كتاب المواطن / سلامة كيلة
الأساس الاقتصادي ومسألة الحرية
لماذا لم يستطع الماركسيون توقع انفجار الانتفاضات؟
لأنهم انحكموا لمنطق “سياسي” لا يلمس سوى “السياسة”، أي الدولة أو السلطة والنشاط السياسي والعلاقات السياسية، الذي يعني لمس التكتيكي فقط، بمعنى لمسهم الحراك السياسي، والواقع كما يظهر في شكله السياسي فقط، وفي السياسة لم يكن الوضع يوحي بإمكانية قيام “ثورة” على السلطة، نتيجة ضعف الاحزاب مقابل قوة السلطة، لهذا أكثر ما كان يطرح هو إصلاح النظام، والتركيز على حقوق الانسان، أو على المسألة الوطنية، وبهذا غاب المجتمع، فيما هو بشر يتشكلون في طبقات، ولهم ظروفهم ومشاكلهم، وأيضاً مطالبهم، لقد انحصر الفهم في الحقل السياسي دون الحقل المجتمعي إذن.
الاحتقان كان يتراكم في الحقل المجتمعي، بينما كان الحقل السياسي يشهد أزمة عميقة نتيجة الأزمة التي كانت تعيشها أحزاب المعارضة، والتي نتجت عن الاستبداد من جهة، وعن ضعفها التكويني من جهة أخرى، الأمر الذي فرض انعزالها عن الطبقات التي لا بد من أن تعبر عنها، لهذا فوجئت بالانتفاضات، وتفاعلت معها من منطلق اللحاق في الغالب.
وإذا كانت مسألة الحرية والديمقراطية هي الموجة التي غطت المقعدين الأخيرين والتي أصبحت “النغمة الموحدة” لطيف واسع من القور الليبرالية واليسارية والإسلامية، وباتت الديمقراطية هي المدخل لكل تغيير، وبالتالي استنفدت جل نشاط كل هذه الأحزاب، وما كان يحفر في الواقع هو أثر التحول الاقتصادي الذي بدأ منذ “عصر الانفتاح” أواسط سبعينيات القرن العشرين، حيث تحقق التهميش وتمركزت الثروة، وباتت كتلة كبيرة من الشعب في وضع مزرٍ.
بمعنى أن فهم ما حدث، وما يمكن أن يحدث، والمآل الذي سيصل إليه الصراع الذي بدأ في 17/12/2010 في سيدي بوزيد، لابد من أن ينطلق من فهم الأساس الاقتصادي الذي تشكل بعيد انهيار المشروع القومي العربي، وتحقق الانفتاح الليبرالي، أكثر من التركيز على الاستبداد والدكتاتورية وموجة الدمقرطة التي انتشرت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، لأن موجة الدمقرطة تلك ارتبطت بتحقيق اللبرلة الاقتصادية، التي أتت بكل التهميش والافقار والبطالة التي أصبحت سمة عامة في الوطن العربي، هذا الوطن الذي بات الأكثر تهميشًا ونسبة بطالة وفقر في العالم.
وبات “النمط الاقتصادي” (ولا أقصد هنا نمط الإنتاج بالمعنى الماركسي بل التكوين الاقتصادي الذي شكل اللبرلة) يتسم بالريعية بعد أن أفضى الانفتاح إلى تدمير كل البنى المنتجة، ليس الصناعية فقط بل الزراعية كذلك، وهو الأمر الذي أفضى إلى تصاعد نسبة البطالة بشكل غير مسبوق، وكذلك العجز عن زيادة الأجور رغم الارتفاع الجنوني في اسعار السلع والخدمات والمواد الأولية بعد أن أصبحنا جزءاً من عالم العولمة.
هنا أصبحت الكتلة الأساسية من الشعب مهمشة ومفقرة، وباتت أقلية محدودة تعيش حياة البذخ، كما أصبحت الشركات الاحتكارية الإمبريالية تنهب قدر ما تستطيع، وتشكلت “طبقة” رأسمالية لكنها مافياوية الطابع، تعتمد على النهب من خلال الاقتصاد الريعي، وفي العلاقة مع الطغم المالية الإمبريالية. بالتالي، شعب مفقر ورأسمالية مافياوية مركزت الثروة وتعيش حياة البذخ، هذا هو الوضع الذي تشكل خلال العقدين الماضيين، وكان الأساس في انفجار الطبقات الشعبية، التي لم تعد تستطيع العيش.
ويتحقق التغيير حين تصبح الطبقات الشعبية عاجزة عن تحمّل الوضع الذي هي فيه، وتكون الطبقة المسيطرة (والنظام الذي تحكمه) عاجزة عن ضمان الاستقرار، هذا هو الوضع الذي نحن فيه بالضبط.
إذن لابد من تلمس الوضع الاقتصادي، والأزمة التي يلقى بها على الطبقات الشعبية، هذه أولية في كل تحليل ماركسي، لكنها أولية حاسمة في فهم ما يجري، وتحديد المآل الذي يمكن أن يوصل إليه.
وضع الطبقات وموضوع الأحزاب السياسية:
لكن هذا الوضع أفرز طبقات مفقرة، مطالبها “بسيطة” هي العمل والأجر الأفضل، والتعليم المجاني، والعلاج المجاني، فقد أصبحت مهمشة في التكوين الاقتصادي، وباتت طبقات مفقرة نتيجة ذلك. وهذا الأمر يجعل كل حل لمشكلاتها لا بد من أن يطال “النمط الاقتصادي”. حيث لابد من توفير فرص العمل، وتوفير فائض القيمة الذي يسمح بزيادة في الأجر متوازية مع ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات. وأن تصبح الدولة قادرة على تحقيق مجانية التعليم (بعد أن جرى سلبها بطرق شتى)، وعمليته. وتوفير العلاج المجاني وضمان مستواه الانساني، وتوفير البنى التحتية المتطورة، ثم توفير الاستثمارات في قوى الإنتاج الزراعية والصناعية خصوصًا.
فهذا هو الحل لمشكلات هذه الطبقات، والذي يحقق مطالبها، ويجعلها قادرة على عيش كريم. ولقد انتفضت بالضبط من أجل ذلك، رغم أنها الم تستطع صياغة رؤيتها.
ولا حتى توضيح مطالبها في بعض البلدان (مثل سورية)، وانتفضت بشكل عفوي لأنها لا تمتلك الأحزاب التي تعبّر عنها، وتندمج بها لكي تؤسس “المطابق السياسي الأيديولوجي” الذي يحدد هذه المطالب ويبلور البديل والطريق التي تحققه. هنا نقول إن الطبقات الشعبية تمردّت على الوضع الذي هي فيه دون أن تكون قادرة على بلورة البديل الذي يحل مشكلاتها، رغم تلمسها لهذه المشكلات بشكل واضح، فهي تعرف أنها مفقرة ولا تستطيع العيش، لكنها لا تعرف الطريق الذي يجعلها تتجاوز فقرها، وهي عاطلة عن العمل لكنها لا تعرف كيف تجد العمل.
كل ذلك هو ما تقوم به الأحزاب التي تعبّر عن هذه الطبقات عادة، ولقد أشرنا إلى أنها كانت غائبة، حتى عن تلمس مشكلات هذه الطبقات، وليس أيضَا رسم استراتيجية حل مشكلاتها، وهو ما فرض ويفرض ألا تقود الانتفاضات إلى انتصار هذه الطبقات، التي تعرف كيف “تهدم” أو تسقط لكنها لا تعرف كيف تؤسس البديل.
في هذا المسرب يظهر دور الأحزاب، التي لم تشارك في الانتفاضات، أو شاركت بخجل وتردد، أو ملحقة بالهيجان الشعبي الهائل، حيث ليس من الممكن تحقيق مطالب الطبقات الشعبية إلا عبر السياسي، وهذا من خلال التغيير في طبيعة الدولة، ولهذا ينتقل الأمر من شعب منتفض وثوري، ويريد التغيير الجذري، إلى أحزاب لها رؤاها وبرامجها، وتعبر عن مصالح طبقية معينة، حيث يطفو على السطح من يمتلك القوة والرمزية والمال، ويلحق بها الأحزاب التي تمحور رؤيتها حول هدف وحيد هو “الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية” (استعارة من برامج كل الاحزاب السورية المعارضة). وتتجاهل طابع الاقتصاد القائم، على العكس من ذلك تنطلق من تكريس اللبرلة كونها النمط الوحيد الممكن والضروري والثوري والأساس الحتمي الذي يحقق الديمقراطية.
إن موجة الدمقرطة قد جرفت جل الأحزاب، خصوصًا أحزاب اليسار (الشيوعية، الماركسية)، سواء التي تلبرلت فتخلت عن شيوعيتها أو ماركسيتها، أو التي تمسكت في “الحلقة المركزية”، التي هي الديمقراطية. وبات “الجو السياسي” جوًا ليبراليًا ديمقراطيًا، وهو الأمر الذي جعل “البديل السياسي” عن النظم القائمة هو بديل ليبرالي، لا يريد تغيير النمط الاقتصادي، وإن كان هناك من ينتقد الاساءة أو يتأفف من ضخامة الفقر، أو من احتكار اللبرلة، ومن ثم لم يوجد الحزب الذي يحمل مطالب الطبقات الشعبية الاقتصادية، ولا حتى ذاك الذي يدمجها بالمطلب الديمقراطي (سوى هوامش ربما).
هذا المسرب فرض أن يكون بديل النظم القائمة أحزابًا على شاكلتها، وليست أحزابًا تعبّر عن عمق الأزمة التي تعيشها الطبقات الشعبية، وأصبح الوضع هو تغيير أشخاص وأحزاب بأشخاص وأحزاب أخرى مماثلة أو مشابهة أو تختلف قليلًا.
بالتالي لا حلول لمشكلات الطبقات الشعبية، لكن هل تخمد الانتفاضات بعد كل هذه البطولة والنضالية، وبعد كسر حاجز الخوف، وانغماس الشباب المفقر في الصراع الطبقي؟ هذا الأمر الذي يجب أن يلحظ ويحفظ.