عبد الباري طاهر
هكذا عنون الباحث باسم الحاج مقدمة كتاب (محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن).
والكتاب جهد وتدوين ولقاءات متكررة لمجموعة من شباب الحزب الاشتراكي من ضمنهم باسم الحاج لتجربة سلطان زيد الشخصية، وهي تجربة ثرة وغنية وزاهية. وحسناً فعل هؤلاء الشباب؛ لأن تجربة سلطان وحزبه (الاتحاد الشعبي الديمقراطي)، وواجهته العلنية اتحاد الشبيبة الديمقراطي اليمنية هي في قلب التيار الاشتراكي الأكثر نضجاً والتزاماً وعمق رؤية.
في البداية أنا من قراء كتابات وأبحاث باسم؛ فهو باحث عميق ودقيق، وتتسم جملته بالموضوعية وبقدر رفيع من المسئولية. وليسمح لي أن أتناقش معه في مقدمته لكتاب زيد، فتحت عنوان (زيد رمزية لا عنفية) يشير إلى التصاق العمل السياسي اليمني، ودعوات التغيير بالعنف، وهذا لم يكن مقصوراً على التجربة اليمنية بل عربياً وعالمياً باستثناءات محدودة. يحسب لأحمد محمد نعمان في اليمن التخفف من نزعة العنف الملازمة لدعوة التغيير بالدم حين يقتضي الأمر ذلك؛ مثنياً على ريادة النعمان، ومتأسفاً على ما تعرض له من تجريد من الجنسية. وما كتبه باسم واقع لا يخطئه البصر والبصيرة، والسؤال: كيف استطاع النعمان الأب والمفكر الكبير باذيب أن ينجوا من حمى النزوع العنفي الذي كان يغطي سماء المنطقة العربية وأجزاء واسعة من العالم؟
هل يمكن أخي طرح الأسئلة عن التجربة اللبرالية في الحركة الوطنية الأم (رابطة أبناء الجنوب)، والتي خرجت منها كل الاتجاهات القومية واليسارية والإسلامية، وحزب الأحرار و(صحيفة صوت اليمن)؛ صوت الدعوة الإصلاحية، ودعوة التعددية والحرية والديمقراطية التي قمعت وأدينت وجرمت في مصر والعراق والسودان واليمن. وإشارتكم دالة ومهمة، والمأساة أخي العزيز أن دعاة وممارسي العنف في الثورات القومية العربية كانوا ضحايا العنف الأبشع ضراوة، وتجارب التاريخ وعظات الزمان تؤكد أن طاحونة العنف إذا تحركت لا تتوقف، ويكون المنتصر دوماً الأكثر همجية والأكثر توحشاً، وهو الحال الذي نعيشه اليوم في منطقتنا العربية، وبالأخص في اليمن.
الإشارة الذكية لرؤية الأستاذ علي باذيب مهمة، ولكن المنبع والرافد الكبير هو التجربة اللبرالية المجرمة في الثورة العربية.
في مصر جرمت الحركة الوطنية الأم، وأدين النحاس باشا، واعتبر الضباط الأحرار الـ 23 من يوليو بدء التاريخ.
في سوريا ومنتصف خمسينيات القرن الماضي تجري انتخابات حرة وديمقراطية ينجح حزب البعث كأهم ثاني حزب، ويراهن على الانتخابات ويرفض الاشتراك في الانقلاب العسكري ليصبح في ستينيات القرن الماضي حزب الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق والأكثر عداوة للديمقراطية والحريات العامة وحرية الرأي والتعبير والأكثر اغترارا بالعنف.
في انتخابات سوريا ينجح الزعيم الشيوعي خالد بكداش في البرلمان عام 54، ويتلقى تهنئة من المفكر العربي عبد الله باذيب، فيتحول بكداش إلى واحد من أهم العقول الستالينية تحجراً وجموداً.
إشارتكم للمنحي الديمقراطي في الفكر اليساري ولدى الأستاذ علي باذيب والنعمان وجار الله عمر مهم ولكن لا ننسى جذور النشاط الباكر لتيار ديمقراطي واسع وعريض تعرض للقمع والتخوين في عدن المفكر سمير أمين احتفى كثيرا بالربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية منوها إلى كتاب جاك تكسيه الثورة والديمقراطي عند ماركس وانجلز ” لقد أعجب ماركس وانجلز بالديمقراطيات الإنجليزية والأمريكية التي تتميز باللامركزية وغياب البيروقراطية إلى درجة أنهما رأيا فيها الشكل الذي يحمل احتمالات تحقيق الراديكالية السياسية
الإشادة بمسلك ونهج زيد اللاعنفي إنصاف لرمز سياسي وطني نأى بنفسه عن الصراعات الكالحة، ويقيناً، فإن رموز حزبه أيضاً كانت أكثر الاتجاهات اليسارية بعداً عن العنف، وتبنيا للنهج السلمي والقيم المدنية، وقد تميز ابن زيد بالمسلك الحضاري والسمو الإنساني القائم على التسامح واحترام الحق في الحياة رغم تعرضه للعديد من المتاعب والاعتقال والتعذيب والمصادرة؛ وهو ما يؤكد عليه الباحث والقلم الرصين باسم.
ينتقد الحاج مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، وانتشار الأيديولوجيات المبشرة بنهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما وليس لصاموئيل هنتجتون صاحب كتاب (صدام الحضارات)، والكتابان يمتحان من بئر الرأسمالية التي تعتقد أنها ذروة الحضارة البشرية، وآخر ما وصل إليه التاريخ، ويربط عميقاً بين هذه الأيديولوجيات، ووصفات وتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد، وبروز التيارات الأصولية المتفشية كالوباء في العديد من بلدان العالم بما في ذلك أوروبا.
قراءة الحاج لجوهر القيم الإنسانية لسلطان زيد وعمقه المتسامي والمتسامح والبعيد عن الأحقاد والكراهية …
تعرفت عليه منتصف ستينات القرن الماضي بواسطة العزيز عبد الله الصيقل، وفي حمى الصراع مع بعض الرفاق في الاتحاد الشعبي ظلت علاقاتنا طيبة وحسنة وكثيراً ما تعاونا رغم الخلاف، وكنا نتزاور ونلتقي وظل سلطان محل حب واحترام كل الرفاق.
السؤال الأهم الذي طرحه باسم حول التعددية السياسية والحزبية في الجنوب مستثنياً ما كتبه الأديب الكبير والمناضل السياسي علي باذيب صاحب (ممنوع الدخول)، والدعوة الباكرة للجبهة الوطنية وللتعددية، ومبحث المفكر والمناضل الكبير الشهيد جار الله عمر.
أتمنى عليه العودة لأنموذج اتحاد الأدباء ككيان نقابي أدبي وسياسي أيضاً، وافتتاحية مجلة (الحكمة) وكتاب (الوحدة اليمنية) الصادر عن الاتحاد، والمتضمن رؤية الأحزاب الحديثة للوحدة، وما كتبه الشهيد الأديب والصحفي زكي بركات قبل توحيد الفصائل الثلاث في التنظيم السياسي الموحد عام 1975؛ فتحية للعزيز باسم، وللكتاب وقفة أخرى.