كتاب المواطن – روجيه جارودي
الفصل الأول
تحدي الشبيبة
هذا الكتاب يتناول المستقبل، المستقبل المباشر، أي ذاك الذي في سبيله إلى الانبثاق وذاك الذي يمثل البعد الرئيسي للحاضر. وهو يتناول المستقبل الأبعد أيضًا، أي ذاك الذي يتيح لنا أن نستبق الحاضر وأن نفهمه وأن نسلط الضوء على قراراتنا لكي نبدع ما هو مقبل ونبنيه متكاتفين.
إن المستقبل لا وجود له على طريقة أميرکا قبل كريستوف كولومبوس، فهناك إمكانية لأكثر من مستقبل، ونحن مسؤولون عن كل ما سيكون، وعليه فإن التفكير بصدد المستقبل ليس محض تكهن: وإنما غرضه أن يساعدنا، من خلال رسم الممكنات، على التكهن بنتائج كل قرار من قراراتنا الراهنة حتى يوحي الينا المداخلات القمينة بأن تحقق ما هو مرغوب فيه من تلك الممكنات.
وإذا لم يكن المستقبل بالضرورة على امتداد هواجسنا ومخاوفنا، تبعًا لانحرافات الحاضر المفجعة (أي على فرض أننا لم نبادر إلى العمل)، فإنه ليس بالضرورة أيضًا على امتداد رغباتنا وأحلامنا اذا لم نأخذ بعين الاعتبار، في مشاريعنا، القوى الموجودة والشروط العينية لتحركها والأهداف المحددة التي يمكن توجيه تلك القوى للتلاقي عندها.
لقد بدأ المستقبل من الآن. والشبيبة تذكرنا بذلك يوميًا بما يصدر عنها من أفعال رفض وغضب، والتساؤل بصدد المستقبل قد قبل كل شيء سؤال هذه الشبيبة.
إن الشبيبة تتدفق على هذه الأرض القديمة تدفق أمواج البحر الهائج، إن خمسة وعشرين مليونًا من الفرنسيين، أي نصف شعبنا، لم يبلغوا الثلاثين أو حتى ما دون الثلاثين من العمر، وفي الولايات المتحدة تقل أعمار نصف السكان عن الخامسة والعشرين، ونصف الصينيين تقل أعمارهم عن الحادية والعشرين، وملیاران من أصل أقل من أربعة مليارات من الرجال والنساء الذين على قيد الحياة في العالم قد ولدوا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي كل يوم تستضيف المعمورة مئة وخمسين الف قاطن جديد.
وفي كل مكان من العالم تبادر الشبيبة، التي تؤلف نصف سكانه، إلى الانشقاق أو حتى إلى تأسيس مجتمع مضاد بقوانينه اللامكتوبة وأعرافه واختياراته المغايرة لقوانين النظام المستتب وأعرافه واختياراته.
وعالمية قلق الشبيبة تحظر علينا سلفًا الأجوبة الجزئية التي توحي بها إلينا ميولنا السياسية، كأن نقول : إنه تمرد على تناقضات الرأسمالية! تمرد على البيروقراطية والاستبداد الاشتراكي! انفجار للنزعة القومية ولكراهية الأجانب في العالم الثالث!
ذلك أن الشبيبة ثائرة في كل مكان: هناك حيث تركت لها فرصتها على يد الثورة الثقافية في الصين، وهنا حيث لم تترك لها فرصتها سواء أفي فرنسا أم في غيرها من البلدان عام 1968.
وسواء أأسفنا أم اغتبطنا فإن هذا الموقف يطرح مشكلة أساسية: مشكلة وضع “قيمنا” ومؤسساتنا في قفص الاتهام على نحو جذري، ونحن لا نستطيع أن نتملص من عملية الاستفهام والاستجواب هذه.
وليس القصد هنا أن نكيل المديح الدماغوجي للشبيبة أو أن نصدر بحقها قرار اتهام، وإنما أن نحاول فك لغزها، وقبل كل شيء باستماعنا إليها ومحاولتنا أن نفهم.
إن الشبيبة تواجه اليوم ردود فعل شبيهة بتلك التي أثارتها الطبقة العاملة في مطلع القرن التاسع عشر: فقد كان من الناس من لا يرى فيها سوى خطر داهم: (البرابرة يعسكرون داخل أسوار حواضرنا بالذات!)، ولم تراود النفوس يومئذ غير فكرة القمع والمجازر التي دفعت تاريخ أوروبا بأسره والتي أمكن للحركة العاملة أن تنمو وتتعاظم رغمًا عنها وبقوة لا تقهر أو تصد، وهناك بالمقابل من استشف في الانتفاضات الشائهة صعود ثورة كبرى، ومنذ عام 1968 أنار كتاب نموذجي أفكاري حول الشبيبة: إنه كتاب إنجلز “وضع الطبقة العاملة في انكلترا” المنشور عام 1845. ففي أي موضع من هذا الكتاب لا يضفي إنجلز صفة مثالية على بدائيي التمرد، وإنما كتابه شهادة على ما خلقه التصنيع من عالم (لا يمكن إلا لعرق فاقد لإنسانيته، مذل، منحط إلى مستوى حيواني، سواء أمن وجهة النظر الفكرية أم من وجهة النظر الأخلاقية مريض جسمانيًا، أن يجد فيه مستقرًا له)، وقد وصف إنجلز المزاحمة الوحشية بين العمال للفوز بعمل وبأجر، والتسول، والإدمان على الكحول الذي كف عن أن يكون رذيلة ليمسي “ظاهرة طبيعية”، والبغاء الناجم عن عبودية المصنع والمقبول من الجميع حتى أنه كان يسمى من قبيل السخرية، “الساعة الثانية عشرة من العمل”، ولم يكن هناك من خيار إلا الانحطاط أو التمرد، ولقد بانت الأشكال الأولى من هذا التمرد أشدها عقمًا: تحطيم الآلات واغتيال بني الإنسان، بيد أن إنجاز عرف كيف يستشف في هذه الفوضى الأولية الخطوط البارزة للحركة العاملة المستقبلة التي صعدت بعد خمسة وعشرين عامًا، مع عامية باريس، “لاقتحام السماء”.
وحين احتك الكهنة – العمال(1)، بعد قرن من إنجلز، بهذه الحركة العاملة، تعرفوا فيها، باحترام وتواضع، قوة من أعظم القوى الروحية في عصرنا، قوة (تناضل في سبيل علاقات انسانية جديدة، وفي سبيل تغيير شروط الحياة والكائنات، وفي سبيل رقي جديد للإنسانية).
كانت تلك هي نظرة إنجلز أمام عالم في طريقه إلى الولادة، وتلك هي أيضًا نظرة الإيمان المسيحي حين يرى في ابن الانسان المصلوب وعدًا أكيدًا لا يقهر بالبعث.
هذه النظرية هي وحدها التي تتيح لنا أن نفهم ماهو في سبيله إلى الموت وما هو في سبيله إلى الولادة في تلك الشبيبة وبواسطتها.
وما دامت حكمتنا الصلفة قد أفلست إفلاسًا مدويًا، فلنحاول أن نفهم جنون الشبيبة الإلهي.
***
لقد أتيح لي، بحكم أسفاري ومهنتي وعملي الحزبي، امتياز اللقاء بهذه الشبيبة في مختلف أرجاء المعمورة: من جامعة موسكو إلى مخيمات الطلبة الأميركيين في بركلي أو ستانفورد، والجلوس في سان فرنسيسكو جنبًا إلى جنب مع الهيبيين، والاتصال بـ”الفهود السود”، والنزول ضيفًا على شيوعيي بلغراد الشبان كما على طلبة جامعات استراليا وكندا الكبيرة، والاختلاط بشبيبة برلين أو ميلانو كما بشبيبة نيودلهي أو جاکارتا أو مكسيكو، وتبادل الحديث مع مهندسين زراعيين شبان من “مديرية التحرير” بين القاهرة والاسكندرية ومع عمال أسوان في صعيد مصر.
وبودي بادئ ذي بدء أن أتكلم عما علمتني إياه هذه التجربة مع الشبيبية على صعيد المعمورة بأسرها، لا بصدد أولادي وطلابي فحسب، بل أيضًا بصدد تاريخنا القريب، التاريخ الذي هو في سبيله إلى أن يتم، تاريخ المستقبل.
وإذا ما ربطنا بين الاستجوابات والتحديات، بين المساررات ومشاعر الغضب، بين مظاهر اليأس والصراعات، مهما تكن متنوعة ومها تكن التناقصات عميقة، فإننا لنستطيع -أنا واثق من ذلك اليوم- أن نستشف مستقبلنا الذي يوشك أن يولد: فأنا واثق من أن معالم الاختيار الكبير ترتسم من الآن في إفلاس حضارتنا: وأحيانا في إفلاس ثوراتنا.
هذا بشرط أن نعرف كيف نسمع، فيما وراء الصراخ، ما تدينه هذه الشبيبة وما تبشر به.
إن المشكلات التي يطرحها تحدي الشبيبة مشكلات مستجدة، وفي وسع المرء أن يطمئن إلى أنه لن يفهم شيئًا إذا حاول تهدئة روعه بقوله بينه وبين نفسه: لقد وجد الشباب دومًا… ولقد كنا نحن أيضًا شبانًا تمردنا على أهلنا… وما إلى ذلك.
وحتى نستوعب أهمية ما يحدث، يجب أن ندرك أن الإنسان البالغ من العمر اليوم سبعين عامًا قد ولد في منتصف التاريخ الانساني: فقد حدث من الأشياء منذ ولادته بقدر ما حدث منذ الستة آلاف عام من التاريخ المكتوب.
واذا لم يدرك هذا السيد ذلك، أو اذا أعتقد أن المسالة محض مزحة، فترحى له: فهو يجازف، هو الذي ولد في مستهل القرن العشرين، بأن ينتمي إلى عالم مغاير لعالم أحفاده الذين ولدوا في أواسط هذا القرن العشرين نفسه، والذين تناهز أعمارهم اليوم العشرين أو ما يزيد بقليل، والذين هم في الحقيقة، بحكم التسارع المباغت في وتيرة التاريخ، بدائيو حضارة ستبلغ سن الرشد في نهاية القرن.
إن الانقلاب المباغت الذي انطلقت شرارته منذ منتصف القرن العشرين، والموسوم يتطور الناظمة الآلية Ordinateur والطاقة الذرية والتلفزيون غير قابل لأن يقاس بالانقلاب الذي أحدثه ظهور الآلة البخارية في نهاية القرن الثامن عشر أو ظهور المطبعة في عصر النهضة.
إن الانقلابات الوحيدة المماثلة في سعتها لانقلاب عصرنا قد تكون تلك التي دشنت، بين الألف السادس والثالث ق.م، ميلاد الحضارة، وأعني بها اكتشاف الزراعة واختراع الكتابة وما واكبها من اختراع المحراث والعجلة واكتشاف الملاحة الشراعية والبرونز والخزافة والأقنية والحياة المدينية.
ولم تحدث قط أزمة نمو بمثل هذه الأهمية بين نهاية العصر الحجري المصقول ومنتصف القرن العشرين.
ولنأخذ بعض نقاط الاستدلال حتى نقيس “تغير السرعة” هذا.
لنأخذ أولًا سرعة انتقال البشر: فقد كان السادة الأوائل لإمبراطورية سومر أو فراعنة مصر الأوائل أو العشائر الأولى في سهوب مونغوليا يتنقلون قبل خمسة آلاف أو ستة آلاف عام بنفس سرعة الاسكندر أو قيصر أو نابليون: فقد كانت الوتيرة وتيرة الخيول وابدالها ولم تضاعف السكة الحديدية في القرن التاسع عشر هذه السرعة إلا ثلاث أو أربع مرات، ولم يطرأ تغيير جذري إلا مع الطيران الأسرع من الصوت، وإلا مع الصواريخ المأهولة بوجه خاص.