كتاب المواطن / سلامة كيلة
محاولة وقف الثورات:
الثورة السورية كمجزرة
بعد الحادي عشر من فبراير/ شباط انفجرت ثورة اليمن ثم البحرين فليبيا (12-17/2)، لهذا بات الوضع أكثر خطورة لأن المناورة في تونس ومصر لم تمنع امتداد الثورة إلى هذه البلدان، لهذا جرى غض النظر على تدخل السعودية لسحق الثورة البحرينية بالقوة، وأصبحت السعودية باسم دول الخليج هي المعنية بحل سياسي في اليمن، وكانت قادرة على جذب المعارضة من أجل قبول الحل، وبهذا دخلت المفاوضات من أجل فرض الحل أشهرًا، والحراك يسيطر على الميادين دون أن يتقدم أكثر، وهو ما سمح لـ”مسخ” الثورة عبر الوصول إلى حل هامشي، في ليبيا تطورت الأمور بسرعة نحو الحرب المسلحة نتيجة عنف نظام القذافي من جهة، وانشقاق الجيش من جهة أخرى، الأمر الذي دفع فرنسا لأن تضغط من أجل التدخل العسكري، ولحقتها إيطاليا (أصدقاء القذافي)، وظلت أميركا مترددة لأكثر من شهر قبل أن تحسم بالموافقة على التدخل الجوي بقرار من مجلس الأمن، وأن تشارك بشكل محدود.
حين وصل الأمر إلى سورية في 15/3/2011 كان الخوف من الثورة يتصاعد، حيث نشأ تحرك مهم في الأردن، وأيضًا في العراق، وفي المغرب في 20فبراير، وعمان (وكان قد نشأ بسرعة في الجزائر)، السعودية باتت معنية بوقف “المد الثوري” لأنها أحست أنه سيصلها بالضرورة بعد أن أحاط بها (من مصر واليمن والبحرين وسورية، وأيضًا الأردن والعراق)، وكل القوى الدولية أحست بأن الأمور تفلت، وأن الثورة تدق أبوابها (من روسيا وإيران إلى أوروبا وأميركا)، فهي تعيش أزمة في وضع اقتصادي مشابه، أو أنه متفجر.
كل ذلك فرض الانتقال من المناورة والالتفاف على الثورة إلى تحويلها إلى عبرة لكي تثير الرعب لدى كل من يفكر في الثورة، ربما لم يكن الأمر واضحًا بهذا الشكل، لكن مجمل الممارسات كانت تقود إلى ذلك، ولا شك في أن الدول الإمبريالية، والدول الإقليمية تعرف بنية النظام السوري وتفهم منطقه، وتعرف أنه لن يتنازل عن السلطة مهما كانت النتائج.
هذا واضح في تكوين الحلقة الضيقة في السلطة، وخصوصًا أنه يمكن استفزازها لكي تتشدد أكثر، لكن ما جرى الشغل عليه إقليميًا (من السعودية خصوصًا) هو مطابقة السياسة التي اتبعتها السلطة، والتي قامت على إظهار الثورة في ثوب أصولي إسلامي، لأن ذلك كما يعتقد النظام سيعزز ارتباط الأقليات و”العلمانيين” به، ويظهر الثورة كحراك إخواني أصولي، ومن ثم الدفع لتحويل الثورة إلى صراع “طائفي” أو بين “متحاربين”، وينتهي الأمر باعتبار أن ما يجري هو “نزاع أهلي” يحتاج إلى تدخل دولي من أجل حله، في المقابل كانت روسيا، التي حصلت على امتيازات كبيرة لكي تحممي السلطة في مجلس الأمن، تريد تعزيز قوة السلطة، وكذلك إيران.
أميركا كانت تراقب في السنة الأولى من الثورة نتيجة ارتباكها بعد التوصل إلى العجز عن حل الأزمة المالية، وهذا ما سمح لـ”اتباعها” بالشغل كل لمصلحته (السعودية وقطر وتركيا وفرنسا)، لكنها مالت لأن تجعل الروس يرعون مرحلة انتقالية “كما حدث في اليمن” كما قال باراك أوباما بداية سنة 2012 لكنها والروس ظلا يتلكآن في ظل دفع سعودي تركي إقليمي لتعزيز القوى الأصولية وتهميش الثورة، وحين عقد مؤتمر جنيف كانت السلطة في وضع سمح لها إفشاله دون ضغط روسي يفرض عليها الحل.
بهذا ارتبك وضع الثورات، وتوقف توسعها، وتمحور الانتباه لما يجري في سورية، وسط تصاعد الصراع وسيطرة العنف والدموية، بل الوحشية عليه، ووسط وحشية لا مثيل لها لسلطة لا تتورع عن تدمير سورية انتقامًا من تمرد الشعب عليها، ودفاعًا عن سلطة لا تريد التنازل عنها، لقد باتت الثورة باهظة التكلفة، لأنها شديدة الدموية، بالتالي لم يعد سهلًا النزول إلى الشارع والمطالبة بإسقاط النظام، وبات لا بد من حسابات أخرى، وتدقيق أشد، وتأمل.
لقد أغرقت الثورة بالدم وبأجساد الثوار، ومسحت قرى وأحياء ومناطق، وتشرد ملايين، واعتقل مئات الآلاف، ثم سيطر الأصولين، هذا ما فتح لمرحلة أخرى عنوانها “الحرب على الإرهاب”، العنوان القديم الذي عاد بشكل باهت هذه المرة.
الهجوم الإمبريالي المضاد:
الحرب على داعش
داعش هي توحيد لفرعين من تنظيم القاعدة، هكذا أعلن أبوبكر البغدادي في 13/4/2013 “تنظيم دولة العراق الإسلامية” التي هي استمرار لتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وجبهة النصرة التي تشكلت في أيار/مايو سنة 2012 في سورية من كادرات “جهادية” أخرجتها السلطة من السجن للتو، وهي كادرات كانت تقاتل أصلًا مع تنظيم دولة العراق أو مع سلفه، لكن قيادة الجبهة وجزءًا من عناصرها رفضت الوحدة واستمرت تعمل باسم جبهة النصرة.
في العراق كان تنظيم دولة العراق قد تلاشى تقريبًا بعد قتال العشائر العراقية والتنظيمات التي كانت تقاتل الاحتلال الأميركي (كتائب ثورة العشرين وجيش المجاهدين،،،)، لكن يبدو أن الانسحاب الأميركي سمح لإيران “السيطرة عليه”، خصوصًا وأن علاقة كانت تجمع بينهما، حيث كانت إيران ممرًا لتنظيم القاعدة، وكان هناك قادة منه يعيشون في إيران، ولهذا تحرك بعد بدء الاحتجاجات التي أثارتها الثورات في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا، وكان يبدو أنه يشوش على الحراك ويعطي المبرر لسلطة المالكي للرد العنيف، كما حدث في الاعتصامات في المنطقة الغربية التي جرى فضها بعنف، وكذلك الاحتجاجات في الأنبار التي جرى الرد عليها بالسلاح.
في سورية عملت السلطة على أن تتشكل جبهة النصرة، وأن تُزرع في المناطق التي انسحبت منها لكي تريك الثورة وتشغلها في صراع آخر غير الصراع مع السلطة، هذا كان الدور الأساسي لهذا التنظيم قبل أن يحل محله تنظيم داعش، رغم ذلك يلعب هذا الدور في العديد من المواقع التي ليس لداعش نور فيها، لقد كان توحيد التنظيمين ملفت لأنه تجاوز سايكس بيكو من حيث الحدود الجغرافية، وحيث باتت داعش هي التنظيم الذي يلعب الدور الأساسي في مواجهة الثورة وقتل نخبها وكادراتها والسيطرة على مناطقها دون احتكاك حقيقي مع السلطة، وظهر واضحًا دعم نوري المالكي لها، لهذا يمكن القول إن ما تقوم به هو أن تلتهم الثورة، لكي يصبح الأمر هو حرب ضد الإرهاب تسمح بإعادة تكريس النظام السوري.
بالتالي كان واضحًا أن داعش تعمل في سياق سياسة السلطة السورية، كما الحكومة العراقية، وتركز دورها على تخريب الحراك وإعطاء المبررات لاستخدام العنف وتشويه الثورة، ولهذا استخدم لتخريب الحراك العراقي الذي بدأته قوى كانت تقاتل الاحتلال والعشائر لإسقاط النظام، وظهر أن المالكي يلعب بهذه الورقة لكي يعود رئيسًا للحكومة.
التحول الذي حدث تمثل في “عودة أميركا” لكي تخوض “الحرب على الإرهاب”، ومن ثم ظهر أن داعش هي في الأخير تخدم التكتيك الأميركي، ربما أعيرت للسلطة السورية والنظام الإيراني في الفترة السابقة لممارسة ما لا ترفضه أميركا، لكن بات عليها الآن أن تخدم تكتيكًا يتعلق بأميركا بالتحديد، هنا بات واضحًا أن “الحرب على الإرهاب” هي الشكل الجديد للالتفاف على الثورة، حيث عاد يظهر دور “الجهاديين” بشكل لا سابق له، فعدا بعض العمليات في اليمن لم يكن هناك نشاط كبير لهؤلاء حين كان مطلوبًا أن يستلم الإخوان السلطة، الآن بعد أن سقط هذا الخيار يبدو أن الإدارة الأميركية تعيد استخدام هؤلاء في سياسة تهدف إلى تدمير الثورات بالأساس، لكنها تخدم تحقيق بعض المكتسبات لها بعد أن أحست في لحظة أنها تخرج من المنطقة تمامًا بعد إعطائها الأولوية لآسيا والمحيط الهادي.
كان خطأ إيران والمالكي هو دفع داعش للتقدم نحو أربيل، الأمر الذي سمح للإدارة الأميركية بالتدخل، بعد ذلك أصبحت ممارسات داعش هي المدخل لتقدم الدور الأميركي (التعدي على المسيحيين في الموصل، ثم على الأزيديين، قتل الصحفي الأميركي)، لنعود إلى “التحالف ضد الإرهاب)، ولتوسيع الحرب من العراق إلى سورية، لكن فقط عبر القصف الجوي، على أمل إيجاد قوى على الأرض تقوم هي بالمهمة المباشرة لطرد داعش، لكن من الواضح أن الأمر بعد من داعش، وأن “الحرب على الإرهاب” لها أهداف أخرى غير الإرهاب، بالضبط كما كانت الحرب الأولى على الإرهاب التي قادها جورج بوش الابن، وإذا كانت أميركا تهدف إلى التضييق على إيران من أجل إضعاف قدرتها على المناورة في المفاوضات الجارية من أجل البرنامج النووي، ومن أجل الوصول إلى تفاهم مشترك على حدود الدور الإقليمي لإيران، لهذا تضغط من أجل تقليص سيطرتها على السلطة في العراق، وتناور في سيطرتها على السلطة في سورية، فإنه يمكن وضع الأمور في إطار أوسع قليلًا، يتعلق بالثورات أساسًا، هذا الهم المؤرق للسياسة الأميركية.
لهذا يمكن أن نقول إنه إذا كانت أميركا في المرحلة الأولى من ردها على الثورة قد دعمت “الديمقراطية” من أجل تنصيب الإسلام السياسي في السلطة، فهي الآن تعود إلى “الحرب على الإرهاب” لتشويه الثورات وحرف الصراع من شكله الثوري إلى شكل “الحرب على الإرهاب”، خصوصًا أن داعش باتت تنظيمًا عالميًا بات يشكل البديل لتنظيم القاعدة، وربما هذا يوضح السبب الذي جعله ينشق عن التنظيم الأم، وأن يسيطر على النشاط في سورية والعراق، بالضبط من أجل ألا يجري الربط بين الحالتين، ليظهر الأمر الآن وكأنه إنقاذ لدول باتت مهددة.
إذن عدنا إلى “الحرب على الإرهاب” بعد أن تخيلنا أننا دخلنا عصر الثورة، هذا ما تريد أميركا قوله لنا: إن الثورة تخيّل وإن الأمر يتعلق بمحاربة الإرهاب، وبالتالي إن كل الجهد يجب أن ينصب في هذا السياق، ففي سورية لا يتعلق الأمر بسلطة الأسد وبكل الجرائم التي ارتكبها، بل في داعش التي “تمددت أكثر مما يجب”، وفي الأخير المساومة مع إيران للوصول إلى توافق على صيغة لوضع المنطقة.
لهذا علينا أن نطوي الأوهام حول الثورة.
3) عالم ثوري
الثورات مستمر وتتوسع
بدأت الثورات بعد انفجار الأزمة المالية سنة 2008، وبعد تبلور القناعة في أميركا على أن وضعها بات صعبًا، ولهذا انسحبت من “الحرب على الإرهاب”، لكنها حاولت المناورة لتلافي توسع الثورات أولًا، ثم لإعادة صياغة النظم بما يجعلها “قادرة على مواجهة الوضع” كما اعتقدت عبر استلام الإسلاميين السلطة، لكنها عادت باسم “الحرب على الإرهاب”، ليصبح الصراع هو صراع ضد الإرهاب، الإرهاب الذي صنع من قبل أميركا والنظم في سورية وإيران والسعودية وتركيا.
الآن، ماذا سيكون مصير الثورات؟ وهل ستستطيع الإمبريالية الأميركية إسدال الستار عليها؟
أولًا لا بد من أن نلاحظ بأن الأزمة المالية لم تنته، على العكس من ذلك أصبح النمط الرأسمالي يعاني أزمة عميقة لا حل لها، وباتت تنفجر في شكل فقاعات مالية، كان أبرزها ما حدث في 15 سبتمبر سنة 2008، لكن طابع الرأسمالية التي تشكلت منذ سبعينات القرن العشرين بات “ماليًا”، أي أن الكتلة المالية التي تنشط في المضاربة باتت هي الأضخم، وباتت الطغم المالية هي المسيطرة، لهذا أصبح انفجار الفقاعات المالية أمرًا لا يمكن وقفه، حيث أصبح يشكّل تهديدًا مستمرًا للرأسمالية، ولقد فرض ذلك أن تتحمل الدول الأعباء التي تنتج عن كل انهيار مالي عبر “دعم البنوك” التي لا يجب أن تنهار حتمًا، لأنها بنوك الطغم تلك المسيطرة في النمط، وهو الأمر الذي جعل الدولة تحاول حل تراكم مديونيتها من خلال سياسة التقشف وزيادة الضرائب، التي تعني نقل الأعباء على الطبقات الشعبية، لهذا أخذت الدولة تتحلل من كل التزاماتها التي قامت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفق ما أسمي بـ”دولة الرفاه”.
احتمالات حدوث انفجارات مالية في الفترة القادمة كبيرة، وسوف تزيد من مشكلة الدول والشعوب بشكل أكبر مما حدث في الانهيار المالي السابق، وهو الأمر الذي يعني دفع الشعوب إلى الثورة، بالتالي نحن في عالم ينزع نحو الثورة، هذا هو المبدأ الأساسي في الوقت الراهن، وهو ما سينعكس على سياسة أميركا وعلى مقدرتها على الحرب، ليبدو أن ما تمارسه الآن في “الحرب ضد الإرهاب” هو الشكل الكاريكاتوري للحرب السابقة التي أدت إلى احتلال أفغانستان والعراق، وتوسيع الوجود العسكري الأميركي في العالم، الأمر الذي يعني أن ما تحاوله الآن في سورية والعراق سيكون عابرًا.
ثانيًا ما حدث في البلدان العربية هو ليس “ثورة نخب” من أجل الحرية، بل هو ثورة شعب يريد تحقيق مطالبه “الاقتصادية” (العمل والأجر والتعليم والصحة والسكن)، وهذه لن تتحقق إلا بتغيير النمط الاقتصادي القائم، وما دام الشعب لم يعد يستطيع تحمل الوضع الذي هو فيه فلن يعود خانعًا بل سيستمر في الثورة إلى أن يحقق مطالبه، هذه بديهية يجب أن تبقى واضحة في خضم التشويش والتشويه واللعب بالثورات، ورغم كل الدفع لتحويلها إلى حرب طائفية وصراعات أهلية.
لا شك في أن غياب “المطابق السياسي” للطبقات الشعبية، الذي يحمل مطالبها ويبلور تكتيكاتها، ويضع الإستراتيجية التي توصل إلى استلام السلطة، فتح على تدخلات عديدة، منها الدولي والإقليمي عبر الدفع بقوى أصولية سلفية “جهادية” ليس دورها سوى إرعاب الشعب والصراع ضد الثورة، ومنها المحلي الذي نتج عنه تخلف البنى واستمرار الترابط القائم على العائلة والمنطقة والطائفة، واستمرار نزاعات قديمة تنهض في لحظة ضعف الدولة، وكل ذلك كان يشوه الثورة، ويكبح توسعها وتطورها، لكن كل ذلك لا يستطيع أن يخفي الأساس الذي انفجرت الثورة نتيجته، وهذا يعني أن سياق الثورة سوف يفرض إعادة بناء المطابق السياسي الذي يعبر عنها.
إذن، نحن في وضع عالمي مقبل على الثورة، وفي وضع محلي يفرض أن تستمر الثورة وتتطور رغم كل العراقيل والتدخلات التي تهدف إلى تدميرها، بالتالي لقد بدأت الثورات في 17ديسمبر/كانون الأول سنة 2010 ولن تتوقف قبل أن تحدث التغيير الضروري لانتصار الشعب.