المواطن/ تقرير ـ بلال الطيب
من الـوهلة الأولى لانـدلاع ثـورة 26سبتمبر 1962م، هب أبناء ردفان – كغيرهم من ثوار الجنوب – لمُساندتها، كـان الشيخ الثائر راجح بن غالب لبوزة الاسم الأشهر في تاريخ اليمن النضالي في الصفـوف الأولى للمُواجهة، وبقرار اتُخذ من صنعاء وجبال الأعبوس اشتعلت جبال ردفـان بالمقاومة، قام الإنجليز بعدة حملات عسكرية لإخضاعها، بـاءت جميعها بالفشل، وبالفعل كانت تلك الثورة نواة الكفـاح المُسلح، والضربة القاصمة التي أجبـرت المُحتل على المُغادرة.
مُقدمات نضالية
تعود المُقدمات النضالية لأبناء ردفان إلى العام 1881م، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز منطقة الضالع، رفضوا عام ذاك الضرائب الجائرة التي فُرضت عليهم من قبل الأخيرين، فأرسل المُحتل بحشد من عساكره لتأديبهم، تصدى الثوار لهم ببسالة، وشهدت سائلة حردبة فصول تلك المواجهة، أذعن الإنجليز حينها للأمر الواقع، وطالبوا على غير عادتهم بالحوار.
بعد تلك الواقعة بـ 61 عامًا قام أبناء ردفان بانتفاضة أخرى 1942م، تولى الشيخ الثائر راجح بن غالب لبوزة مهمة قيادتها، نجح بالهجوم على ثكنة عسكرية في جبل الحمراء، تمكن من القضاء عليها، ذاع حينها صيته، وصار الجمَّال النحيل الذي أمتهن جلب الحبوب من الضالع وقعطبة بطلًا لا يشق له غبار.
استغل الشيخ لبوزة الخلاف بين الإنجليز والإمام أحمد يحيى حميد الدين، وتوجه ومعه أفراد من قبيلته (آل قطيب) إلى منطقة السخنة لمقابلة الأخير 1956م، حظي وأصحابه بدعم منه محدود، ليقوم الإنجليز بعد عودتهم بقصف قراهم، تصدى الثوار ببنادقهم الألمانية التي حصلوا عليها للطائرات الإنجليزية، وأسقطوا منها اثنتين.
ثورة شاملة
حددت ثورة سبتمبر منذ اللحظة الأولى لانطلاقها حقيقة توجهها الوطني كثورة شاملة لا تعترف بالحدود الشطرية، وعبرت عن خطها الوطني المُعلن صبيحة الـ 26 سبتمبر 1962م، كما جاء ضمن أهدافها الستة، أو في بيانها إلى الشعب اليمني، على اعتبار أنَّه شعب واحد يؤمن بالله، وبأنَّه جزء من الأمة العربية.
عبر الشعب اليمني حينها عن فرحته بذلك الحدث العظيم، وفي شوارع عدن خرجت الجماهير مُحتفية، وبدأت طلائع المُـتطوعين تتجه شمالاً، ليقوموا – وقبل أن ينتهي ذلك العام – بإعادة تنظيم أنفسهم في إطار سياسي يُمثل أبناء الجنوب أمام القيادة الشمالية، وسموا تنظيمهم بـ «هيئة تحرير الجنوب اليمني المُحتل»، وقد كان نشاطهم بسبب عدم رضا المصريين محدود.
أواخر مارس 1963م هبَّ أكثر من 300 مُقاتل ردفاني لمُساندة الثورة السبتمبرية على مجموعتين – مجموعة بقيادة الشيخ لبوزة، وأخرى بقيادة سيف مقبل القطيبي، سطروا في عبس والمحابشة صفحات ساطعة من الإقدام، وفي قريتي الوعيل، ومفتاح سجلت مجموعة الشيخ لبوزة أروع انتصاراتها.
بازدياد العمليات العسكرية المُوجهة ضد الجمهورية الوليدة، بدأ المصريون يفكرون جدياً في إيجاد إطار سياسي يلم شتات الجنوبيين المتواجدين في الشمال، يستطيعون من خلاله تنظيم أنفسهم للقيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال، استغل «القوميون العرب» ذلك بصورة ذكية؛ وبدأت الحركة التي كان يقودها في الجنوب فيصل عبداللطيف الشعبي، وفي الشمال مالك الإرياني تروج لأفكار الكفاح المسلح، وتعد العدة لإنشاء تنظيم مُنبثق عن الحركة الأم، وأجرت اتصالاتها مع قياداتها في الخارج للاتصال بالزعيم جمال عبدالناصر للحصول منه على الضوء الأخضر.
جاء الضوء الأخضر، وتوجه قحطان محمد الشعبي من القاهرة إلى صنعاء، وتمّ تعيينه مستشاراً للرئيس عبدالله السلال لشؤون الجنوب بدرجة وزير، وقد استطاع الأخير خلال فترة وجيزة أن ينال ثقة الجنوبيين، عقدوا أكثر من اجتماع، ومن هؤلاء جميعاً تشكلت النواة الأولى لحركة التحرر الجنوبية، اتفقوا على توحيد جميع القوى الوطنية في إطار جبهة مُوحدة، واستقر الرأي على تسميتها باسم «جبهة تحرير الجنوب اليمني المُحتل»، وبرز على صدر ميثاقها شعار «من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية». وهكذا وكما بدأ أحرار الشمال نضالهم من عدن، بدأ أحرار الجنوب نضالهم من صنعاء، تحت شعار «الاستقلال والوحدة».
حين زارت لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة صنعاء 29 مايو 1963م نظم الجنوبيون مسيرة حاشدة تحركت من العرضي إلى دار الضيافة حيث تقيم اللجنة، وسلموها مُذكرة تشرح أوضاعهم تحت حكم الاحتلال، وحددوا مطالبهم بالاستقلال.
توجهت المظاهرة بعد ذلك إلى منزل الرئيس السلال، وسلموه نسخة من تلك المذكرة، وطالبوه بدعم الكفاح المسلح، وفتح مكتب للجبهة، وتعيين قحطان الشعبي رئيسًا لمصلحة أبناء الجنوب حتى تكون له صفة رسمية وصلاحيات قانونية، وقد لبى السلال مطالبهم، إلا أنَّ فتح المكتب رفض من قبل بعض القوى.
ساعة الصفر
كان قتال أبناء ردفان في جبال حجة مُشرفًا، شهداء وجرحى كُثر سقطوا منهم، ليعودوا بعد ثلاثة أشهر إلى صنعاء، وذلك بعد أنْ أعلن من ذات المدينة عن تأسيس «جبهة تحرير الجنوب» كما سبق وأشرنا، أصدرت الأخيرة بيانها التحرري 5 يونيو 1963م، كان الشيخ راجح لبوزة، والشيخ سيف مقبل من جملة الموقعين عليه، التقوا بعدها بالرئيس عبدالله السلال، والمناضل قحطان الشعبي، وتم الاتفاق على فتح جبهة في ردفان على أن يتولى الشيخ لبوزة قيادتها.
وفي مُنتصف ذات الشهر عقد في منزل القاضي عبدالرحمن الإرياني اجتماع ضم عدد من الشخصيات الوطنية، وقد شدد الشماليون فيه على ضرورة فتح جبهة في عمق الأراضي الجنوبية من أجل تخفيف الضغط على الثورة، وافق الجنوبيون على ذلك، وعقدوا في اليوم التالي اجتماعاً قرروا فيه تشكيل لجنة اتصال مهمتها الإعداد والتهيئة للثورة، مكوَّنة من 12 شخصًا، ستة ممثلين لحركة القوميين العرب، وستة ممثلين لتشكيل القبائل.
غالبية البيانات التي صدرت حينها عن التنظيمات السياسية الجنوبية كانت تعتبر اليمن إقليمًا واحدًا، شمالًا وجنوبًا، وجزءًا من الوطن العربي المُوحد، وقد كانت تلك الشعارات تؤذي الإنجليز وحكومتها الاتحادية، أصدر الأخيرون في ذات الشهر قانون صارم موجه لدعاتها، جاء نصه: «من يوافق أو يدفع الآخرين إلى التفكير بأن اتحاد الجنوب العربي يعتبر جزء من دولة أخرى، يتعرض لعقوبة السجن لمدة لا تزيد عن سبع سنوات، أو لغرامة لا تزيد عن خمسمائة جنيه استرليني» .
في الأسبوع الأول من يوليو 1963م عقد في قرية حارات ناحية الأعبوس – تعز اجتماع تشاوري لعدد من أعضاء «حركة القوميين العرب»، حضره: قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف، وسلطان أحمد عمر، وعلي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين، وآخرون، وتم فيه الاتفاق على توسيع دائرة التحالفات الجنوبية على قاعدة الكفاح المسلح، وإضافة كلمة القومية لاسم الجبهة.
وذكر سلطان أحمد عمر – أحد أولئك المجتمعين – في مُقابلة صحفية أنَّ قيادة الحركة اتخذت في ذلك الاجتماع عدة خطوات حاسمة، أهمها الإعداد للثورة، واختيار جبال ردفان لتفجيرها، لأسباب عدها استراتيجية، وهذا يعني أنَّ ساعة الصفر حُددت مُسبقًا، ومن جبال الأعبوس.
توجه بعد ذلك عدد من الثوار الجنوبيين إلى مدينة تعز، وشكلوا قيادة لتنظيم التعاون مع المخابرات المصرية للإعداد للثورة، وفتحوا مكتبًا لها، ونشروا «الميثاق القومي»، و«بيان مارس» كما أقر، ولم يغير فيه سوى اسم جبهة التحرير إلى «الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل»، وتم إعادة نشرهما في صحيفة الثورة التي كانت تصدر من ذات المدينة.
تبعاً لذلك، عقد في مدينة تعز اجتماع كبير ظم غالبية ثوار الجنوب الفاعلين 19 أغسطس 1963م، أخذت الجبهة فيه تسميتها الجديدة، وقد اندمجت فيها وتبنت خيارها سبعة تنظيمات سرية، وهي: «حركة القوميين العرب، والجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، والجبهة الوطنية، والتشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية»، وقد التحقت بها ثلاثة تنظيمات أخرى، وهي: «منظمة الطلائع الثورية بعدن، ومنظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل».
عُقد اجتماع تعز الموسع قبل عودة الشيخ راجح بن غالب لبوزة وأصحابه إلى ردفان بأيام، وأثناء مرور الأخيرين بمدينة إب التقاهم المقدم أحمد الكبسي قائد اللواء، والذي كانت تربطه بالشيخ لبوزة عَلاقات وثيقة جمعتهم فيها أعمالهم القتالية في جبهة المحابشة، طلب الكبسي منه دراسة الأجواء في ردفان للقيام بالثورة، مؤكدًا استعداده لدعمهم، وتدريب كوادرهم.
طلقة رصاص
عاد الثوار إلى ردفان نهاية أغسطس 1963م، وبحوزتهم أسلحتهم الشخصية، وبعض القنابل، وحين علم ني ميلن الضابط السياسي البريطاني بذلك، أرسل إلى الشيخ لبوزة ومجموعته، وطلب منهم تسليم أنفسهم، وأسلحتهم، ودفع 500 شلن غرامة على كل فرد؛ كضمانة لعدم عودتهم إلى الشمال مرة أخرى، رد بطلنا الثائر عليه برسالة قوية، وأرفقها بـطلقة رصاص.
لبوزة الثائر الأمي الذي لا يجيد الكتابة إلا بلغة البندقية، أملى لكاتب رسالته عبارات مُختزلة خالية من مفردات المهادنة الاستسلام، قال للضابط الإنجليزي: «عُدنا إلى بلدنا، ولم نعترف بكم ولا بحكومة الاتحاد المزيفة، وإن حكومتنا هي الجمهورية العربية اليمنية، ونحذركم من اختراق حدودنا».
استشاط الضابط الإنجليزي غضبًا، وتقدم في اليوم التالي صوب ردفان، ألقى القبض على مجاميع قبلية عائدة لتوها من الشمال، فما كان من الثوار إلا أنْ تمترسوا فوق جبل البدوي المُـطل على الحبيلين، لتدور في صبيحة يوم الاثنين 14أكتوبر1963م مواجهات شديدة بين الطرفين، استمرت لأربع ساعات، انتهت قبل أن ينتصف نهار ذلك اليوم بسقوط الثائر لبوزة شهيدًا عن عمر يناهز الـ 64 عامًا، متأثرًا بثلاث شظايا لقذيفة مدفعية اخترقت جسده الطاهر.
أذاعت إذاعتي صنعاء، وصوت العرب من القاهرة النبأ الفاجعة، وبعد مواراة جثمان الشهيد، فتيل الثورة وفارسها المقدام، تعاهد الثوار فوق قبره على مواصلة المشوار، اختاروا ولده بليل قائدًا لهم، وجعلوا من وادي دبسان مسقط رأس الشهيد مقرًا لعملياتهم العسكرية.
مثلت لحظة استشهاد لبوزة بداية حقيقية لمرحلة الكفاح المسلح، جميع الكيانات الجنوبية المسلحة اعتبرتها كذلك، أصدرت «الجبهة القومية لتحرير الجنوب» بيان حماسي نعت فيه الشهيد، وأكدت مواصلة النضال، جاء فيه: «ونعاهد راجح بن غالب أن نخوض المعركة حتى النصر، مهما كانت التضحيات».
حكومة الاتحاد من جهتها أصدرت بيان طويل مليء بالأكاذيب تم بثه عبر إذاعة عدن، جاء فيه: «أن فرقة مؤلفة من الجيش والحرس الاتحادي تعرضت لنيران فريقين من رجال العصابات، كانوا يطلقون النار من مراكز تقع في الجانب الجبلي، ويتألف الفريقان من ثمانية وثلاثين رجلًا، بقيادة قائد رجال العصابات الرجعي المُـفسد راجح بن غالب لبوزة، ولم يصمد أتباع اللص لبوزة أمام القوات الاتحادية المدربة تدريبًا عاليًا، التي أرغمتهم على الفرار».
نهاية ذات العام أصدرت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في عدن تقريرها الفصلي عن «الموقف القبلي وتقييم الامكانيات»، رفعته إلى وزارة الدفاع في لندن، جاء فيه: «أن الشيخ راجح غالب لبوزة قد قاتل قوات الحكومة، وقُتل على يد قوات الحكومة الاتحادية، وكان رجلًا شجاعًا، وصادقًا، ويستحق الاحترام».
صحيح أنّ يوم 14 أكتوبر 1963م لم يكن يومًا قد حدد مُسبقًا بأنّه يوم الثورة، لكن تفجير الثورة كان قد تم الاتفاق عليه، وهذا ما أكده المُـناضل ناصر السقاف الذي كان حينها نائباً لقحطان الشعبي، بقوله: «عاد راجح بن غالب لبوزة من الجبهة – جبهات الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر – ومعه مائة مقاتل، وقد سمع بقانون حكومة الاتحاد، وبعد التشاور مع القيادة والحكومة من شماليين وجنوبيين أعلن أنّه سيعود وسيقاوم إذا تطلب الأمر ذلك، أخذنا وعد لبوزة بعين الاعتبار، المهم عاد الرجال إلى ردفان، وطالبوهم بتسليم السلاح، فرفضوا، فنشب القتال».
في اليوم الثاني لاستشهاد الثائر لبوزة 15 أكتوبر 1963م، قام المُـناضل صالح علي الغزالي بتحرير رسالة إلى المقدم أحمد الكبسي أبلغه فيها نبأ استشهاد الشيخ لبوزة، وما تعرضت له قبائل ردفان من اعتداء بريطاني غاشم، وطلب منه إبلاغ قحطان الشعبي وقيادة الجمهورية في صنعاء بذلك.
إمكانيات ثوار ردفان كانت حينها ضئيلة جدًا، ولذات السبب توجهت مجموعة منهم برئاسة القائد بليل راجح لبوزة إلى إب، وتعز، ثم صنعاء طلبًا للدعم والمساندة، وكان أول دعم يتلقونه عبارة عن ذخائر وألغام، وقد تم نقلها على الأكتاف إلى مقر قيادتهم، وقد عمل بليل بعد عودته من الشمال على إكمال مهمة أبيه، نجح في لم شمل القبائل المُـتصارعة، بمساعدة مائزة من قبل بعض المشايخ، وهكذا صار أبناء ردفان يدًا واحدة في مواجهة الإنجليز، وأذنابهم.
كسارة جوز الهند
سعى الإنجليز لكبح الثورة في مهدها، قاموا خلال العام 1964م بخمس عمليات كبيرة، شارك فيها آلاف الجنود، وعدد كبير من الأسلحة الثقيلة، أطلقوا على حملتهم الأولى نتكراكر، ومعناها كسارة جوز الهند، تكونت من الكتائب الثانية، والثالثة، والرابعة لجيش الاتحاد، معززة بكتيبة مصفحات، وبعض القوات البريطانية المسنودة بالدبابات والمدفعية والطائرات، وكانت منطقة الثمير نقطة تجمعها.
ما أن أقلت طائرات الهيلوكبتر كتيبة من الجنود فوق الهضاب المشرفة على وادي ربوة، ووادي المصراح حتى انهال الثوار عليها بالضرب من بنادقهم، لتسارع القيادة الإنجليزية بوقف هذه العملية نهاية ذات الشهر، ثم عادت و أمرت باستمرار إنزال الجنود، وبالفعل أنزلت ثلاث فرق، أحاط بهم الثوار وأجبروهم على الرحيل مشيًا على الأقدام.
قام الإنجليز بعد ذلك بحملتهم الثانية رستم، سيطروا فيها على وادي تيم، ووادي ذنبه، نجح الثوار بعد أنْ وصلهم الدعم في استعادة تلك المناطق، وقتل عدد من الجنود، أعلنت إذاعتي صنعاء والقاهرة نبأ ذلك الانتصار، الأمر الذي أغاض الإنجليز، قاموا أواخر مارس بإرسال سرب مكون من ثمان طائرات من نوع هنتر لضرب حريب، وهو التعدي الصارخ الذي أثار سخطًا عامًا في الصحافة البريطانية، وهيئة الأمم المتحدة.
اعترفت تقارير المخابرات البريطانية حينها أنَّ عدد الثوار في ردفان وصل إلى أكثر من 500 مقاتل، ولأول مرة ذكروا بأن الثوار صاروا يلبسون بدلات رسمية، وأنهم في غاية التنظيم، ومسلحون تسليحًا جيدًا.
بعد فشل الحملة الثانية منتصف إبريل من ذات العام، قرر الإنجليز القيام بعملية عسكرية كُبرى بقيادة المأجور جنرال جون كابون، القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط، وهي قوات خاصة سميت بقوة ردفوس، وقد خصص للعملية عدد كبير من الطائرات، وحددت أهدافها بمنع الثورة من الانتشار، وإيقاف الهجمات على طريق الضالع، فيما بلغ عدد الجنود المشاركين بها حوالي 3000 جندي وضابط، واستمرت لحوالي 25 يومًا، وكسابقتها كان مصيرها الفشل الذريع.
زار الرئيس المصري جمال عبد الناصر اليمن 23 إبريل 1964م، وألقى من مدينة تعز خطابًا حماسيًا، عُدَّ نقطة تحول فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، وكان الشرارة التي أشعلت حرب التحرير الشاملة، انطلقت بموجبه عملية «صلاح الدين» الذائعة الصيت، وكانت تعز مقرها، وقد شكلت ذات المدينة وقرينتها قعطبة ملاذًا آمنًا لثوار الجنوب، وكانتا بحق مركز دعمهم، ونقطة انطلاقهم حتى تحقق الاستقلال.
الذئاب الحُمر
على الرغم من تمركز قوات الكومندوس البريطانية فوق الجبال المُطلة على وادي تيم، ووادي ذنبه، وتهجيرها لسكان قرى الواديين، استمر الثوار المُتمركزين شمال وادي تيم، ووادي المصراح، وجبال البكري بمناوشتهم وتكبيدهم الكثير من الخسائر، ولذلك قرر الإنجليز القيام بحملة رابعة بقيادة بلكر، استمرت من 11 حتى 23 مايو من ذات العام.
أراد الإنجليز من خلال هذه الحملة تعريف الثوار بقدرة جنودهم على التغلغل في عمق المناطق الوعرة، والاستحواذ على جبال البكري الاستراتيجية، وقد كان لهم ذلك، دارت المعركة الرئيسية في قرية القطيشي، ليشهد الإنجليز بعد انتهائها بشجاعة أبناء ردفان وبسالتهم.
بعد ذلك تأتي الحملة الخامسة من 24 مايو إلى 23 أغسطس 1964م، بقيادة بلير، ثم بلكر، وكان الهدف منها السيطرة على جبل الحورية أعلى قمة في ردفان، شن جيش الاحتلال هجمات فجائية على وادي تحلين بهدف السيطرة عليه، وقطع طرق قوافل الثوار المُحملة بالذخائر والمؤن من الشمال، إلا أنَّ الثوار تصدوا لهم، اسقطوا طائرة هيلوكبتر، وأعطبوا طائرتين.
اضطر وزير الدفاع البريطاني دنكن ساندر حينها أن يأتي لجبال ردفان الملتهبة في عز شهور الصيف، محاولًا رافع معنويات جنوده المنهارة، كما اضطرت الحكومة البريطانية أن تستقدم بعض جنودها المتواجدين في جنوب افريقيا وايرلندا، ولقوة وبسالة ثوار ردفان كانت الصحافة البريطانية تطلق عليهم: «الذئاب الحمر».
عقد مجلس العموم البريطاني جلسة خاصة لمناقشة تداعيات ذلك الوضع المُربك، وذكر أحد المؤرخين – حضر تلك الجلسة – أن أعضاء المجلس تحدثوا عن صمود أبناء ردفان، وتسأل أحدهم: كيف لم تستطيع قواتهم المزودة بأحدث العتاد العسكري من القضاء على المتمردين، وكيف لم تتمكن 1700 غارة جوية من ضرب مواقعهم؟!، وعلق ساخرًا: «لقد أقاموا متحفًا أطلقوا عليه متحف الرؤوس البريطانية، لكثرة قتلانا هناك».
الأرض المحروقة
لم يسترح ثوار ردفان لحظة، تمكن الإنجليز نهاية العام 1964م من تضييق الخناق عليهم، تمترسوا في المرتفعات الوعرة، الصعبة المسالك، ظلوا أيامًا بلا ماء، ولا طعام، ولا ذخيرة، حتى الهواء لم يكن سوى غلالة كثيفة من رائحة البارود، الأمر الذي زادهم قوة وصلابة، لم يتزحزحوا عن مواقعهم قيد أنملة، تغلبوا على جميع المُعوقات، وأثبتوا للجميع أنَّ الثورة مُستمرة، وأنَّ بريطانيا يمكن هزيمتها.
تأكد حينها للقاصي والداني نُبل مطالب الثوار، وقوة شكيمتهم، وقساوة المُحتل، وحقارة عملائه، خاصة بعد أن مارس الأخيرين جرائم حرب شنيعة في حق ردفان وأبنائها، أخذت طابع الأرض المحروقة. سمموا الآبار، وزرعوا الألغام، وقصفوا المنازل، وتسببوا بكارثة إنسانية فظيعة، نزح بسببها آلاف المواطنين إلى الضالع، وماوية، وعدن، وقد أدان أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني تلك الأعمال، وتناقلت تصريحاته وكالات الأنباء العالمية.
وفي عدن وقف أحد السياسيين الجنوبيين يتأمل أفوج النازحين، وقال مُتهكمًا: «هذا ما جنته ردفان من الكفاح المسلح»، وماهي إلا أيام قلائل حتى ضجت شوارع تلك المدينة بالثورة، ولم يكد ينتهي العام 1965م إلا وهناك 12 جبهة مفتوحة في أرياف الجنوب، ساهمت عمليات عدن الجريئة في تخفيف الضغط عليها، وصارت ردفان في فم كل ثائر، حسب أغنية شهيرة للفنان محمد مرشد ناجي، لتكلل تلك التضحيات برحيل المُحتل نهائيًا 30 نوفمبر1967م.
الثورة الحقيقية رُوح وثابة، تتجدد ما تجدد الظلم، وتنتصر ما توفرت الإرادة، يُحدثنا التاريخ كثيرًا أن الثورة – أي ثورة – لا تحظى في بدايتها بالدعم المُحفز للاستمرار، وأنَّ الثوار – أي ثوار – يكونوا عُرضة للتآمر والاحتقار، من القريب قبل البعيد، إلا أنَّها – أي الثورة – مع مرور الوقت تُصبح سلوك مُعدي، وظاهرة مُجتمعية عصية على التشويه والانكسار.
الثورة قضية صادقة، وفعل مُستمر، وهي قبل هذا وذاك انسان حر يُضحي دون مَنّ، وجُغرافيا صامدة تختزل الوطن، وكما لكل صمود ضريبة؛ فإن لكل انتصار ثمن، وتبقى 14 أكتوبر 1963م ثورة ردفان الذائعة الصيت، واجهت أعتى احتلال، وانتصرت، وهو انتصار محسوب لكل اليمن، والتاريخ يقول: أصحاب الأرض باقون، والغُزاة دومًا إلى زوال.