تعز – هبة جميل
إذا قررتَ يومًا أن تأخذ جولة صغيرة في مدينةِ تعز، ستتّسعُ عيناك اندهاشًا من النساء العاملات في الصيدليات والبقالات ومحلات صيانة الهاتف المحمول، في مشهدٍ كان من المستحيل أن تراه قبل عشر سنوات، فقد وضعت المرأة اليوم يدها في كثيرمن المهن البسيطة والصعبة، وهي اليد الناعمة نفسها التي قيل إنها لا تصلح سوى للطبخ، أو ربما لا تصلح لشيء أساسا، إلا أنها أخيرًا استطاعت أن تُلغي الاعتقاد السائد بأنها كائن ضعيف، بنصفِ عقلٍ لا يعرفُ أي طريق يسلك من دون معونةِ ورأي الرجل.
وكانتِ العادات والتقاليد من أهم الأسباب التي أطَّرت عمل المرأة وأحاطتهُ بقيود مقفلة، وُضِع مفتاحها بجيب الرجل، مع قلمٍ ليرسم به حدودًا وخطوطًا حمراء، ولم يكن تجاوز تلك الحدود بالأمرِ السهل، لكن أسبابًا كثيرة جعلت هذهِ الخطوط تبهتُ شيئًا فشيئًا، وأسقطت المفتاح من ثقبٍ قبل أن يصدأ في جيبه.
رأى مراقبون أن انخراط المرأة في مهنٍ كانت مقتصرة على الرجال سببهُ الحرب والوضع الاقتصادي السيء للبلاد؛ لأن فرص العمل تقلصت وأصبحت قليلة، فكان لا بد من البحث عن أي فرصةِ عمل متاحة من شأنها مساعدة المرأة على مواصلة العيش هي وأسرتها، ورأى آخرون أن شغف المرأة هو السبب الحقيقي في أننا اليوم نجدها بشكل أكبر في مختلف المهن، فهذا الشغف هو ما دفعها لكسر قيدِ العادات والتقاليد مقابل أن تكون في المكان الذي أرادت وعملت كثيرًا من أجله، بينما رأى قلة أن تقبّل المجتمع واقتناعه بقدرات المرأة شكّلَ لها الدعم الأكبر ووضعها في مقدمةِ هذهِ المهن.
وإلى جانب تلك المهن الكثيرة، نجد نساء يقفن في طوابير طويلة للغاز ويقمن بحمل أسطوانة الغاز التي يزيد وزنها عن 20 كيلو جرام، ويعدن بها إلى منازلهن ليكملن مشوار عملهن داخل المنزل، فيغياب دور الرجل الذي كان يرفضُ عمل المرأة، بينما هي الآن تتحمل ما كان يظنّهُ دوره وما كان يعتقد أنه أكبر من طاقتها الجسدية، الطاقةُ التي حافظت على المنازل اليوم ما زالت متماسكة، ونقشت على جدرانها “مَهاجِل” تعزّية (أغانٍ شعبية) تتغنى بصلابتها وتحدّثُ المارةَ عن بطولات المتعدّدة للمرأة.
وإحدى هذا الجدران تحمل قصة امرأة ملهمة لم تكن تعرف من هذهِ المدينةِ على اتساعها وتعدادها السكاني الكبير سوى منزلها، لكنها وقفت لتتحدث أمام رئيس الوزراء ببساطتها وعفويتها، هذهِ الملهمةُ هي “صباح فرحان” التي عاشت ربّةَ بيت وزوجة،لكن الحرب دفعتها، كما دفعت الجميع، إلى أن تخوض تغييرًا لم يكن بالحسبان، ففقدان زوجها لوظيفته مع الحرب وعدم قدرتهِ على العمل جعل منها سندًا يُتّكأ عليه وحصنًا منيعًا أمام تقلبات الحرب والحياة، فصباحُ نفسها تحدثت أنها لم تكن تتوقع يومًا أن تصبحُ ملهمة تقفُ للتحدث أمام الجميع عن رحلتها الصعبة ومراحل اكتشافها لقوتها، تلك التي جعلت منها ناشطة حقوقية، ورئيسة مبادرة، وامرأة يلجأ إليها أبناء منطقتها عند مواجهتهم أي مشكلة، وهي نموذج يثبتُ أن ما يمثلُ اليوم عقبةً سيصبح حافزًا وقصة نجاح يتداولها الناس من المجالس الصغيرة حتى المؤتمرات، ولن تكون النموذج الأخير ففي داخل كل امرأة “صباح” تُشرق.
ولا أنسى “أمّ علي” ربة البيت الخمسينية وهي تحمل جالونًا فارغًا كل صباح لتملأه من مياه السبيل (مياه خيرية مجانية)، وتضع الجالون بثقلهِ على رأسها عائدة به إلى المنزل، بابتسامة عذبة توحي لك أنها عادت من نزهة. وفي حديث لي معها، أخبرتني عن صعوبةِ حمل هذا الجالون لامرأة بعمرها مع كثير من المشاكل الصحية، لكن ما دفعها لذلك، حسب قولها، هو الاحتياج وشعورها بالمسؤولية، فزوجها متوفٍّ، وليس لديها أبناء ذكور، وفتياتها يعملن منذُ الصباح الباكر.
كفاح هذه المرأة قد يبدو للبعض بسيطًا مع أنه ليس كذلك، وهو يضعنا أمام حقيقة واحدة، وهي أن المنازل والحياة قائمة على عطاء المرأة وعملها وشعورها الدائم بالمسؤولية، فكل مهمة أو عمل كانت حكرًا على الرجل وضعت المرأة اليوم بصمتها عليه بشكل واضح ومبهر.
وحتى اللحظة ما زالت المرأة تثير الدهشة بكل ما تقوم بهِ وبإنجازاتها التي كُتبت بالخط العريض في كل منعطفات هذه المدينة، وكأنها تندّدُ باعتبارها ضعفا وكائنا هشّا قابلا للانكسار عند أول محنة، في حين أن هذه المحن ما وُجِدت إلا لترفعها وتصنع منها شيئًا عظيمًا.
(أنتجت هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية)