عيبان محمد السامعي
الحلقة (3)
المواطن – كتابات
تحدثنا في الحلقة السابقة عن طبيعة النظم السياسية والتقسيم الاداري الذي ساد في الممالك اليمنية القديمة في الفترة من القرن العاشر قبل الميلاد وحتى 525م وهو العام الذي انهارت فيه آخر دولة يمنية (الدولة الحميرية) على يد الغزاة الأحباش.
وقد خلصنا إلى أن نمط التقسيم الإداري للدولة وأسلوب توزيع السلطة في اليمن القديم يشبه إلى حد كبير النظام الفيدرالي المعاصر, من حيث:
أولاً: تقسيم الدولة إلى ثلاثة مستويات إدارية, هي:
المستوى الأدنى: المحافد, وهي تشبه الولايات أو المقاطعات في عالم اليوم.
المستوى الوسيط: المخاليف, وهي تماثل الاقاليم.
المستوى الاتحادي.
ثانياً: من حيث الفصل الواضح بين اختصاصات كل مستوى إداري:
يحكم المستوى الأول (المحفد): الأذواء, ويتولون مهام إدارية وسياسية في الإطار الجغرافي لكل محفد.
ويحكم المستوى الثاني (المخاليف): أقيال, ويناط بهم ممارسة مهام سياسية وإدارية في الإطار الجغرافي للمخاليف.
المستوى الثالث: السلطة الاتحادية ويتربع على عرشها الملك, ويمارس صلاحيات ومهام سيادية فقط.
أما بالنسبة لحلقة اليوم فستتناول التنظيمات الإدارية والسياسية التي سادت في العصر الوسيط والعصر الحديث.
فيدرالية العصر الوسيط وصولاً إلى العصر الحديث:
تشير المصادر التاريخية إلى أنه وبُعيد انتشار الإسلام في ربوع اليمن قُسمّتْ إلى ثلاثة مخاليف, هي: مخلاف الجند وكان مركزه مدينة الجند, ومخلاف صنعاء وكان مركزه مدينة صنعاء, ومخلاف حضرموت وكان مركزه حضرموت.[18]
وقد عيّن الرسول الأعظم (ص) ولاةً على تلك المخاليف, حيث عيّن باذان والياً على مخلاف صنعاء, وزياد بن لبيد البياضي والياً على مخلاف حضرموت, والصحابي الجليل معاذ بن جبل والياً على إقليم الجند بالإضافة إلى تعيينه والياً عاماً على اليمن.
واستمر هذا التقسيم طوال الخلافة الراشدة, قبل أن يتحوّل الحكم إلى ملك وراثي ارستقراطي عضوض بقيام الدولة الأموية, حيث دخلت اليمن في نفق مظلم ونشأت دويلات صغيرة خاضت حروباً بينية لردحٍ طويلٍ من الزمن. ومن أبرز تلك الدول:
الدولة الإباضية (128 – 131هــ) وعاصمتها حضرموت, ودولة بني يعفر (213 – 233 هـ) وعاصمتها صنعاء, ودولة علي بن الفضل الإسماعيلي (270- 303 هــ) وعاصمتها مذيخرة, ودولة بني زياد (204 – 403 هـ) وعاصمتها زبيد, ودولة بني نجاح (403 – 554 هـ) وعاصمتها زبيد, والدولة الصليحية (439 – 569 هــ) وعاصمتيها: صنعاء ثم جبلة, والدولة الرسولية (626 – 858 هـ) وعاصمتها تعز, الدولة الطاهرية (916 – 945 هــ) وعاصمتيها: رادع ثم عدن, والدولة الزيدية (284 هـ – 1962م) وعاصمتيها: صعدة ثم صنعاء.
ظلّت اليمن ـــ غالباً ـــ خارجة عن السيطرة الفعلية للدول الإسلامية المتعاقبة طوال قرون من الزمن, إذ بقيت تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي نظراً لبعدها الجغرافي عن عواصم تلك الدول.
في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي خضعت اليمن للسيطرة العثمانية. ولم يستقر الوضع للعثمانيين طويلاً, فقد قوبلوا بمقاومة عنيدة من اليمنيين اضطرتهم لمغادرة اليمن عام 1635م. ثم عادوا مرة أخرى عام 1872م, وكانت سيطرتهم هذه المرة تقتصر على المحافظات الشمالية, لأن المحافظات الجنوبية كانت قد خضعت للسيطرة البريطانية.
لقد أعاد العثمانيون تقسيم المناطق التي يسيطرون عليها إلى وحدات إدارية تبدأ باللواء, ويحكمه حاكم اللواء سُميّ “متصرفاً”, مثل: لواء صنعاء, ولواء تعز, ولواء عسير, ولواء الحديدة. ثم يندرج ضمن كل لواء عدد من الأقضية, وسميّ حاكم القضاء “قائم مقام”, وبدوره انقسم كل قضاء إلى عدد من النواحي.
وظلت هذه الوحدات الإدارية تتمتع بصلاحيات واسعة, إلى أن أبرم اتفاق “صلح دعان” عام 1911م بين أحمد عزت باشا مندوب السلطان العثماني وبين الإمام يحيى حميد الدين, وبموجبه خرج العثمانيون بصورة نهائية من اليمن.
بعدئذٍ آلت “اليمن الشمالي” إلى أسرة حميد الدين التي حكمتها بالحديد والنار, وبالمركزية الشديدة, وبالسياسة الجبائية التي تنوّعت أشكالها بين “خطاط”, و”تنافيذ”, و”بواقي”, وفرضت عزلة على اليمن, ونشرت الجهل والخرافة في أوساط المجتمع.
استمر هذا الوضع حتى بزوغ فجر ثورة 26 سبتمبر 1962م, لتتخلص اليمن من ظلام الكهنوتية الإمامية, وتؤسس أول جمهورية في منطقة الجزيرة العربية, حملت اسم “الجمهورية العربية اليمنية”.
في “الجنوب اليمني”, وكما ذكرنا, فقد احتلت بريطانيا مدينة عدن عام 1839م. وشرعت السلطة الاحتلالية في عقد اتفاقيات ومعاهدات مع زعماء السلطنات والمشيخيات المحيطة بعدن والتي كانت تعرف بـ: “محميات عدن الشرقية” و”محميات عدن الغربية”. في بداية عام 1962م وهذه الأخيرة اتحدت في إطار كيان أطلق عليه “اتحاد الجنوب العربي” 1962م.
طويّت صفحة الاحتلال البريطاني والكيان الموالي له بتحقيق الاستقلال المجيد في 30 نوفمبر 1967م, ليمثل تدشيناً لبناء الدولة الوطنية التقدمية التي سميت “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” ثم تغيّر الاسم إلى “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.
ما تقدم كان لمحة موجزة عن جذور فكرة الفيدرالية في اليمن وسيرورتها التاريخية. ولم يكن هدفنا من وراء ذلك إضفاء طابع الخلود والأزلية على الفيدرالية؛ بل كان الهدف تفنيد المزاعم التي تقول بأن فكرة الفيدرالية فكرة دخيلة وغريبة عن اليمن.
في الحلقة القادمة سنتناول الفيدرالية في الوقت الراهن وحيثياتها.
الهوامش:
[18] الموسوعة اليمنية, مجلد 4, مؤسسة العفيف ومركز دراسات الوحدة العربية, ط2/2003م, ص2566.
يتبع…