فهمي محمد
المواطن-تحليلات
لست بصدد الحديث عن الشيخان في علوم الحديث ولا عن الانتاج المعرفي المتعلق بقواعد الرواة والسند في القرن الثاني الهجري ، بل بصدد الحديث عن الشيخان في مدينة الثورة تعز وبالتحديد الشيخ الاخواني والشيخ السلفي المتكلمين في القرن الرابع بعد الآلف الهجري .
ما جمع الجهابذة الاولين القول في علوم الدين لاسيما علم الحديث بناء على قواعد عقلية اصوليه تتعلق بالرواة والسند ، وماجمع الاخرين القول في السياسة بناء على إشكالية منهجية تفكر دائماً بذهنية التأصيل الديني مع القبول بلقب الشيخ الجليل زهواً وإقتداً بمنهج السلف .
قبل عام ونصف سألني صديقي العزيز ” ماهر ” عن اسباب استمرار هذهِ الإشكالية المعيقة في عالمنا العربي والمتعلقة بجدل السياسي و الديني وعدم استمرارها عند الآخرين مع وجود دين ومعتقد لديهم ؟
بعد أن حاولت الاجابه عن سؤاله طلب مني ان اكتب في هذا الموضوع ،
لم اتحمس يومها للكتابة ولكن قلت له سيكون ذلك في الوقت المناسب .
استدعاء الدين في معترك السياسة وتحويله الى عنصر في معادلة الصراع على طريقة الشيخان في تعز ليس بجديد وإن كان الجديد مقارعة هذا التفكير بقلم تنويري بيد مناضلة شجاعة بحجم الفت الدبعي .
اسباب الاستدعاء للمقدس في كل المحطات هو صلب الحديث في هذه المقالة وهو يتم اما بدوافع الرغبة في التوظيف السياسي للدين مع سو النية عند صاحبه ، او نتيجة للغباء السياسي مع حسن النية وبالمعنى الذي يعني عدم القدرة الذهنية لصاحبه على ادراك الخيط الدقيق الفاصل بين ماهو سياسي دنيوي مصدرة حاجة الاجتماع البشري وبين ماهو ديني عقدي مصدره سلطة عليا .
لست بصدد الحديث عن الاول المتعلق بالرغبة في توظيف الدين في معترك السياسة بل في صدد الثاني الذي يتحرك غالبا بحسن نيه ويرى في تحركه هذا جهاد مقدس في سبيل الله ودفاعا عن شريعة الاسلام ، لكنه يتحرك في الاساس وفق إشكالية منهجية في التفكير والتحليل لاسيما ان هذه الاشكالية كانت نتيجه لعوامل موضوعية تبرر مثل هذا التفكير الذي يفتقد للفطنة الفكرية لدى الشيخان في فهم ماهو سياسي بحت وماهو ديني بحت ونماذجهم المماثلة كثيره في عالمنا العربي والاسلامي .
العوامل الموضوعية التي تعد أساس بنيوي لمثل هذا اللغط في التفكير تتجلى في ان السياسة والدولة والاسلام كشريعة وجدوا جميعا في المركز الاول للمجتمع الاسلامي والعربي دفعة واحدة وفي زمن واحد ، ولم يعرف احدهما الوجود قبل الآخر بشكل مستقل اوفي زمن فارق يعطي لاحدهما ملامح الاستقلال عن الاخر في التجربة التاريخية للجماعة المسلمة ،
فالمجتمع المكي والمدني اللذان شهد ميلاد الدولة الاسلامية لم يعرفا من قبل مفهوم الدولة كسلطه عليا تملك ادوات القوة والاكراه ولم تمارس السياسية كشأن عام لعدم وجود الاولى في حياتها اصلاً كما انها لا تملك تراثا في هذا المضمار على غرار ما وجد في بلاد اليونان او في اثينا .
ماحدث ان مجي الاسلام حول القبائل المتصارعة الى مجتمع فيه شي من التجانس ثم ان هذه الجماعة بما هي جماعة بشرية أحتاجت كأي جماعة بشرية اخرى الى سلطة عليا تحمي وحدتها وامنها وتنظم امورها ، فكانت الدولة بماهي نظام وممارسة سياسية تلبي في الاساس حاجة بشرية وكان الاسلام كشريعة يلبي حاجة روحية معتقداتيه ، مع ان الاثنين كان يكبران داخل هذه الجماعة الجديدة في وقت واحد ولا تناقض بينهم وبالشكل الذي يصعب فيه على الكثيرين ادراك الخيط الدقيق الذي يفصل الديني عن السياسي ،
الخليفة عمر كان يملك ذهنية مؤهلة لهذا الادراك القادر على الفصل الدقيق لذلك نجده قد اعتمد في بناء دولته على كثيرا من المنحولات السياسية والانظمة الادارية المعمول بها في دولة فارس الكافرة قبل ان يدخلها الاسلام لكونه يدرك كما قلنا ان ذلك يلبي في الاساس حاجة المجتمع البشري بغض النظر عن دينه ومعتقده .
لو ان الرسول محمد بُعث ابتداءً في مجتمع الروم الغني في تجربته التاريخية وفي ممارسته السياسية وبحضور الدولة كسلطه عليا تجسدة في شكل نظام سياسي عام في حياته لكان من السهل على اتباعه الفصل بين السياسي والديني بسهولة كونهم عاشوا في ظل دولة ومارسوا السياسة كحاجة بشرية اجتماعية قبل ان يكونوا مسلمين بمفهوم العقيدة ، وهو ما يعد في اعتقادي من العوامل الكبرى التي ساعدة المجتمع الاوروبي في العصر الحديث على فض حالة الاشتباك القائم بين السياسي والديني كون هذا الاخير يملك ارث تاريخي في معرفة الدولة وفي ممارسة ادوات السياسية في شأنه العام قبل ان يعرف المسيحية كمعتقد ديني .
ما زاد في الطين بله في تجربتنا التاريخة ان الانقلاب المبكر الذي حول السلطة الى مُلك عضوض كان في الاساس انقلاب على السياسة المدنية ، فالحاكم المستبد اغلق بعد ذلك باب السياسية على مستوى التنظير والمعرفة ، اما على مستوى الممارسة المؤثرة في المجال العام اصبحت السياسة فعل مجرم واصبح الصوت المعارض سياسيا يوصف بالباغي دينياً ويخضع لعقوابة الدين ، وفي المقابل نجد الحاكم الذي اغلق هذا الباب فتح باب الاجتهاد الديني على مصرعية وهو ما يعني ان السلطة او الدولة في الاسلام المبكر قامت على خنق السياسة كمفهوم وممارسة تتعلق بالشأن العام مصدرها الاجتماع البشري ، ذلك ما جعل التجربة الاسلامية ومن وقت مبكر خالية من وجود قنوات سياسية مشروعة تجري فيها السياسة بشكل طبيعي وتعبر عن نفسها بشكل مستقل ،
فالسياسة كممارسة ومعرفة تقلصت الى درجة الصفر بينما تضخمت حركة الدين الى ابعد مدى داخل المجتمع الاسلامي وفق تكتيكات الحاكم المستبد ، اما في حالة الضرورة كانت السياسة اذا ارادت ان تعبر عن نفسها وعن صوتها المعارض تحرص ان تقدم نفسها بثوب الدين خوفا من بطش الحاكم وتجنباً لغوغائية العوام ، وهو ما يعني ان السياسة من بعد الانقلاب الاول انفصلت عن مصدرها الطبيعي ووجدة نفسها مضطرة على ان تجعل مصدر وجودها هو الاسلام والعقيده وليس الجماعة البشرية وقد استمر هذا الاختلال قرون من الزمن فكانت النتيجة في احسن احوالنا ممارسة السياسة بدون علم سياسي وبدون تأسيس مجال سياسي عام متحرر من سيطرة الدين والسلطان
هذه المألان المشوهة والراسخة من تجربتنا التاريخة الخاطئة بعد الانقلاب الاول وكذلك الخصوصية في تجربتنا التاريخية والتي تعني تزامن ضهور السياسية والدولة مع ضهور الدين هي التي تجعل اليوم أي محاولة طبيعية لرد الاعتبار لمفهوم السياسة على قاعدة حاجة الاجتماع البشري اومحاولة تأسيس مجال سياسي عام مستقل عن هيمنة الدين والسلطان تصنف تلقائياً وفق تفكير الشيخان واتابعهم وكأنها ضد الدين كما هو الحال مع مخرجات الحوار الوطني والدولة الاتحادية ، لذلك دائما يرفعون شعار الدولة الاسلامية في مجتمع هو في الاساس مسلم ومتدين ويدعون للجهاد في مجتمع لا يوجد فيه مشرك .
المفارقة العجيبة ان هذا النمط من التفكير القائم على إشكالية منهجية يقود معارك كبيرة ومرهقة للمجتمع وللقوى التنويرية لكنه لم ينتصر يوماً للمشروع الذي ينادي به والذي يختصره شعار الدولة الاسلامية بل ينتصر لسلطة الاستبداد ولهيمنة سلطان الفرد والسبب في ذلك ان مشروعه وتحركاته دائما ما تكون ضد طبائع الاشياء لاسيما في عصر التحولات العصرية ، كلما يفعله هذا الصنف من التفكير هو تقديم الدين مطية بين يدى الحاكم لسيهل على هذا الاخير توظيف الدين في معترك السياسية بهدف السيطرة على المجال السياسي العام ، على سبيل المثال وليس الحصر خاض هذا التفكير في اليمن معارك منذ الستينيات لكن السلطة استقرت بيد القبيلة ثم خاض مجدداً معارك ضارية من اول يوم في دولة الوحدة وجاهد في حرب 94 / بضراوة ثم استقرت السلطة بيد صالح وعساكره واليوم بعد ثورة فبراير يحشد اعلاميا ويعد العدة واذا تمكن من اعاقة عملية التحول سوف يحكم المجتمع مستبد فاسد ، وسوف تظل دولة الاسلام شعاراً اويوتوبيا معلقة بالهواء ومحنطة داخل اضغاث احلام الشيخان في تعز .
2018/6/29