذا سنتصدى بيد لا تتورع لحسن الحظ عن انتهاك المقدسات لألفي حول من معاكسة الطبيعة ومن الإهانات الغربية للإنسانية. فلقد آن الأوان لإعادة توكيد حقوق دیونیسوس الإله الراقص ضد أبولون الإله النحات والحرفي. أفليس زوربا اليوناني قديساً من عصرنا إذ يميط لنا اللثام عن أن ثمة أشياء أساسية لا يقدر غير الرقص على التعبير عنها؟
أليست الجالية، كما كان يشير غوركي، علم أخلاق المستقبل؟
***
إن التحسبية ستكون الأساس الثالث لتلك الثقافة الملتفتة إلى المستقبل لا إلى الماضي. ولن يكون التمرس بالتحسبية أقل أهمية على كل حال من درس التاريخ. هذا بشرط أن تفلت التحسبية، كالتاريخ، من إسار الوضعية. أما إذا أعارت التحسبية، مثلها مثل التاريخ، اهتمامها كله، كما سبق لنا أن أوضحنا ذلك، لـ «وقائع»، مُنزلة مَنزلة المعطيات، لا منزلة المشاريع المحققة، فلن تكون إلا تاريخاً معكوساً زائفاً. فهي ستكتفي في هذه الحال باستقراء الماضي وتعميمه طارحة السؤال التالي: ماذا سيحدث؟ – ضاربة الصفح عن كل تدخل انساني. ولن يكون لها من مهمة بالتالي سوى أن تعدد، استناداً إلى الانزلاقات الفاجعة أو التفاؤل الساذج، التوقعات التكنولوجية التي ستضع تحت متناول إنسان ثابت الحاجات والمثل العليا الوسائل الجديدة القمينة بتلبية هذه الأخيرة.
هذا مع أن التحسبية تطرح على العكس السؤال التالي: ما القرارات التي ينبغي أن نتخذها لتحويل مجرى الأمور؟
إن غالبية المؤلفات في «علم المستقبل» أو «القصص العلمي» تقدم لنا الكثير من التفاصيل حول الوسائل التقنية التي ستتاح لنا في غضون عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً لتلبية حاجاتنا أو رغباتنا، لكنها نادراً ما تطرح السؤال المتعلق بمعرفة ما ستكون عليه حاجاتنا أو رغباتنا في تلك المرحلة الجديدة من التطور الانساني.