تحقيق: علي سالم المعبقي.
في مايو 2014، أثناء حكومة الوفاق الوطني التي تشكلت بموجب المبادرة الخليجية، مناصفة ما بين النظام السابق والأحزاب المؤيدة لثورة 11 فبراير 2011 الشبابية، السلمية، عُين العقيد علي عبد الله المهشمي رئيسًا لأركان اللواء العاشر صاعقة، لكنه بقي يمارس أعماله التجارية عبر شركة معين للمقاولات وخدمات حقول النفط والغاز (MCOG)، ومنها عقود مع برنامج الأغذية العالمي (WFP)، بملايين الدولارات.
تضمنت قاعدة بيانات “أوراق بنما”، التي نشرها في أبريل 2016، الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)، وصحيفة SZ الألمانية (سوددوينشه تسايتزنع )، أسماء يمنيين يمتلكون شركات أوفشور (تُستخدم للتهرب الضريبي وغسيل الأموال).
وعلى الرغم من شيوع ما بات يعرف بفضيحة “أوراق بنما”، إلا أن برنامج الغذاء العالمي بقي يتعامل مع شركات ليمنيين وردت أسماؤهم في تلك الوثائق، مثل تاجر القمح محمد عبد الله فاهم، ورجل الأعمال محمد عبده سعيد، حسب بيانات مشتريات الأمم المتحدة.
علاوة على تعامله مع موردين بالمخالفة للقوانين اليمنية واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، اشترى برنامج الغذاء، الحائز على جائزة نوبل للسلام للعام 2020، سلعًا وخدمات من موردين يشتبه بوجود صلة لهم بأطراف الصراع.
وتصل قيمة مشتريات البرنامج من رجل الأعمال علي الهادي المقرب من الحوثيين، إلى 13 مليون دولار سنويًّا.
مقارنة بنسبة تتراوح بين 1 و5% في الدول، يُقدر متوسط الفساد المُبَلَغ عنه داخل منظومة الأمم المتحدة بحدود 0.30% من إجمالي الإيرادات، لكن هذه النسبة المتدنية لا تعكس الحقيقة، بل ترجع أساسًا إلى ظاهرة مزمنة تعانيها المنظمة الأممية، تتمثل بالتستر ومحدودية أو ضعف أجهزة الرقابة، وعدم امتلاكها الاستقلالية الكاملة، حسبما تؤكد وحدة التفتيش المشتركة.
في رده على أسئلة معد التحقيق، قال مكتب برنامج الغذاء في اليمن إن العقود التي يبرمها مع الموردين تلزمهم بالقبول بالمعايير الأخلاقية الموحدة والامتثال لها، بما في ذلك إبلاغ البرنامج بأي تضارب في المصالح. لكن تقارير تقييم داخلية تناولت أداء البرنامج للفترة 2014-2017، في عدة بلدان، بينها اليمن، تؤكد أن البرنامج خرق مبادئ العمل الإنساني، وقدم أغذية متدنية الجودة أو منتهية الصلاحية، كما خلت العقود التي أبرمها مع الموردين التجاريين من الأحكام المتعلقة بالتحيز والحياد.
مثلث الفشل
تُعد الأمم المتحدة مرجعًا أخلاقيًّا وقانونيًّا وتنمويًّا لحكومات العالم، وتشدد سياسات العمل في مؤسسات الأمم المتحدة على مكافحة التدليس والفساد، بيد أن مسؤولين وموظفين أمميين مارسوا التدليس والفساد، وشاركوا في صنع أكبر كارثة إنسانية في اليمن. فبدلاً من أن تعمل المنظمة الأممية على الحد من الأزمة الإنسانية، تسترت على أسبابها الحقيقية، وأسهمت في تفاقمها، وفق ما يكشف هذا التحقيق.
في ديسمبر 2017، أصدر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في اليمن و14 منظمة دولية، بيانًا أدانوا فيه “بأشد العبارات ادعاءات الفساد والتحيز الموجهة إلى المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن”، وطالبوا بتقديم أدلة.
في تلك الأثناء، وتحديدًا في الفترة ما بين يناير 2017 ويوليو 2019، كانت منظمات شريكة لمكتب “أوتشا” في اليمن، تبيع الأموال المخصصة للمشاريع الإنسانية في السوق السوداء، بهدف التكسب الشخصي من فارق سعر صرف الدولار مقابل الريال اليمني، من دون أن تقيد ذلك في سجلاتها.
وعندما وثق مراجعو الحسابات تلك المخالفات التي بلغت أكثر من 413 ألف دولار، تدخل مكتب “أوتشا” لدى المراجعين، لينقحوا تقاريرهم بما يؤدي إلى تبرئة مرتكبي المخالفات، وفق ما جاء في تقرير مكتب المراجعة الداخلية (OIOS)، بتاريخ 7 ديسمبر 2019، وبرقم AN2O19/590/02.
تمثل بيانات الأمم المتحدة مرجعًا للباحثين والإعلاميين، لكن معلوماتها عن الوضع الإنساني في اليمن يشوبها التضارب وعدم الدقة، وفق ما تظهر نماذج حللها معد التحقيق.
وعلى سبيل المثال، تذكر خطة الاستجابة الإنسانية يوليو- ديسمبر2020، أن الحوثيين فرضوا خلال العام 2019، حظرًا على حركة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، وصل في بعض الحالات إلى شهور، وفي موضع آخر تذكر الخطة نفسها أن المساعدات “وصلت خلال 2019 إلى الأسر في جميع مديريات اليمن البالغة 333 مديرية”.
وهذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي تقدم فيها الأمم المتحدة روايات غير منطقية. ففي أبريل 2017، قال “أوتشا” إن عدد الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، انخفض إلى 6.8 مليون شخص. وفي ديسمبر 2017، أي بعد 8 شهور، عاد “أوتشا” ليقدر عدد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بأكثر من 8 ملايين شخص.
ولم يعلق المتحدث الإعلامي لمكتب “أوتشا” في اليمن، زيد العلايا، وطلب إرسال النتائج والأسئلة عبر البريد الإلكتروني، إلا أن معد التحقيق لم يتلقَّ ردًّا حتى لحظة الانتهاء من كتابة هذا التقرير.
تُلزم وكالات أممية موظفيها بعدم الحديث إلى وسائل الإعلام، أو نشر تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، حفاظًا على حيادهم، حسبما يقول موظفو إغاثة التقاهم معد التحقيق. لكن وكالات أممية عدة مولت منظمات منحازة أو يشتبه بتبعيتها لطرف من أطراف الصراع.
مطلع 2018، تأسست مؤسسة الإكرام التنموية الخيرية، بتعليمات من زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، حسبما صرح قادة حوثيون، في حفل التدشين الذي بثته قناة “المسيرة” التابعة للحوثيين. ترتبط “الإكرام” مع مؤسسة بنيان التي تدار علنًا من قبل الحوثيين، بعلاقة تنسيق وتعاون، وشاركت “الإكرام” في نشاطات حوثية رسمية، ومع ذلك بقيت تتلقى تمويلًا من صندوق اليمن الإنساني (YHF)، الذي يديره “أوتشا”، وتشارك في كتلة الأمن الغذائي، واختير مديرها التنفيذي فتحي البطل، منسقًا في صعدة لكتلة المأوى والمواد غير الغذائية التي تقودها المفوضية السامية للاجئين.
تُعتبر جمعية الإصلاح الاجتماعي الخيرية (CSSW) من أبرز شركاء الأمم المتحدة النشطين، ممن نفذوا مشاريع في إطار خطة الاستجابة الإنسانية لليمن، في وقت كان رئيسها مرشد العرشاني المحسوب على حزب التجمع اليمني للإصلاح، يجمع بين منصبه الحكومي كوزير للعدل وبين رئاسته للجمعية. ولم يترك منصبه في الجمعية إلا في مايو 2019.
ووثق معد التحقيق لما لا يقل عن 10 منظمات غير حكومية حصلت على تمويل ضمن خطط الاستجابة لليمن، برغم ارتباطها بكيانات مذهبية وسياسية منخرطة في الصراع.
مقبرة النازحين
يُقدر نائب منسق الكتلة الوطنية للمأوى (CCCM) منير الصُّباري، عدد النازحين في المواقع العشوائية بحوالي مليون شخص، لكن “اختيار مواقع النازحين يفتقر للتحليل القانوني والجغرافي والمجتمعي، أو المتابعة والتقييم، ما يشكل خطورة على حياة النازحين”، حسبما تقول سمية الحسام، رئيسة “منظمة مساندة للتنمية”، لمعد التحقيق.
يوم 13 سبتمبر الماضي، وأثناء زيارة معد التحقيق، موقع التعاون للنازحين في منطقة البيرين بمديرية المعافر محافظة تعز (256 كم جنوب صنعاء)، وجد مجموعة من الشبان يرقصون على إيقاع الطبول، احتفالًا بزواج شاب نازح. لكن فرحهم هذا يقام على مقبرة، ما تسبب في حالة عداء للنازحين، ازدادت حدتها مع شروع نازحين في حفر بيارات (خزانات صرف صحي)، وفق ما يقول حافظ عز الدين، من أبناء قرية الحمرة، وأكد ذلك رئيس الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بسام الحداد، ومدير المديرية عادل المُسمر.
وعلاوة على انتهاك حُرمة الموتى بحفر حُفر للصرف الصحي، تشير روايات المجتمع المضيف والسلطات، إلى سببين آخرين وراء تصاعد الكراهية للنازحين: الأول بناء وكالات أممية مساكن خشبية للنازحين بدلًا من الخيام، ما اعتبره السكان توطينًا للنازحين على حساب حرمة موتاهم، والثاني استبعاد فقراء في المجتمع المضيف من المساعدات، على الرغم من أن “بعضهم لا يقل فقرًا عن النازحين”، يقول المُسمر.
“هناك أسكن”، تقول حياة قاسم (40 عامًا)، وهي تشير بيدها إلى كوخ صغير مساحته أقل من مترين. في هذا الكوخ الواقع على المقبرة نفسها، تعيش حياة وأسرتها المكونة من 8 أفراد، معتمدة في عيشها على الصدقات، ومع ذلك لم تحصل حياة على مواد إيواء أو مساعدات غذائية، بمبرر أنها غير نازحة، وفق ما تقول.
ينتمي غالبية النازحين في المواقع التي زارها معد التحقيق، وفي مناطق أخرى تم التحقق منها عبر الهاتف، إلى الفئة المهمشة والأكثر فقرًا، ممن يطلق عليهم شعبيًّا “الأخدام”. واستضيفوا من قبل أبناء الفئة نفسها التي تقطن غالبًا على هوامش المدن وأطراف القرى، خصوصًا أراضي الأوقاف المخصصة كمقابر. إلا أن أسلوب الوكالات الأممية في إدارة المخيمات وتقديم المعونة، أفضي إلى زرع بذور شقاق داخل مجتمع المهمشين.
واتهَمت عضوة في اللجنة المجتمعية للنازحين في موقع الظهرة في منطقة الصافية مديرية الشمايتين في تعز، نافذًا في المنطقة، بتحريض من سمتهم “الأخدام” في المجتمع المضيف، لتلفيق تهمة أخلاقية لها، ومحاولة تمزيق خيمتها، وطردها. وهي قضية وصلت إلى جهات محلية مثل اتحاد نساء اليمن، وفق ما أكدت رئيسة فرع الاتحاد في الشمايتين سميرة العزعزي.
وقال 4 شهود، بينهم سعيد حسن علي، رئيس اللجنة المجتمعية للنازحين في موقع التعاون في البيرين، إن طفلة في الثالثة من العمر تدعى “لالا عبد الفتاح”، تقيأت دمًا، وتورم جسدها جراء فزعها من عيارات نارية أطلقها، مطلع أغسطس الماضي، شخص كان بجانبها، بهدف منع توزيع مواد نظافة على النازحين.
وأكد الحداد الواقعة، مشيرًا إلى أن السلطات قبضت على المتهم في حينه، وأودع السجن، ولم يطلق إلا بعد تعهد بعدم تكرار هذا السلوك.
وفي مناطق جنوب اليمن، حيث تنشط حركات سياسية تطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، أخذت حملة الكراهية والتحريض ضد النازحين طابعًا سياسيًّا منظمًا، شاركت فيه صحف محلية ومواقع إلكترونية، اعتبرت وجود نازحين مؤامرة لتوطين شماليين بهدف خلخلة النسيج الديموغرافي للمجتمع الجنوبي.
وردًّا على أسئلة معد التحقيق، أجاب الصُّباري أنه سيتحقق بشأن وجود مخيم على مقبرة، وطلب رقم هاتف النازحة المهددة بالطرد. وحول التحريض ضد النازحين في الجنوب، اكتفى الصباري بالقول إن كتلة الحماية تحاول تنظيم حملات توعية للمجتمع.
رشوة المنظمات الإنسانية للسلطات والنافذين ظاهرة منتشرة في مناطق سيطرة الحوثيين والحكومة اليمنية على السواء.
ويؤكد موظف في وكالة أممية، اشترط عدم الكشف عن هويته، أنه بقي يفاوض لمدة شهرين ليتاح لمنظمته بناء مساكن خشبية للنازحين. ويضيف: لم يسمح لنا بتنفيذ مشروع المأوى الانتقالي (مساكن خشبية)، إلا بعد أن استهدفنا عددًا من أعضاء مجالس القرى. ويبرر الموظف إقامة المشروع على مقبرة بعدم وجود أراضٍ مملوكة للدولة.
وقبل إعداد هذا التحقيق للنشر، قال مصدر في اللجنة المجتمعية للنازحين في موقع الظهرة في الشمايتين، إن منظمة دولية شريكة للمفوضية السامية للاجئين، توصلت إلى حل مع مجلس القرى، يقضي بضم مجموعة منهم إلى كشوفات المستفيدين من المنحة الشتوية المقدرة بنحو 125 ألف ريال (حوالي 120 دولارًا) تدفع لكل أسرة، مقابل الموافقة على بقاء السيدة النازحة، وعدم مضايقتها.
أرصفة وسجون
في سبتمبر 2016، قررت حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، نقل إدارة البنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء، إلى مدينة عدن التي اتخذتها عاصمة مؤقتة. وتعهدت الحكومة حينها بصرف رواتب جميع الموظفين، لكنها لم تفِ بتعهدها، وقصرت الصرف على الموظفين في المناطق التابعة لها، تاركة نحو مليون و200 ألف موظف يعملون في مناطق سيطرة الحوثيين، بدون رواتب.
في أكتوبر الماضي، وبمناسبة اليوم العالمي للمعلم، دعت منظمة اليونيسف إلى استئناف صرف رواتب المعلمين اليمنيين المقدر عددهم بـ160.000، والذين لم يقبضوا رواتبهم بشكل منتظم منذ عام 2016. إلا أن اليونيسف خصصت معظم تحويلاتها النقدية لكيانات تابعة لحكومتي صنعاء وعدن اللتين استخدمتا “التجويع كسلاح حرب”، حسبما أكد فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين بشأن اليمن (GEE).
في 2017 و2018، بلغ ما قدمته اليونيسف إلى السلطات 178 مليون دولار، معظم هذا المبلغ سُلم إلى كيانات تابعة للحوثيين، وفق ما جاء في تقرير المراجعة للعام 2019.
يشكل الموظفون المقيمون في مناطق سيطرة الحوثيين، مع أسرهم، حوالي ربع السكان، حسب تقديرات البنك الدولي. تتوفر لهؤلاء قاعدة بيانات موثوقة، كان بإمكان الأمم المتحدة أن تستخدمها في توزيع المساعدات، لكنها تركت هؤلاء الفقراء الجدد عرضة للجوع والمخاطر.
في الرصيف المقابل لمبنى نقابة الصحفيين اليمنيين في مديرية التواهي محافظة عدن، يقف المعلم عبد القوي ناجي المخلافي (43 عامًا)، وإلى جواره طفله، يبيعان بطاريات هواتف وبالونات وسلعًا صغيرة متفرقة.
نزح المخلافي وأسرته المكونة من زوجة و7 أبناء، إلى عدن، مطلع عام 2018، بحثًا عن الراتب، وعقب وصوله باشر العمل في مدرسة ابن خلدون الأساسية في مديرية التواهي، “إلا أنني لم أستلم رواتبي حتى الآن”، يقول المخلافي الذي أجريت معه المقابلة في أغسطس الماضي.
تتشابه حالة المخلافي مع حالة آلاف المعلمين الذين نزحوا إلى مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا. ومن هؤلاء الموجه التربوي أحمد القدسي الذي نزح إلى الجزء الجنوبي من مدينة تعز، الواقع تحت سيطرة الحكومة الشرعية، وفي سبتمبر الماضي انضم القدسي إلى مجموعة من المعلمين، وكلوا مكتب محاماة لرفع دعوى قضائية ضد الحكومة.
ولم يرد مسؤولان في وزارة المالية التابعة للحكومة اليمنية، على أسئلة معد التحقيق، في حين قدر الناطق الإعلامي للوزارة وائل قباطي، عدد الموظفين النازحين الذين يستلمون رواتب، بـ20 ألف موظف.
نهاية 2019، قرر الموظف في اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء، محمد علي الكبشي، السفر إلى عدن، ليراجع السلطات من أجل استعادة راتبه، لكن، وبدلًا من الراتب، اقتيد الكبشي، يوم 8 فبراير 2020، إلى زنزانة انفرادية في معسكر بدر في حي خور مكسر في عدن، بعد إبلاغ مسؤولة في لجنة الانتخابات حراسة وزارة المالية بأنه يعمل مع الحوثيين، وفق ما تظهر الوثائق.
في تلك الزنزانة المليئة بالبعوض قضى 45 يومًا، خلالها مات والده كمدًا، حسبما يقول الكبشي الذي أفرج عنه يوم 25 مارس الماضي، بضمانة زميل له في العمل.
عقب الإفراج عنه، قرر الكبشي العودة إلى صنعاء لطمأنة بقية أسرته، وعند وصوله إلى نقطة أمنية في مديرية القبيطة محافظة لحج، أوقفه مسلحون حوثيون، واقتادوه إلى سجن مدينة الصالح في محافظة تعز، ليقضي هناك 6 أشهر و15 يومًا، بتهمة موالاة الحكومة الشرعية. “لم يصدقوا أنني سُجنت في عدن بتهمة العمل مع الحوثيين”، يقول الكبشي الذي أفرج عنه، مطلع نوفمبر الماضي، نتيجة زيارة تفتيشية نفذتها لجنة تابعة للحوثيين.
قصة الكبشي واحدة من مئات القصص المأساوية لمدنيين لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع الدائر، عانوا الأمرين. وبعضهم مات وهو يبحث عن راتبه، فيما يستمر أطراف الصراع في استغلال الموارد والمساعدات للاستقطاب والتجنيد.
أسطورة الحصار
يعطي قرار مجلس الأمن رقم 2216 بشأن حظر وصول السلاح إلى الحوثيين (حركة أنصار الله) والقوات الموالية للنظام السابق، التحالف العربي بقيادة السعودية، حق تفتيش السفن والطائرات القادمة إلى اليمن والمغادرة منه، إلا أن القيود المفروضة على حركة الملاحة في اليمن استُخدمت لحجب حقيقية الأزمة الإنسانية التي يعانيها الشعب اليمني.
ردًّا على إطلاق الحوثيين والقوات العسكرية الموالية للنظام السابق صاروخًا باليستيًّا على السعودية، في نوفمبر 2017 فرض التحالف العربي بقيادة السعودية حصارًا كليًّا على الموانئ والمطارات اليمنية، استمر 3 أسابيع، وقوبل بتنديد عالمي. لكن مشكلة الجوع في اليمن تكمن أساسًا في فقدان غالبية اليمنيين مصادر دخلهم، وفق ما خلص إليه تقرير للبنك الدولي، بعنوان “تأمين واردات السلع الغذائية الضرورية إلى اليمن“.
في ذلك الشهر، أي نوفمبر 2017، ارتفع حجم الأغذية الواصلة عبر موانئ البحر الأحمر إلى 295.966 طنًّا متريًّا، مقارنة بـ113.374 طنًّا متريًّا في نوفمبر من العام 2016، وفق بيانات بعثة الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM)، وإحصاءات مؤسسة موانئ البحر الأحمر الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. كما سجل النفط الواصل عبر الموانئ نفسها، عام 2017، زيادة قدرها 157 ألف طن متري مقارنة بالعام 2016.
وعلى الرغم من سهولة الوصول إلى هذه الحقائق، إلا أن منظمات أممية ودولية ظلت تربط تفاقم جوع اليمنيين بالحصار والقتال. تبعتها في ذلك وسائل إعلام دولية.
كان يمكن للأمم المتحدة أن تسهم في إنقاذ الاقتصاد اليمني من الانهيار، من خلال إيداع أموال المساعدات في البنك المركزي اليمني، إلا أن المنظمة الأممية “حذت حذو دول التحالف العربي التي بقيت تنقل المال إلى الجماعات اليمنية الموالية لها جوًّا، ما حرم البنك المركزي فرصة المحافظة على استقرار قيمة الريال اليمني”، حسبما يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة عدن الدكتور يوسف سعيد أحمد.
وقال مسؤول في وزارة التخطيط في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، طلب عدم الكشف عن هويته، إن الأمم المتحدة اعتبرت مقترح إيداع أموال المساعدات في البنك المركزي “غير عملي”. وكالعادة امتنع مكتب “أوتشا” في اليمن عن التعليق. كما امتنع المتحدث باسم الحكومة اليمنية راجح بادي، عن تأكيد أو نفي هذه المعلومات.
اختلالات مزمنة
لمناسبة اليوم الدولي لمكافحة الفساد، الذي يصادف يوم 9 ديسمبر من كل عام، حث الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الناس في جميع أنحاء العالم “على مواصلة العمل على إيجاد حلول مبتكرة من أجل كسب المعركة ضد الفساد”، بيد أن الأمم المتحدة قلما قدمت نموذجًا يحتذى به. فالأمين العام والأمانة العامة يُعدان من أقل الجهات تنفيذًا للتوصيات الصادرة عن الأجهزة الرقابية، وفق ما أكد تقرير لوحدة التفتيش المشتركة، بعنوان “منع الغش والتصدي له في مؤسسات الأمم المتحدة”.
نهاية 2018، وبالتزامن مع نشر وكالة أسوشيتد برس الأمريكية، تقريرًا حول سرقة المساعدات الإنسانية في اليمن، اعترف برنامج الغذاء العالمي بسرقة الحوثيين للمساعدات عبر منظمة واحدة على الأقل، هي مشروع التغذية المدرسية والإغاثة (SFHRP) التابع لوزارة التربية والتعليم، والذي يتولى توزيع 60% من المساعدات العينية التي يقدمها البرنامج في مناطق سيطرة الحوثيين.
لكن اعتراف البرنامج جاء ناقصًا ومتأخرًا. فإدارة البرنامج في روما كانت تعلم رسميًّا، منذ العام 2016 على الأقل، بقضية تسرب المساعدات، لكنها تكتمت على الأمر، وبقيت تفاوض الحوثيين من تحت الطاولة، حسب ما تشير الوثائق الداخلية للبرنامج.
عند وصوله إلى صنعاء، صيف 2016، لم يجد فريق المراجعة ما يشير إلى أن البرنامج يتعامل مع حالة طارئة من الدرجة الثالثة، فخلص إلى استنتاج عام مفاده أن أداء البرنامج في اليمن للفترة: يناير 2015 – أبريل 2016، “غير مُرضٍ، أي أن الضوابط الداخلية وممارسات الحوكمة وإدارة المخاطر إما لم تُنشأ أو لا تعمل بشكل جيد”، وهو تصنيف يعني أن بعض القضايا التي تم تحديدها يمكن أن تُعرض البرنامج للفشل.
في ذلك التقرير، كما في التدقيق الذي أجري في نوفمبر 2017، جاء مشروع التغذية المدرسية ضمن شركاء البرنامج الأكثر خطورة في تسرب المساعدات، إلا أن إدارة البرنامج لم تتخذ أي إجراء في حينه، ناهيك عن استخدام “استعراض النزاهة الاستباقية”، وهي أداة استحدثها مكتب المفتش العام للبرنامج، في مايو 2015.
في 20 يونيو 2019، أعلن البرنامج، في بيان، تعليقًا جزئيًّا لعمليات تقديم المساعدات الغذائية في مناطق سيطرة الحوثيين. وبعد حوالي شهرين استأنف توزيع الأغذية، على إثر ما قال إنه اتفاق مع الحوثيين سيتيح له تنفيذ مشروع البصمة البيومترية، إلا أن الاتفاق لم ينفذ حتى لحظة كتابة هذا التقرير، وفق ما أكد مكتب البرنامج في اليمن.
لم تكتفِ مليشيا الحوثيين والقوات العسكرية التي تسيطر على صنعاء ومعظم مناطق شمال اليمن، بعدم تنفيذ الاتفاق، بل صعدت حملتها ضد وكالات الإغاثة بشكل غير مسبوق. ومن 154 حادثة في الربع الأول من العام 2019، ارتفع عدد الحوادث التي تعرض لها نشطاء العمل الإنساني، إلى 1810 حوادث في الربع الأول من العام الجاري، شملت التدخل في تنفيذ الأنشطة، وتقييد حركة الموظفين والبضائع، والاعتداء على موظفين، والتأثير على مشاريع منظمات غير حكومية، ومحاولة السيطرة على عمليات التصميم والموازنة والمشتريات والتوظيف. 95% من هذه الحوادث نُسب إلى الحوثيين، حسب ما جاء في خطة الاستجابة الإنسانية يونيو – ديسمبر 2020.
لكن هذه الحوادث هي نتيجة “إذعان الأمم المتحدة لسلسلة من المطالب، وتوجيه مبالغ طائلة من الأموال إلى وزارات فاسدة، وعدم التحقيق والإبلاغ بشفافية بشأن تواطؤ مزعوم من وكالات الأمم المتحدة بتحويل مسار المساعدات، ما شجع السلطات على السعي إلى مزيد من السيطرة على عمليات الإغاثة”، وفق تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، صدر في سبتمبر الماضي، بعنوان “عواقب قاتلة“.
يبرهن هذا التحقيق على أن سرقة المساعدات وعدم وصولها إلى الأشد احتياجًا، لا يرجع فقط إلى وجود جماعات مسلحة كالحوثيين وغيرهم، بل يرتبط أساسًا باختلالات مزمنة تعانيها معظم وكالات الأمم المتحدة العاملة في اليمن منذ ما قبل اندلاع القتال. فالفساد في المجال الإغاثي هو نتيجة ضعف العمل المؤسسي، والافتقار لقاعدة بيانات موثوقة، وغياب الشفافية، وفق ما يؤكد نبيل الحكيمي، المدير السابق لمكتب اللجنة العليا للإغاثة (حكومية) في محافظة تعز، ومحمد العامري، رئيس مؤسسة إنقاذ التنموية الخيرية، وآخرون.
يوحي موقع الدكتور نيفيو زاغاريا على الإنترنت، بمدى تعاطف هذا الطبيب الإيطالي مع معاناة اليمنيين، لكن زاغاريا (64 عامًا) تصرف أثناء فترة عمله ممثلًا لمنظمة الصحة العالمية في اليمن، بأموال المانحين بطريقة غير كفؤة، ولأغراض غير الأغراض التي خُصصت لها، وفق ما أقرته منظمة الصحة العالمية، في بيان، بتاريخ 7 أغسطس 2019.
يتشابه أداء “زاغاريا” مع أداء العديد من موظفي وكالات أممية ودولية تعمل في سياق الحالة الطارئة في اليمن الذي يشهد منذ 5 سنوات أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حسب الأمم المتحدة. لكن، وخلافًا لمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة، اللتين ألغتا عقود ممثليهما في اليمن، اكتفى برنامج الغذاء العالمي بنقل مدير مكتبه في اليمن، الأمريكي ستيفن أندرسون، إلى ميانمار (بورما)، ليمثل البرنامج هناك.
وتصدر اليمن قائمة وضعها المراجع الخارجي للبرنامج، ضمت 20 بلدًا لديها أعلى مخاطر تدليس وفساد، من أصل 84 بلدًا يعمل فيها برنامج الغذاء. وبلغ عدد التحقيقات التي استهدفت مكتب البرنامج في اليمن، عامي 2017 و2018، 7 تحقيقات، تعلق بعضها بتعامل مكتب البرنامج في اليمن مع موردين من دون تقديم ضمان مالي. إلا أن كل هذه القضايا لم تفضِ إلى إحداث تغيير في نهج البرنامج.
في الفترة 2015-2019، بلغ إجمالي التمويل لخطة الاستجابة الإنسانية في اليمن، أكثر من 9 مليارات دولار أمريكي، ثلث هذا المبلغ تقريبًا خُصص لبرنامج الغذاء العالمي الذي يمتلك اسطولًا يتألف من 5600 شاحنة و30 سفينة، وما يقرب من 100 طائرة، وفق ما تفيد بياناته. لكن البرنامج الذي تأسس في 1961، مازال يتعرض لمخاطر تدليس وفساد كبيرة، وفق ما يكرر المراجع الخارجي لحسابات البرنامج، في تقاريره السنوية.
يقول البرنامج إنه سجل حتى أكتوبر الماضي، أكثر من مليون شخص بالنظام البيومتري (نظام البصمة) في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا. لكن نظام البصمة قد يحد من تكرار الأسماء، إلا أنه لا يضمن أن المساعدات تصل إلى الأشد احتياجًا. فالبرنامج، ومعه اليونيسف، يعتمدان على قاعدة بيانات صندوق الرعاية الاجتماعية، إضافة إلى قوائم جديدة ارتكزت على معايير الولاء السياسي والمذهبي والجهوي.
بعد أن أطلقه الحوثيون من السجن بضمانة حضورية من نقابة الصحفيين، بشرط أن يبقى في صنعاء، تمكن الموظف في اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء محمد مقبل العزيزي، منتصف شهر سبتمبر 2017، من الفرار هو وعائلته إلى عدن.
كان مكتب برنامج الغذاء في عدن أول باب يطرقه العزيزي طلبًا للمساعدة، فقيل له إن شركاء البرنامج سوف يمرون إلى موقع سكنه، “لكنني لم أستلم شيئًا منذ ذلك الحين “، يقول العزيزي الذي أجريت معه المقابلة يوم 25 أغسطس الماضي.
يعاني اليمن من مخاطر تسييس المجال العام، بما فيه الإحصاءات الرسمية والإغاثة. وتعد قاعدة بيانات صندوق الرعاية الاجتماعية، من أوثق القوائم المنجزة في مسوحات الفقر، لكنها قديمة، كما لم تنجُ من التسييس، فخلال المسح الوطني الذي نفذ في 2008، أوقف ما لا يقل عن 3 رؤساء فرق مسح، بتهمة التلاعب ببيانات المسح لأغراض سياسية وانتخابية، وفق ما تظهر وثائق حصل عليها معد التحقيق.
نهاية 2014، تعهد البرنامج لفريق المراجعة الداخلية بإصلاح سجل المستفيدين، لكنه لم يفعل، ومازال منذ ذلك الحين يستخدم قائمة صندوق الرعاية التي تضم حوالي 1.5 مليون مستفيد، إضافة إلى حوالي 10 ملايين تم تقييدهم منذ 2015، بواسطة عُقّال الحارات (مسؤولي الأحياء).
ولم يرد البرنامج على أسئلة معد التحقيق حول الآلية التي يستخدمها لتقييد المستفيدين، واكتفى بالقول إنه رفع عدد الأشخاص المستفيدين من نحو مليون شخص، عام 2015، إلى قرابة 13 مليوناً في الوقت الراهن. إلا أن عشرات الحالات التي وثقها هذا التحقيق، تشير إلى أن تقييد المستفيدين خضع لمعايير لا صلة لها بالاحتياج، وأن نظام البصمة البيومترية نهض على السجل القديم، “فمجالس القرى هي التي تتولى تسجيل المستفيدين”، يقول الحداد.
يقع حي نجد عمران بجوار السجن المركزي في مدينة تعز، إلا أن أيًّا من المنظمات الأممية لم تصل إلى هذا الحي، منذ 2015، وفق ما ذكر طلال دحان (32 عامًا)، وسكان آخرون التقاهم معد التحقيق، وأكد ذلك مسؤول الحي عبد الباري النجاشي.
في منزله المستأجر في حي الروضة في مديرية دار سعد محافظة عدن، يمتد إبراهيم محمد أنعم (80 عامًا) على السرير، بالكاد يستطيع تحريك عينيه بسبب جلطة سببت له شللًا.
في هذا المنزل المكون من 3 غرف، يستضيف الموظف المتقاعد في مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والنشر، أسرتين نزحتا مطلع 2018 من مدينة الحديدة. إحداهما أسرة وجدي سعيد، زوج حفيدة أنعم، الذي نزح عقب تعرض المصنع الذي يعمل فيه للقصف. لكن الأسرتين النازحتين لا تحصلان على مساعدة. واشتكى العزيزي وآخرون من الممارسات الجهوية والعنصرية عند تسجيل المستفيدين.
“قال لي في رأسك شيء”؛ بهذه الكلمات يشرح عبد الواحد محمد السامعي (60 عامًا)، أحد النازحين الشماليين الذين وصلوا مطلع 2018 إلى عدن، كيف رفض عاقل الحارة (مسؤول الحي) تسجيله ضمن النازحين، بسبب هويته الشمالية.
تاجر دولي
يقول برنامج الغذاء إن الكفاءة موجودة في صميم عمله، “فلكل دقيقة أهميتها في حالات الطوارئ لإيصال الغذاء إلى الضعفاء، وكل دولار يوفر، يعني أن باستطاعة البرنامج الوصول إلى عدد أكبر من الجياع”. إلا أن نماذج المشاريع التي استعرضها معد التحقيق، تُظهر البرنامج أشبه بتاجر دولي، أكثر من كونه منظمة إنسانية تعنى بمكافحة الجوع وإنقاذ الأرواح.
في 2011، أي قبل توسع نطاق القتال، حصل البرنامج من وزارة التنمية الدولية البريطانية (DFID)، على منحة قيمتها 3.481.012 دولارًا، لتمويل “مشروع برنامج طوارئ الأمن الغذائي في اليمن”. من إجمالي المنحة اشترى البرنامج من السوق الدولية قمحًا وزيتًا بمبلغ مليون و868 ألفًا و201 دولارًا (54%)، وما تبقى من المنحة وقدره مليون و612 ألفًا و811 دولارًا (46 %)، توزع على النحو التالي:
تكاليف نقل خارجي 28.071 $ 1.7%
تكاليف نقل داخلي وتخزين 740.778 $ 45.9%
تكاليف تشغيلية أخرى مباشرة 258.744 $ 16%
تكاليف دعم مباشر 357.486 $ 22.16%
تكاليف دعم غير مباشر 227.729 $ 14.12%
تبديد أموال المانحين يُمارس عبر مختلف الوكالات، ويشمل المشاريع الكبيرة والصغيرة على السواء. وعلى سبيل المثال، نفذت جمعية الإصلاح، عام 2017، مشروعًا لتوزيع حقائب مدرسية وكراسات وأقلام لـ15 ألفًا و140 تلميذًا نازحًا ومجتمعًا مضيفًا، بقيمة قدرها 244.080 دولارًا، توزعت على النحو التالي:
قيمة اللوازم التعليمية 151.400 $
تكاليف النقل 40.000 $
تكاليف الموظفين 40.680 $
تكاليف زيارات المراقبة 12.000 $
نهاية العام 2017، أوصت دراسة مشتركة بين الوكالات، بعنوان “وظائف السوق وإدراك المجتمع لبرامج المساعدات النقدية”، باستخدام برنامج النقدية متعدد الأغراض، باعتباره الأنسب في السياق الحالي لليمن، إلا أن البرنامج وعديدًا من الوكالات أبقوا على نهجهم القديم، ما أدى إلى استفحال معضلة تبديد المال وتسرب الأغذية أو تلفها والسطو عليها.
في 30 ديسمبر 2018، بلغت قيمة السلع المكدسة في مخازن البرنامج في اليمن، بسبب تحديات الوصول التشغيلية، 400 مليون دولار. وفي 2019، احتل اليمن للعام الثاني على التوالي، المرتبة الأولى في قائمة 10 دول سجلت أعلى خسائر ما بعد التسليم تكبدها البرنامج.
وبلغت قيمة خسائر البرنامج في اليمن من دقيق القمح وحده 1631 طنًّا متريًّا، ما نسبته 77% من إجمالي خسائر البرنامج في 2019، على المستوى العالمي، من دقيق القمح، وفق بيانات البرنامج.
تركيز البرنامج على شراء الأغذية من الشركات العالمية، وتساهله مع الفساد، لم يتسبب بخسائر مالية فحسب، بل أدى، في مارس 2019، إلى تسمم أكثر من 300 شخص في أوغندا، مات منهم 5، نتيجة تناولهم مستحضر Cereal Super وزعه البرنامج، حسبما أفاد البرنامج ووزارة الصحة الأوغندية.
تشير معلومات تضمنها تقرير الخسائر المالية للبرنامج للعام 2019، إلى أن البرنامج اكتشف منتصف العام 2018، شحنات من القمح المدعم “سوبر سيريال” تحتوي على مادة سامة، إلا أن إدارة البرنامج اكتفت حينها بسحب المنتج، واسترداد خسائرها المالية من المورد، ولم توقف التعامل مع المورد إلا بعد وقوع وفيات في أوغندا.
وفي 17 نوفمبر الماضي، قالت قوات الحزام الأمني في عدن الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي، إنها ضبطت في مستودعات للبرنامج كميات من المواد الغذائية المنتهية الصلاحية، بينها “سوبر سيريال”.
حاول معد التحقيق الاتصال بمراجع الحسابات الخارجي السيد ريتشارد بيلين، على رقم هاتف العمل، إلا أن أحدًا لم يرد، ويرجع ذلك، كما رجَّح أحد المصادر، إلى توقف الأعمال في روما بسبب وباء “كوفيد 19”. وفي حين لم يتسنَّ الحصول على رقم الهاتف الخلوي للمراجع، وبريده الإلكتروني، لم ترد المفتشة العامة للبرنامج “كيكو هارفي”، على رسالة إلكترونية بعثها معد التحقيق، تضمنت نتائج التحقيق، ومجموعة أسئلة.
أُنجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة كانديد