كتاب المواطن / سلامة كيلة
الخريف الإسلامي
بلا شك كانت حظوظ الإسلاميين أعلى، رغم أن مشاركتهم في الثورات مشكوك فيها، حيث لم يكن لهم وجود فعلي في تونس، بالتالي أيدوا الثورة من الخارج، وفي مصر قرروا عدم المشاركة في اعتصام 25يناير وانخرطوا بعد أن حسم الصراع في 28 يناير، ثم تفاوضوا مع عمر سليمان وكانوا أميل لبقاء حسني مبارك، ثم وقفوا مع المجلس العسكري وباتوا يتعاملون وكأنهم سلطة منذ 12 فبراير، كما أشرنا كانت رمزية معينة قد لفتّ الإسلام السياسي، وهذا ما كان يعطيه أساسًا لشعبية معينة، لكن حتى هذه لم تكن تسمح بأن يسيطر كما حدث دون أن يكون “مفيدًا” للطبقة المسيطرة، وللإمبريالية المسيطرة، فهو ليبرالي اقتصاديًا، ولا يختلف عن النمط المافياوي القائم في رؤيته ومصالح كبار قادته والفئة الطبقية التي يمثلها، وهو ليس معاديًا بالفعل للسيطرة الإمبريالية التي طالما تواصل معها، وتحالف معها، ومن ثم لن يغير في السياسة الخارجية، وكذلك سيكون إشراكه في السلطة تعبيرًا “رمزيًا” لانتصار الثورة، التي كما قلت لم يشارك فيها، وهذا ما كان سيمتص جزءًا من توتر الشارع كما كانت تظن الإمبريالية الأميركية والطبقة المسيطرة، كل هذه العناصر شكّلت الأساس الذي جعل الإسلاميين يصلون إلى السلطة، ليس في تونس ومصر فقط، بل في المغرب واليمن (من خلال تحالف المعارضة الذي يسيطر عليه حزب الإصلاح الإخواني) وليبيا، لقد دعمت الطبقة المسيطرة وبيروقراطية الدولة نحو انتصار الإسلاميين، وهيأت الوضع الإعلامي والعملي (التزوير) الذي يفضي إلى ذلك.
هنا نكون قد دخلنا في “الخريف الإسلامي” كما باتت قوى ليبرالية ونخب، و”يسار ممانع”، وكذلك الإعلام الغربي، تكرر طيلة سنتين بعد انطلاق الثورات، فـ”الربيع” بات “خريفًا” بوصول الإسلاميين إلى السلطة، ومن ثم جرى التعميم بأنه بالأصل لم تكن هناك ثورات، بل مؤامرة أميركية لإيصال الإسلاميين إلى السلطة، رغم أن ما حدث يوضح جملة مسائل مهمة.
أولها أن الطبقة الرأسمالية ما زالت مسيطرة على الدولة، وأن إزاحة الرئيس لم تعن تغيير بنية السلطة، ولهذا يجب الاستنتاج بأن الطبقة المسيطرة تناور من أجل الحفاظ على سلطتها، فكان خيارها هو إدماج الإسلاميين في بنية السلطة كونهم لا يختلفون معها من حيث المنظورين الاقتصادي والسياسي، وفي الوقت ذاته يمكن عبرهم امتصاص جزء من غضب الشارع، وشق الشعب إلى جزء مع السلطة ويدافع عنها نتيجة وصول الإسلاميين للحكم، وجزء وإن بقي يتحرك من أجل المطالب سوف يتلاشى أو يحاصر.
ثانيها أن القوى الليبرالية هامشية، ولا تملك برنامجًا واضحًا كما أشرنا ولا قاعدة شعبية لها، بالتالي يمكن استيعابها بشكل أو بآخر.
ثالثها أن قطاعًا من الشعب راهن على الإسلاميين على أمل أن يجد حلًا لمشكلاته في جعبتهم، ولقد اكتشف بالتجربة أن جعبتهم خالية من الحلول.
لهذا لا يمكن لنا أن نعتبر أن وصول الإسلاميين إلى السلطة هو انقشاع أمر الثورات على “خريف إسلامي”، بل إن الطبقة المسيطرة (وخلفها أميركا) كانت تريد إشراكهم في السلطة، كما أن قطاعًا شعبيًا راهن عليهم، ولأنهم لا يحملون حلولًا للمشكلات المجتمعية، وأنهم ساروا في السياسة التي تريدها الطبقة المسيطرة لأنها لا تختلف عن سياستهم الفعلية، فقد عادت الاحتجاجات لتتصاعد ضد سلطتهم، وأفضت إلى ثورة لإسقاطهم في مصر، وتحرك كبير في تونس، ومن ثم توضح أن إمكانيات سيطرتهم معدومة، فالأمر لم يعد يتعلق بتغيير شكلي في السلطة بل ينحكم لتغيير عميق في البينة الاقتصادية، وهذا ما ليس في وارد الإسلاميين، أو الليبراليين طبعًا، إن فهم طبيعة الثورة، وتحديد الأساس الذي انطلقت منه، يجعل فهم ما جرى أسهل، حيث ظهر أن الضغط الذي شكلته الثورة على النظم أدى إلى حاجة النظم لتغيير شكلها على أمل أن تمتص هذا الضغط وتعطى الزمن اللازم لتفكيك قوة الشعب، وهو الأمر الذي أدخل الإسلاميين في الصورة انطلاقًا من أن لهم رمزية قوية تشكلت خلال العقد الأخير، كما أشرنا، وبالتالي أن لهم شعبية يمكن أن تكون مدخلًا لتفكيك قوة الشعب، أما الإخوان المسلمين فقد اعتقدوا أن لحظة سيطرتهم وسلطتهم قد حان بـ”وعد إلهي”، وأن عليهم التقدم للسيطرة على الدولة، وتغيير موازين القوى في الصراع على السيطرة الاقتصادية لمصلحة الفئة التي يمثلونها بعد أن أصبح واضحًا أن الفئة التي التصقت بالرؤساء (بن علي وحسني مبارك مثلًا) أصبح يجب أن ترحل، وأن تنتهي سيطرتها التي فرضتها بقوة السلطة، وهذا ما فتح الصراع بعد وصول الإخوان إلى السلطة في مصر مع “نخبة السلطة” التي تمثل تلك الرأسمالية المافياوية التي كان يراد نهبها.
سنلمس بالتالي أن الصراع جرى بين فئات من الرأسمالية حول من يسيطر، وظلت مطالب الشعب خارج المعادلة، وهو الأمر الذي أدى إلى ثورة جديدة في مصر وتحرّك لتعديل الوضع في تونس.
إذن، الربيع العربي لم يصبح “خريفًا إسلاميًا” بالضبط لأن الشعب لم يحقق مطالبه التي دفعته لكسر حاجز الخوف التاريخي والتمرّد على النظم الدكتاتورية الشمولية، بعد أن وصل إلى حد العجز عن العيش، لهذا أخذت موجة سيطر الإسلاميين (الإخوان المسلمين بالتحديد) تتراجع وتتلاشى، وانتهت بدعة “الخريف الإسلامي”.
الشتاء الجهادي
رغم أن تنظيم القاعدة ظل ينشط في اليمن (الجنوب خصوصًا)، خلال الثورة وبعدها، وظل الطيران الأميركي يقصف قواعده، ورغم أن “الجهاديين” شاركوا في الثورة الليبية، ولعبوا دورًا عسكريًا في الغرب (طرابلس)، وكان هناك هجوم كبير للتنظيم في مالي دفع الفرنسيين للتدخل، إلا أن مرحلة وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة شهدت هدوء نشاط تنظيم القاعدة عمومًا، وحين نشأت جبهة النصرة وتحرّك تنظيم دولة العراق كان للنظامين السوري والإيراني دور واضح في ذلك، حيث استخدما كعنصر تشويش على الثورة في سورية والحراك في العراق، وعنصر تخويف من الثورة، وتأثير على “القرار الدولي” الذي “يحارب الإرهاب”، ولقد دعمت دول عديدة هذا المسار دافعة بأعداد من “الجهاديين” إلى سورية (السعودية خصوصًا)، بهدف تشويش الثورة كذلك بعد أن أربك توسعها من تونس إلى كل هذه البلدان دول إقليمية (السعودية والخليج عمومًا)، ودولية باتت تعتقد أن عملية الالتفاف على الثورة لم تنجح في وقف توسعها، وأن الالتفاف ذاته بات فاشلًا.
كان واضحًا أن تشكيل داعش بتجاوز تنظيم دولة العراق لحدود العراق باتجاه سورية، له مغزى ما، وكان يظن أن الهدف هو إدخال قوة التنظيم الموجودة في العراق إلى سورية لمواجهة الكتائب المسلحة وتكفير الشعب بالثورة عبر فرض سلطة مغرقة في أصوليتها وتخلفها وجهالتها، خصوصًا أن التنظيم شوش منذ سنة 2011 على الحراك الشعبي العراقي، واشتغل بما يظهر هذا الحراك في المناطق الغربية من العراق في شكل أصولي “جهادي” سني، ومنذ 13 إبريل/ نيسان سنة 2013 تشكّلت داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، التي ركزت نشاطها في شمال وشرق سورية، المناطق التي كانت السلطة قد انسحبت منها منذ مايو/ أيار سنة 2012، والتي كانت تسيطر عليها الكتائب المسلحة، والشعب المحرّر.
خلال ذلك، أي منذ أواسط سنة 2012 أخذت تتشكل كتائب إسلامية من “جهاديين” قاتلوا مع تنظيم دولة العراق، وسجنوا في سورية، ولقد أُطلق سراحهم بعد أشهر من بدء الثورة، وبعضهم أُطلق سراحه بعد عام منها، وهؤلاء من شكّل جبهة النصرة، وبات يظهر أن القوى الكبرى في العمل المسلح في سورية هي قوى أصولية، تشكلت كلها من هؤلاء المفرج عنهم، في سياق السياسة التي اتبعتها السلطة لتخريب المناطق التي انسحبت منها واعتبرت “محررة”، واختراقها عبر اختراق هؤلاء، فتشكل تنظيم أحرار الشام، وصقور الشام، وجيش الإسلام، وعديد مجموعات أخرى لها طابع إسلامي أصولي.
وحين كانت الأمور منحصرة في سورية لم يلتفت أحد ولا أثار الأمر حفيظة أحد، لأنه كان مطلوبًا أن تتحول الثورة إلى صراع طائفي، وعمليات قتل وتدمير متبادل، لكن تغير الأمر حين تفجر الحراك في العراق، وبدا أن داعش تلعب على تشويهه، وارتكاب مجازر بحق المسيحين والأزيدييين، ثم الزحف نحو الأكراد، بدا الأمر في البداية أن كتائب مسلحة عراقية من العشائر ومن القوى التي قاتلت الاحتلال تزحف نحو بغداد، لكن فجأة تبين أن داعش تقلب الأمور لتشويه الحراك، ثم للضغط على الأكراد، في سياق سعي المالكي لفرض إعادة تعيينه رئيسًا للوزراء، لكن كان الزحف نحو أربيل مدخل أميركا للعودة إلى العراق، ومن ثم التدخل في سورية.
لكن داعش التي “أقامت دولة الخلافة” من الموصل بدت أنها تتحول إلى تنظيم عالمي يتجاوز تنظيم القاعدة، ويوجد له مؤيدون في كل “العالم الإسلامي”، وليتوسع نشاط “الجهاديين” بين سورية والعراق واليمن وليبيا بحيث ظهر أننا نعود إلى صراع “الجهاديين” من أجل ذلك، هنا بدأ الحديث عن “الشتاء الجهادي”، بمعنى أن “الفوضى الخلاقة” أخذت تتحقق بالفعل، وأن الثورات كانت مدخل الوصول إلى الفوضى، التي سمحت لهؤلاء بأن يتمددوا، إذن، بتنا في “الشتاء الجهادي” وليس في ثورات، وعاد الصراع ليظهر كما كان منذ بدء “الحرب على الإرهاب” بعد الحادي عشر من سبتمبر.
نحن في “الشتاء الجهادي”، بالتالي أين الثورات؟
2) الثورات في إطارها العالمي
ما أشير إليه قبلًا يتعلق بمسار الثورات والأشكال التي ظهرت فيها، أو ما درج الخطاب الإعلامي على إدراجها فيها، فلا شك في أن غياب الأحزاب التي تحمل مطالب الشعب وتناضل معه، ومن ثم تدفعه للصراع بشكل منظم وواضح الهدف، سوف يسمح لقوى أخرى لا تمثله ولا تحمل مطالبه لأن تتبوأ السيطرة، وهنا ليس المعجزة هي التي فرضت نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات، ولا هي التي سمحت باستمرار دور الليبراليين، بل إن موازين القوى التي نتجت عن الثورات هي التي سمحت بذلك، خصوصًا أن الثورة لم تفرض تغيير النظام السياسي الاقتصادي، ولا فرضت ممثليها في السلطة، بل إن مناورات الطبقة المسيطرة هي التي ظلت تتحكم بـ”اللعبة السياسية”، وبالتالي هي، والمركز الإمبريالي المسيطر، من دقع المسار في السياق الذي شهدناه وليست الثورة ذاتها، التي لم تفعل سوى هز السلطة، وإضعاف بعض مراكز القوة فيها، وإشعار الطبقة المسيطرة بأن الأمر يحتاج إلى تغيير لامتصاص الأزمة العميقة قبل أن تطيح.
الآن، ولأن الطبقة المسيطرة تشكلت بالترابط مع المركز الإمبريالي، ونشأت وسيطرت بالضبط نتيجة الارتباط به، هذا المركز الذي فرض نمط الاقتصاد الريعي والاقتصاد المفتوح وإنهاء دور الدولة الاقتصادي والخصخصة، لكي يضمن نشاط احتكاراته التي تريد السيطرة الاقتصادية من أجل النهب، هذا المركز كان معنيًا مباشرة في التأثير على مسار الأحداث، والتدخل بما يضمن استمرار الوضعية التي شكلها خلال أربعة عقود سابقة، خصوصًا وأن النمط الرأسمالي عمومًا، والأميركي أساسًا، يعاني أزمة اقتصادية عميقة، وهائلة الخطر، وحين نشبت الثورات كانت الإدارة الأميركية تتوصل إلى استنتاج أنه لا حل لهذه الأزمة، وأن المطلوب هو إدارتها فقط، وكانت أخذت في التحضير لإستراتيجية جديدة تنطلق من إعطاء الأولوية لآسيا والمحيط الهادي وليس لـ”الشرق الأوسط”، لهذا كان الوضع مربكًا لها، لأنها لا تريد خسارة المنطقة كذلك، لكن الإرباك الأهم كان في أن الأمر لم يتوقف عند ثورة في بلد أو بلدين، كانت تعتقد أنه يمكن السيطرة على الوضع فيهما، بل امتدت إلى كل المنطقة العربية، وكان يؤشر ذلك إلى احتمالية توسعها أكثر في عالم يعاني أزمة عميقة لا حل لها.
محاولة تنفيس الثورات
الخطوات الأولى كانت السعي لوقف الثورات عبر تحقيق التغيير السريع، ظهر ذلك في تونس حيث سارع باراك أوباما للضغط من أجل تنحية بن علي، فوقف مع الشارع، وتابع من أجل رحيل بن علي، في مصر ظل الوضع غامضًا إلى أن قالت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية حينها أن وضع النظام مستقر، وأنهم يراهنون على حسن مبارك، تغير الأمر في اليوم التالي مع تصاعد الحشود وتوسع التظاهرات، حيث دعا أوباما حسني مبارك إلى التنحي، وظل يضغط من أجل ذلك إلى أن حصل الأمر يوم 11/3.
المنطق العام الذي حكم هو أنه يجب أن تنتهي الثورات بسرعة قبل أن تتوسع، محليًا مما يدفه الوضع إلى مرحلة تصعب السيطرة عليها، وخارجيًا خوفًا من انتقال العدوى إلى بلدان أخرى، في تونس لم تكن التضحية صعبة، لأن بن علي محسوب على الفرنسيين الذي دافعوا عن استمراره في السلطة، وبالتالي يصبح التغيير مفيدًا في إيجاد بديل مناسب أميركيًا، أما في مصر فكان الوضع صعبًا لأن التضحية تتم بـ”صديق” مهم، هذا هو سبب التردد الأميركي في الأسبوع الأول، لكن لم يكن هناك خيار عن التغيير، خصوصًا بعد أن انفلت الوضع بعد 7/2 مع بدء الإضرابات العمالية، ثم إضرابات الصحفيين والنقابات ومؤسسات الدولة، وبدء تحرك محدود في الريف، بالتالي دفعت الإدارة الأميركية لتحقيق التغيير بكل قوة في الأيام الأخيرة من عهد مبارك.
كان واضحًا أن الولايات المتحدة تفاجأت بالثورة، وهذا ما تردد في إعلامها كثيرًا (كما تفاجأت الدولة الصهيونية وأشير إلى ذلك في عدد من المقالات)، لهذا سارعت إلى وقفها لأنها كانت تلمس بأن الوضع العالمي قلق، وبالتالي أعطت الثورة مؤشرًا إلى أن ذلك يمكن أن ينتقل بسرعة إلى مناطق عديدة لا تستطيع تحديدها، حالة خطرة، وكان عليها أن تتعامل معها بالسرعة الكلية قبل أن تشعل النيران بما لا يسمح بإطفائها، هذا ما كان في أساس القرار بالتنحية في تونس ومصر، لكن السؤال الذي طرح هو: ما البديل الذي يحافظ على المصالح الأميركية، ويبقي النظم والبنى الاقتصادية كما صيغت منذ بدء سياسة الانفتاح قبل عقود؟
ربما كانت الإدارات الأميركية تلمس “ضعف” النظم التي شكلتها، من حيث فقدانها الشعبية بعد أن أسست السياسة الاقتصادية لانتشار واسع للفقر والبطالة والتهميش، لكن كذلك من حيث وضعها الشعبي على ضوء سياستها تجاه الولايات المتحدة والدولة الصهيونية، لهذا حاولت منذ نهاية تسعينات القرن الماضي أن “تدمج” الإسلاميين بهذه السلطة، وأن تستفيد من وضعهم و”قوتهم التنظيمية” و”خطابهم الأيديولوجي”، بحيث تتوسع قاعدة السلطة وتركن إلى حزب متماسك، وتستخدم أيديولوجية الدين في توهيم الشعب، لكن سياسة “الحرب على الإرهاب” التي ربطت ذلك بـ”الإسلام” منعت السير في مسار كان قد أثار النظم أصلًا، خصوصًا النظام المصري الذي اتهم الولايات المتحدة نهاية التسعينات بدعم الإسلاميين وحتى “الجهاديين”، وكان مجال خلاف مع هذه “النظم”، أعيد طرح مسألة “الإسلام المعتدل” بعد نجاح باراك أوباما في انتخابات الرئاسة خلال “خطاب القاهرة” سنة 2009، ثم “خطاب استنبول”، لكن الأزمة المالية التي حدثت في 15 سبتمبر سنة 2008، وبالتالي الدخول في الارتباك حول الاستمرار في الحرب على الإرهاب أو وقفها، كان يهمش الاهتمام بالأمر.
لهذا حال حدوث الثورات، ومع مناورة الالتفاف عليها عبر إبعاد الرئيس، بات من الضروري تعزيز النظام التابع بـ”قوة شعبية”، بعد أن كانت التطورات خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين قد جعلتها كذلك كما أشرنا قبلًا، الأمر الذي فرض العمل على فكرة إشراك جماعة الإخوان المسلمين في السلطة الجديدة، هذا ما اشتغلت عليه الإدارة الأميركية منذ لحظة القرار بإبعاد حسني مبارك، وبالتالي طال الوضع التونسي الذي كانت حركة النهضة فيه في علاقة وثيقة بالإدارة الأميركية، لكن كادراتها كانت في الخارج نتيجة القم الشديد الذي مارسته سلطة بن علي، وعلى ضوء ذلك جرى التوافق مع “النظام القديم” والجماعة على أن يصبحوا جزءًا من “النظام الجديد”، بالتالي عملت بيروقراطية السلطة وإعلامها على دعم وصول هؤلاء إلى السلطة، في تونس بدون البيروقراطية القديمة (بقايا الحزب الدستوري الذي انخرط جزء منه أصلًا في حركة النهضة)، وفي مصر بالتحالف معها، على أساس تقاسم السلطة، ومن ثم توسعت مشاركة الإسلاميين في السلطة كما أشرنا، وبدا بعد توسع الثورات أن الإدارة الأميركية دفعت نحو سيطرة كاملة لجماعة الإخوان المسلمين على السلطة، أي بعد السيطرة على البرلمان ترشحت للرئاسة وسيطرت عليها بضغط أميركي مباشر.
ويبدو هنا أن الإدارة الأميركية باتت تسعى لأن تؤدي سيطرة الإسلاميين على السلطة وتحكمهم فيها إلى تكرار التجربة السودانية من حيث نهب البلد تحت مسمى إسلامي، وتفكيكها نتيجة الصراعات التي ستنتج من رفض سطوة الإسلاميين، ومن تدخلات هؤلاء “الدينية” و”الأخلاقية”، وبالتالي تسعير الصراعات الطائفية والمناطقية، بما يؤدي إلى تفكك مصر.
هذا المشهد الذي فرض وصول الإسلاميين إلى السلطة هو الذي أنتج فكرة تصوير ما يجري بأنه “خريف إسلامي” وأكثر ما طرح الأمر في هذه الصيغة تلك القوى التي “قاتلت” من أجل الحرية والديمقراطية، والتي باتت ترى أن الانتخابات تؤدي حتمًا إلى فوز الإسلاميين، فمالت إلى دعم “الدكتاتورية”، أو الكفر بالثورات.
“خريف إسلامي” تصنعه الإمبريالية الأميركية، هكذا أخذ يردد “الممانعون”، و”اليسار العالمي” الذي يندرج في هذا “الجارور”، ولا شك في أن الشغل الأميركي على إيصال الإسلاميين كان يعزز هذا الخطاب، لكن هؤلاء الإسلاميين هم حلفاء الأمس، وكانت الهالة الكبيرة التي أعطيت لهم، والي سهلت لهم الوصول إلى السلطة، هي نتيجة اللهاث لتأييدهم من قبل هذا اليسار الممانع.