كتاب المواطن / سلامة كيلة
وضع المرحلة الانتقالية:
هذا التفارق بين ثورية الطبقات الشعبية وليبرالية الأحزاب، وبالأساس غيابها عن الصراع، هو الذي فتح، ويفتح، على شكل وعمق التغيير الذي يتحقق، حيث إن الطبقات المنتفضة لا تستطيع الاستيلاء على السلطة، بل تفضي قوة حراكها إلى “تفكك” في السلطة ذاتها، يدفع إلى تقديم “تنازل” على أمل وقف زحف هذه الطبقات، ويهيئ للالتفاف على مطالب الانتفاضة.
لهذ كان الجيش هو القوة التي حسمت الصراع في كل من تونس ومصر، وقاد مرحلة انتقالية بشكل غير مباشر كما في تونس (أي عبر حكومة مدنية)، أو مباشر كما في مصر(عبر المجلس العسكري الذي تولى صلاحيات الرئيس)، وهنا لابد من التساؤل حول ما تعبّر القيادات العسكرية للجيش طبقيَّا، وبالتالي في أي سياق وضعت التغيير خلال المرحلة الانتقالية؟
في هذا الوضع وجدنا أن التغيير في “النظام” شكلي، طال أفرادًا (مهما كانت أهميتهم في السلطة)، ولم تتغير بنية أسستها السلطة السابقة، وظل النمط الاقتصادي كما هو، حتى السياسات الاقتصادية ظلت تعتمد الطريق ذاتها، التي تعتمد على القروض الخارجية والاستثمارات الاجنبية، والتوظيف في القطاعات ذاتها، وفي السياسة الخارجية ظل الوضع كما هو، وإذا كانت جرت “محاسبة” لبعض ضباط الشرطة، فقد ظلت العقيدة الأمنية كما كانت، مع حدوث تغييرات شكلية في المناصب.
مضبوط لا يقود إلى إنهاء سيطرة الرأسمالية المافياوية التابعة، وبهذا طرحت مسألة تقديم تنازلات محدودة ومضبوطة، ولا تمس النمط الاقتصادي ولا المعاهدات والسياسات، بل تتعلق بـ”الدمقرطة”، هذا الشعار الذي تغنت به طويلًا خلال العقدين السابقين، رغم أنها كانت تدعم النظم المستبدة، والبطركية، والثيوقراطية.
لقد عملت على دعم إعادة تشكيل النظم من أجل توسيع القاعدة السياسية المشاركة عبر ضم أحزاب معارضة، والتي سيظهر انضمامها وكأنه انتصار للانتفاضة والشعب، لأنها تمثل الشعب كما كرر إعلامها طويلًا، وبالتالي عادت لفكرة قديمة (وربما منذ التسعينات) مفادها أنه يجب إشراك الإسلاميين في السلطة. وهي الفكرة التي فرضت ضرورة البدء بـ”الحرب على الارهاب” ووضعها جانبًا، لأن هذه الحرب في جوهرها حرب على الاسلام كما تريد الولايات المتحدة إظهاره كعدو بديل عن الشيوعية وخطر مثلها من جهة، ولكي يعطي “الشعبية” التي تجعله “يخلّف” المجتمعات، من خلال تعميم فكر سلفي أصولي، وتحويل الصراع من صراع طبقي إلى صراع “ثقافي”، أو “أخلاقي”، وجدناه يحلفظ على البنية ذاتها، وعلى الآليات ذاتها، وبالتالي على المصالح الطبقية ذاتها، وأصبحت المسألة هي كيفية تفكيك الانتفاضة من خلال آليات “ديمقراطية”، أي من خلال الانتقال إلى الانتخابات لكونها الشكل “الأمثل” للديمقراطية، قبل ودون أن تكون الطبقات الشعبية قد بلورت الأحزاب التي تحمل مطالبها وتمثل مصالحها، وفي هذا الوضع تنشق الطبقات الشعبية بين مراهن على “تغيير ديمقراطي” يوصل أحزابًا تعتقد أنها سوف تحقق مصالحها، وآخرين تلمسوا الوضع وعرفوا أن طريق الانتخابات بهذه السرعة ودون إعادة بناء السياسة في المجتمع لكي تبلور الطبقات الشعبية بدائلها، سوف يوصل الأحزاب القائمة، سواء المعارضة أو التي لم تكن كذلك، إلى السلطة، وهي كلها أحزاب لا تحمل البديل الذي يحقق مطالب الطبقات الشعبية.
هذا ما لمسناه في الواقع، في تونس ومصر والمغرب، حيث وصلت أحزاب ليبرالية تتمسك بالنمط الاقتصادي ذاته وبالعلاقات الدولية ذاتها، وليست ديمقراطية بما يسمح لها بتأسيس دولة مدنية ديمقراطية بل بات بعضها يدعو إلى الخلافة الاسلامية، مثل حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والحرية (واجهة الإخوان المسلمين) في مصر، ولقد كررت هذه الأحزاب المنتصرة التأكيد على الحفاظ على النمط الاقتصادي والمعاهدات الدولية (بما يتناقض مع تصريحاتها السابقة، خصوصًا مثلًا الموقف من معاهدة كامب ديفيد، والعلاقة مع أمريكا).
بالتالي، فإن الآليات الديمقراطية التي كانت تنجح الحزب الدستوري في تونس والحزب الوطني في مصر، هي ذاتها الآليات التي حكمت الانتخابات التي أنجحت الإسلاميين، فالانتخابات في وضع لم تتغير بنية السلطة خلاله (وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية والإشراف البيروقراطي على الانتخابات والسيطرة الإعلامية) وسوف ينجح من يتحصل على دعم السلطة ذاتها.
هنا ليس من الممكن أن يتحقق تغيير حقيقي من خلال الانتخابات قبل “نقض” بنية الدولة، وإعادة بناءءها من قبل الطبقات الشعبية، وأيضًا قبل أن تتبلور الأحزاب التي تعبر عن “روح الانتفاضة”، أي التي تحمل مطالب الطبقات الشعبية التي انتفضت، ولا شك في أن ضرورة المرحلة الانتقالية هي من أجل ذلك بالتحديد، وليس من أجل توسيع قاعدة السلطة السياسة من خلال إشراك أحزاب “معارضة”.