كتاب المواطن / سلامة كيلة
الفصل السابع:
في عالم ثوري الثورات العربية في مسارها الراهن
1) الثورات في مسارها
أساس انفجار الثورات: الصراع الطبقي
موجة الثورات التي اجتاحت ست بلدان عربية (تونس، مصر، اليمن، البحرين، ليبيا، وسورية)، ومدت أشرها على البلدان الأخرى (الجزائر، المغرب، الأردن، العراق، عمان، جزئيًا السعودية، ومن ثم السودان)، بدأت من حالة البوعزيزي الذي حرق ذاته نتيجة التضييق عليه في معاشه، وهو الأمر الذي فتح على طرح مسألة البطالة وحق العمل، فكان الشعار الأول هو “العمل استحقاق يا عصابة السراق”، وتوسع ليشمل الأجور، ولقد ظل الحراك متركزًا على المطالب الاقتصادية هذه أيامًا عديدة قبل أن تطرح مسائل الحريات والديمقراطية، التي طرحها دخول بعض الأحزاب على خط الحراك الشعبي (وهي في الغالب ماركسية)، ومن ثم ليصل إلى طرح شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وتجري الدعوة لرحيل بن علي، أيام قليلة قبل الرحيل فقط.
بمعنى أن الوقع الاقتصادي المباشر هو الذي حرّك الشعب لكي يقوم بهذه الثورة هائلة القوة، وهذا ما كان واضحًا في مصر، حيث تضمنت الدعوة لـ”الاعتصام يوم 25يناير” طرح ثلاثة مطالب “اقتصادية”، هي ما كان يحمله حراك العمال والفلاحين والعاطلين عن العمل، وهو الحراك الذي تصاعد بكل عنفوان منذ حراك سنة 2006، وتوسع لكي يشمل مختلف طبقات الشعب المفقرة والمناطق المهمشة، المطالب كانت الحد الأدنى للأجور (الذي كان قد تحدد بقرار قضائي بـ1200جنيه)، وحق العمل للعاطلين عن العمل، وإعادة الفلاحين للأرض التي طردوا منها بعد صدور قانون سنة 1991 يقر إعادة الأرض المستملكة بموجب قوانين الإصلاح الزراعي، ولهذا، إذا كانت النخب من المعارضة السياسية تطرح مطالب الحريات والديمقراطية وضد التمديد والتوريث، فقد كان من صنع الثورة هم هؤلاء المفقرون الذين يطرحون مطالب “اقتصادية” (العمل والأجر والسكن والتعليم والصحة والبينة التحتية،،،)، ولا شك في أن سجل النضالات طويل منذ بداية العقد الأول من القرن الجديد، والتي كانت تبدو نضالات النخب فرعية وضئيلة أمامها.
وسنجد الأمر ذاته في اليمن وسورية وحتى ليبيا البلد فائق الغنى بالنفط وقليل السكان، وعمان والجزائر البلد النفطي كذلك، والمغرب والسودان، وحتى السعودية فائقة الغنى نفطيًا أيضًا. فقد كانت التحولات الاقتصادية منذ سبعينيات القرن العشرين، وخصوصًا منذ تسعيناته، عميقة وأدت إلى تشكيل الوضع بشكل أفضى إلى إفقار وتهميش كتلة مجتمعية كبيرة، إن فرض سياسة الخصخصة واقتصاد السوق كانت ترتبط بسيطرة فئة مافياوية الطابع (رأسمالية المحاسيب)، فتحت السوق لنشاط الطغم المالية التي كانت تسارع السيطرة على الاقتصاد العالمي، واستيراد السلع بما في ذلك السلع الزراعية، وتسهيل نشاط “الاستثمار قصير الأجل” (وهو الأسم المعطى للمال المضارب)، ومشاركة هؤلاء بنهب الاقتصاد وتحويله إلى اقتصاد ريعي (النشاط في العقارات والخدمات والسياحة والبنوك والبورصات والاستيراد)، لهذا نهب “القطاع العام” وجرت السيطرة على الاقتصاد بقوة السلطة، وهو الأمر الذي أدى إلى تمركز الثورة بيد أقلية، وفي نشوء اقتصاد يفيد نسبة محدودة من المجتمع (الرأسمالية والشريحة العليا من الفئات الوسطى)، ويهمش نسبة كبيرة من اليد العاملة (تقارب الـ30% هي نسبة البطالة)، وتفقر نسبة كبيرة من العمال والفلاحين المتوسطين والفقراء والفئات الوسطى (الشرائح الدنيا منها، لتبقى الشريحة الوسطى متأرجحة وتميل إلى الانهيار)، حيث انهارت معظم الصناعات التي بنيت في السابق، وتراجع وضع الزراعة بشكل كبير، وبالتالي كانت حاجة الاقتصاد الريعي للعمالة محدودة، ومحددة في مستوى معين. وأيضًا أدى الانفتاح على العالم والاعتماد على الاستيراد لأن تصبح أسعار السلع عالمية بينما ظلت الأجور تزحف في تطورها البطيء جدًا.
هذا وضع لم يكن مرئيًا فقط من قبل النخب، حيث كانت الأرقام التي تنشر من مصادر متعددة توضح هذا الوضع المزري، حيث البطالة مرتفعة والدخول مزرية، والصعوبة في السكن، وانهيار في التعليم والصحة، وزيادة متكررة في الضرائب التي تفرضها الدولة لسد العجز في الميزانية، فيتشكل مجتمع أغلبيته من المفقرين وأقلية تعيش في بحبوحة بالغة، واقتصاد نهب ولا زال يعاني النهب من هذه الفئة الضئيلة العدد والطغم المالية العالمية التي تهيمن على الاقتصاد العالمي، ويرتبط النمط الاقتصادي المتشكل ريعي الطابع بتقسيم المجتمع إلى مناطق ناهضة وأخرى مهمشة، تعاني نقص الخدمات والعمل وتعيش في حالة تخلف مزرية.
لقد كانت الأرقام الاقتصادية والتقارير وبعض المتابعات توضح هذه الوضعية التي كانت تشير إلى أن المجتمعات تسير هو الانفجار بالضبط لأنها تسير نحو الموت، بعد أن بات قطاع كبير من الشعب لا يستطيع الحصول على ما يقتات به، سواءً نتيجة غياب فرص العمل أو لأن الأجر كان هزيلًا.
وهو الوضع الذي جعل الحراك العمالي والشعبي يستمر من أجل “المطالب الاقتصادية” حتى بعد الثورات وتغيير النظم، وتحقيق الديمقراطية، كما في تونس ومصر، وحيث ظلت المطالب هي ذاتها، بالضبط لأن “النظام الجديد” لم يغير في النمط الاقتصادي ولم يعمل على حل المشكلات التي يطرحها جزء كبير من العمال والفلاحين الفقراء والفئات الوسطى، وهو الوضع الذي يبقي الحراك قائمًا (الاضطرابات واشكال الاحتجاج الأخرى، والتظاهرات)، وهو الوضع كذلك الذي يعطي الثورات الطابع الجذري، بالضبط لأن الطبقات الشعبية تريد حلًا لمشكلاتها لا يتحقق إلا بتغيير النمط الاقتصادي الريعي لمصلحة نمط منتج، ولا شك أن الأمر لا يتوقف هنا، حيث إن طبيعة الدولة ومسألة الحريات ودور الشرطة والأجهزة الأمنية، كلها مسائل تهم المجتمع بالمعنى العام، لكنها مسائل حيوية لدى قطاع من الفئات الوسطى التي تسعى للتحرر والخروج من ضبط السلطة، ولهذا فإن كل تغيير يستهدف بناء كتلة تاريخية لا بد من أن يلمس طبيعة الدولة وشكل السلطة، الذي ليس من الممكن أن يكون ديمقراطيًا حقيقة إلا عبر حل المشكلات المجتمعية، وإسقاط الطبقة المسيطرة التي هي من صاغ هذا الشكل للسلطة، وهذه الطبيعة للدولة، لخدمة مصالحها وضمان سيطرتها. وهذا كذلك عنصر جوهري في تأكيد جزرية الثورات، لأنها تطال كلية البنية السياسية الاقتصادية في مسار تأسيس نمط بدايل ودولة بديلة.
الثورات والبدائل المتاحة
الشعوب حين تثور تحمل مطالب ولا تحمل بدائل، كي تطرح ما تشعر باحتياجه، والذي يوصلها في لحظة إلى طرح إسقاط السلطة لأنها لم تحقق هذا الاحتياج، البدائل هي من فعل أحزاب تكون أصلًا مهمته صياغة تصورات عن الاقتصاد والدولة والسلطة والعالم وتطرحها كبديل عن الواقع القائم، ربما تكون على صلة بواقع الطبقات وربما لا تكون فتطرح تصورات وأحلام فئات وسطى لديها ميل “الشغل” في “الشأن العام”، لهذا حين تثور الطبقات الشعبية تطرح مطالبها التي أوصلتها إلى الثورة من أجل إسقاط النظام، لكن بعد ذلك، واستفادة من ذلك تصبح المهمة ملقاة على عاتق الأحزاب، التي تعتقد أنها تطرح بدائل أو تحمل تصورات حول الإصلاح.
ما البدائل التي كانت قائمة حين نهضت الثورات؟
في مستوى الأحزاب والنخب سنلمس بأن بديلين كانا قائمين، وهما يمثلان تيارات سياسية لها حضور ما في الواقع، وإذا كانت العقود السابقة تظهر وجود التيارات اليسارية (القومية والشيوعية)، فقد استهلكت تجربة “النظم القومية” محليًا، والتجربة الاشتراكية عالميًا، هذه التيارات ولم تعد مطروحة كبدائل بصفتها هذه، بل انخرط بعضها في التيار الليبرالي (أو الديمقراطي)، وانتهى بعضها بنهاية النظم التي مثلها، فبقيت أحزاب قومية ضعيفة، وأحزاب شيوعية واشتراكية ضعيفة كذلك، بالتالي ما حكم السنوات التي تلت انهيار النظم الاشتراكية (سنوات 1989/1991)، وبدء “التوسعية الأميركية” تحت شعار العولمة، وصعود تيارين، الأول ليبرالي (وبمعنى أعم ديمقراطي)، والثاني أصولي (الإسلام السياسي)، وهما التياران اللذان باتا “مسيطرين” وإن كان الأول نخبوي بمعنى ما لأنه انحصر في الأحزاب والنخب المثقفة، وكان الثاني “شعبوي” حصل على قدر من الشعبية، وهذا ما ظهر تاليًا في مسار الثورات، حيث ساد الخطاب الليبرالي لكن الإسلاميين هم الذين انتصروا في الانتخابات.
ولا شك في أن سيادة نظم ديكتاتورية استبدادية شمولية فرض من بداية ثمانينات القرن العشرين، أن تميل النخب “اليسارية” إلى التركيز على الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان، وأن تؤسس مواقفها كرد فعل على هذه النظم، رغم أن هذه النظم هي التي أسست لوجود هذه الفئات من خلال التحول الاقتصادي الذي أحدثته، وفتح باب التعليم لكل الشعب، لقد أفضى التطور الذي حققته هذه النظم في الاقتصاد وفي التعليم وفي مستوى المعيشة إلى نشوء فئات تسعى إلى التحرر، وتشعر بالضغط الذي تفرضه استبدادية النظم، وهذا هو وضع “جيل السبعينات” الذي انخرط في الثمانينات وما بعدها في النشاط في “حقوق الانسان”، ولكن هذا ما دفع أحزاب “قومية” و”ماركسية” إلى أن تعتبر أن “النضال” الديمقراطي هو “الحلقة المركزية” في نشاطها، كل ذلك توافق مع الموجة التي انطلقت بـ”خطاب العولمة” الذي اتخذ من الحرية والديمقراطية شعارًا له في مواجهة “نظم ممانعة”، هي في الواقع نظم استبدادية، وحيث كان يريد أن يتخذ من ذلك مدخلًا للسيطرة، لكن بات الخطاب الديمقراطي هو المسيطر منذئذ، وخصوصًا بعد انهيار النظم الاشتراكية، وبالتالي تحول جزء كبير من الشيوعين إلى الليبرالية (وليس إلى طرح مسألة الديمقراطية فقط)، ومن لم يتحول بات يعتبر أن الديمقراطية هي أساس النشاط الراهن وأنها النقطة المحورية التي تقوم على أساسها التحالفات، وهو بذلك يكون قد انخرط في المسار الليبرالي كذلك.
بالتالي كانت مجمل الأحزاب المعارضة، بمختلف تلاوينها الأيديولوجية، تنطلق من اعتبار أن مواجهة الاستبداد والانتقال إلى دولة ديمقراطية هو الهدف المركزي لديها، دون التشكيك في النمط الاقتصادي القائم وربما كان التركيز في جزء كبير منها على رفض دور الدولة الاقتصادي باعتبار أنه الأساس الذي يقود إلى الاستبداد، وأن الحرية الاقتصادية هي الضرورة، وأن الرأسمالية لم تستنفد أسس وجودها، بالتالي ليس المطروح تجاوزها، بل المطروح هو الانتقال خطوة نحو “الدولة المدنية”، وإقامة النظام الديمقراطي، تحت هذه التصورات انضوى شيوعيون وشيوعيون سابقون و”ماركسيون” وقوميون، وخليط من “الرأسماليين”، ولكن أيضًا انضوى، دون أن يكون منخرطًا في الأحزاب، شباب من الفئات الوسطى أحس بحاجته للتحرر “والتعبير عن الذات”، و”الحصول على الحيز الشخصي”، و”ممارسة الفردية”، وأيضًا نقد المجتمع والسلطة، والاستبداد، والتشكيك في “التقاليد” و”السطوة الأبوية”، و”الهيمنة الدينية”.
لهذا تمركز نشاط كل هذه الكتلة حول الحريات والديمقراطية، وكان الدفاع عن تحرير الاقتصاد هو المهيمن فيها، دون التفات إلى وضع الطبقات المفقرة، لقد سيطر خطاب ديمقراطي، وهو الخطاب الذي وجه نشاط الأحزاب في مختلف البلدان العربية، وجعل كل تحالفاتها تقوم على أساس الديمقراطية، وكل شعاراتها تتمحور حول الديمقراطية ومن ثم يصبح صراعها مع النظم متمركزًا هنا، في هذا المستوى المتعلق بـ”شكل السلطة”، رغم أن الخطاب الديمقراطي لم يكن ناضجًا، ولم يشتمل على بديل ديمقراطي، فقط كان يتمركز نشاطه في الضغط على النظم من أجل تحقيق “الإصلاح الديمقراطي” ليس أكثر، الذي يتمثل في توسيع الحريات العامة والانتخابات غير المزورة.
لهذا كان بعيدًا عن مشكلات الطبقات الشعبية، وبعيدًا في نشاطها عنها، وفي الغالب لم يكن يعرف واقعها جيدًا، لهذا لم يتوقع حدوث الانفجارات الكبيرة التي حدثت، ولقد ظل محصورًا في “نخب” (سياسية، ثقافية، اقتصادية) بالضبط لأنه لا يعرف واقع هذه الطبقات وبالتالي لم يطرح مطالبها، على العكس من ذلك كان يبدو أنه لا مبالٍ تجاه مطالبها، ومؤيد للنمط الاقتصادي القائم، أو على الأقل غير رافض له، أو لا يطرح رفضه له إذا كان يرفضه، وهنا لا بد من أن نشير إلى أن انهيار الاشتراكية شكل صدمة كبيرة سمحت بتمرير فكرة أن “الرأسمالية هي نهاية التاريخ”، لهذا بات التركيز على شكل النظام السياسي فقط.
التيار الثاني هو الإخوان المسلمين خصوصًا، والإسلام السياسي عمومًا، التيار الذي يرتبط بالماضي، والذي ارتبط بالبنى التقليدية ودافع عنها، وبالتالي كان ضد حركة التحرر والنظم القومية، ويغرق في تحالف عميق مع النظم “الرجعية” (السعودية والخليج، والنظم الملكية عمومًا)، ومع الدول الاستعمارية (بريطانيا ثم أميركا)، في مواجهة موجة التحرر والاسقلال، والذي عاد إلى الواجهة بدعم النظم التي انقلبت على “التجربة القومية”، ومن أجل مواجهة التيارات القومية واليسارية، وتمهيد الطريق للميل “غربًا”، وبالتالي تحقيق الانفتاح الاقتصادي والذي دعم كل التحول الليبرالي وظل في ترابط مع النظم التابعة.
لكن تحولات تسعينيات القرن العشرين، وبداية القرن الجديد كانت تظهر التيار في شكل آخر مختلف تمامًا، إلى حد أنه ظهر كوريث لحركة التحرر ولليسار عمومًا، وإذا كانت معارضته للنظم “القومية” كانت تظهر “رجعيته” ورفضه لتغير البنى التقليدية الاقتصادية والسياسية، وتقاربه مع “الغرب” انطلاقًا من هذا الأساس، فقد باتت معارضته للنظم منذ التسعينات (أو معارضة النظم له) تظهره كمعبر عن “الشعب”، رغم أن الصدام كان ينشئ عن “تنافس رأسمالي” في السوق، بات أن مالت الرأسمالية المسيطرة (رجال الأعمال) إلى أن تسيطر على مجمل الاقتصاد وتقصي الآخرين، ومنهم “القاعدة الاجتماعية” لجماعة الإخوان المسلمين، أي الفئات التجارية التقليدية، وأيضًا فئات مافياوية، ولكن كذلك عن ميل لتحسين وضعية الجماعة السياسية، سواء كقوة معارضة معترف بها أو كجزء من السلطة (كما كانت تطرح الإدارة الأميركية)، لكن هذا الصراع كان يظهر الجماعة كقوة معارضة، ولهذا كانت تجد ميلًا من بعض القطاعات الشعبية المتوسطة والمفقرة، وأيضًا باتت تظهر كقوة “ديمقراطية” بعد أن لعبت بالمفاهيم وأوهمت أنها تناضل من أجل الديمقراطية، وهو الأمر الذي جعل عديدًا من القوى الليبرالية (ومن اليسار) تهرع للتحالف معها، الأمر بات أكبر من ذلك بعد إذ، حيث إنه مع بداية القرن الجديد كانت حماس (وهي فرع إخواني) تظهر كقوة مقاومة تريد تحرير فلسطين، بعكس منظمة التحرير التي عقدت اتفاق أوسلو وشكلت سلطة تحت الاحتلال، ثم، ومع “حرب بوش الأبن على الإرهاب”، بات يظهر أن الأمر يتعلق بالإسلام، فظهر أنها “ضد الإمبريالية”.
بالتالي باتت تحمل مشروعًا للتحرر من النظم الاستبدادية ومن الدولة الصهيونية ومن السيطرة الإمبريالية، هذه هي الصورة التي رسمت لها، ربما دون أن تريد، لكن بالتأكيد دون أن تكون مطابقة لمشروعها.
كل هذه العناصر كانت تعطي الإسلام السياسي ميزة مهمة على المستوى الشعبي، خصوصًا هنا انطلاقًا من المنظور الوطني، وهو ما شكّل لها رمزية مهمة ثمرتها بعد الثورات، رغم أنها في كل هذه القضايا كانت تناور، بالضبط لأنها لم تكن تعبر عن كنهها، وتستفيد في تعزيز قوتها، لكنها لم تكن تحمل سوى أفكارها التقليدية، فيما يتعلق بالدولة والاقتصاد، وفي تعزيز “القيم” (وهذا محور الفقه الذي تستند إليه)، وما تطرحه على الصعيد الاقتصادي يتوافق مع النمط القائم (ولقد أشار قادة منها إلى ذلك بعد وصولهم إلى السلطة)، أي النمط الليبرالي الذي أسس لنشوب الثورات.
بالتالي كانت البدائل القائمة في الواقع متخالفة مع مطالب الثورة، ولكن كل منها كان بعمل بكل الجدية والحماس لكي يفرض مشروعه على الشعب، المشروعان ماضويان، لأنهما يكرسان الواقع الاقتصادي، رغم أن واحدًا منهما، يشير إلى بعض الحريات والديمقراطية والآخر يركز على “الأخلاق” والقيم الدينية، بهذا المعنى لم يكن للثورة من يعبّر عنها ويطرح بديلها، رغم مشاركة معظم هذه الأحزاب في الثورة، فالليبراليون و”القوميون” و”الماركسيون” و”الشيوعيون” و”الديمقراطيون” لحقوا بالشعب الذي ثار، وأخذوا يتآمرون من أجل “الصعود” إلى السلطة، الإخوان تكتكوا، لم يشاركوا بقوة، وساوفوا في منتصف الطريق، وتراكبوا مع بنى السلطة التي كان يريد الشعب إسقاطها.
لا نريد الإشارة إلى مجموعات وأفراد هنا أو هناك تريد تقديم البديل الجذري، حيث كان دورها هامشيًا وظهر أنها لم تحضّر ليوم كهذا، ولم تعرف كيف تستفيد من الثورة لكي تتطور وتطورها، بل نريد القول بأن الثورة انفجرت دون أن تجد بديلًا يستطيع دفعها لأن تحقق التغيير الضروري لتحقيق مطالبها، ولأن الثورة عميقة، وتريد تحقيق مطالبها، لم يكن ممكنًا لا سحقها ولا وقفها، رغم كل مراوغات النظم من أجل “تنفيسها”، و”مطمطتها” لكي يصاب الشعب بالملل، ومن ثم السيطرة بـ”قوة”.
الثورات من الربيع العربي إلى الخريف الإسلامي إلى الشتاء الجهادي
أطلق على الثورات مصطلح “الربيع العربي”، الربيع الذي ارتبط بثورات الشعوب في أوروبا الشرقية ضد الاشتراكية (رغم أنه ثورات سنة 1848 قد أطلق عليها مصطلح ربيع الشعوب)، وكان في التسمية ترميزان، الأول أن الحرية هي الهدف الجوهري لهذه الثورات، والثاني أنها “مع الغرب” (وبالتالي مع الرأسمالية)، بهذا لم يكن مناسبًا للتعبير عن كنه الثورات، وليس ما تطرحه متعلقًا فقط بالحرية، بل أساسًا بتغيير النمط الاقتصادي.
لكن هذا ما ركز عليه خطاب النخب والأحزاب المعارضة، التي كررت ولا زالت تكرر أن الحرية هي مطلب الثورات، وأن المطلوب هو تأسيس نظام ديمقراطي (وهنا الديمقراطية مشوهة، حيث إنها محصورة في الحريات والانتخابات، وضد العلمنة التي لا ديمقراطية فعلية بدونها، وبلا تأكيد على الدولة المدنية، الهدف الذي طرح بشكل عابر، وعبر دون أن يتمسك به أحد)، وخاضت ولازالت تخوض صراعًا مهولًا ضد كل من يشير إلى التغيير الاقتصادي أو التشكيك بالرأسمالية القائمة، أو الدعوة لتجاوزها، أو إدخال الدولة في المجال الاقتصادي من جديد، هناك “بجاحة” في حصر الأمر بالديمقراطية، وفظاظة في التعامل مع من يطرح ما يمس الاقتصاد، وحتى ملل و”قرف” من استمرار الإضرابات ومطالب الاحتجاج من أجل الأجور والعمل وغيرها من المطالب الاقتصادية، لقد استمرت في سياستها السابقة في التركيز على الحريات والديمقراطية دون الانتباه إلى أن ثورة حصلت، وأن لهذه الثورة مطالب واضحة لا بد من تحقيقها وحتى دون التقدم خطة في الطرح الديمقراطي من خلال طرح شكل للدولة مدني وديمقراطي وعلماني، وأصلًا في الغالب لم تشكك في أسس الدولة الديكتاتورية القائمة بل ظلت، كما كانت، تطالب بإصلاحات ليست أساسية في ظل الدولة القائمة، بمعنى أن “خطابها الديمقراطي” لم يستفد من لحظة الثورة لكي يتعمق ويتبلور بشكل أوضح بما يجعله يتجاوز المنظور الإصلاحي الذي حكمها قبل الثورات، إذن، هي لم تطور خطابها الديمقراطي ولم تربطه بالحراك الثوري ومطالبه، الأمر الذي جعلها ليست القوة الفاعلة في الصراع رغم أنها ظهرت كمعبر عن الثورة بشكل ما.