كتاب المواطن – روجيه جارودي
وهذا يرجع الى أن الرأسمالية الجديدة قد استنفرت، في محاولة منها للتغلب على ازماتها الاقتصادية، جميع بناها الفوقية السياسية والثقافية.
فلمواجهة (فيض الإنتاج) على سبيل المثال اثناء 1929- 1933 (المقصود بفيض الإنتاج في الواقع نقص استهلاك الجماهير الغفيرة التي ما كانت تملك وسائل الشراء لتصريف الإنتاج) اتبع أسلوب التدمير: فبينما كان 70 مليون عاطل عن العمل يتضورون واولادهم جوعًا نحرت مئات الالاف من الابقار لعدم وجود منافذ لتصريف الحليب، واحرق القمح، واغرق البن في البحر.
ثم أتاح تدخل الدولة إيجاد حل جديد لاحتقان السوق: فبدلًا من تدمير البضائع استعيض بإنتاج كثيف لوسائل التدمير، أي للأسلحة. وهذا الحل ينطوي على مزايا لا مراء فيها: فهذا الإنتاج لا يجازف أولًا، بعكس انتاج السلع الاستهلاكية، بأن يعرض في سوق مكتظة بمشترين معسرين. فالدولة هي وحدها التي تمول وتساعد وتشتري هذا الإنتاج، على حساب المكلفين. وهكذا فان قطاع صناعة الأسلحة قطاع ممتاز يضمن للاحتكارات منافذ تصريف ثابتة. وفضلًا عن ذلك فان توسعة يجعل في الإمكان امتصاص البطالة.
وبذلك تكون جميع الوسائل التي تم استخدامها لتلافي الازمة قد أدت الى تعميقها. وأصبع الاتهام ما عادت توجه إلى السوق الرأسمالية وحدها، وإنما أيضًا إلى الدولة السياسية والثقافة اللتين ارتمتا مباشرة (بعد ان سقط عنهما برقع الحياد الكاذب) بين رحى طاحونة الشيطان.
لقد فرضت مقتضيات النمو نفسها نموذجًا للحضارة. والازمة الراهنة ما عادت محض ازمة اقتصادية، وإنما هي اليوم ازمة ذلك النموذج الحضاري الذي يشمل جميع مظاهر الحياة.
إن هذه الازمة ما عادت تولد، كسابقاتها، من توقف آليات الاقتصاد الرأسمالي، بل من عم هذه الآليات بالذات.
وقد بينت الفاشية الهتلرية إلى أين يفضي منطق مثل هذه الازمة حين تأخذ عواقبها جميعًا كامل مداها: فللإفلات من المأزق الذي يفضي إليه اقتصاد الرأسمالية ومؤسساتها من دون إعادة النظر في الرأسمالية ذاتها، ينبغي استنفار جميع طاقات الدولة والثقافة لوضعها في خدمة النظام الاقتصادي التوسعي اللامحدود.
إن إعادة التنظيم الشاملة هذه تلبية لمقتضيات النمو الاقتصادي للنظام الذي لا يمكنه الاستمرار في العمل ما لم تتدخل الدولة بصوره متعاظمة باطراد لضمان التوسع المتواصل للاحتكارات، هي تعريف النظام التوتاليتاري بالذات. ذلك إن انقاذ الاقتصاد بفضل سياسة التسلح يستوجب سياسة خارجية تقوم على مبدأ الهيمنة ويفترض أيديولوجيا قومية النزعة، بلا عنصرية، كما يفترض التلاعب بالجماهير والتحكم بتوجيهها لترسيخ هذا الدين السياسي في اذهانها، وإلغاء جميع الحريات الديمقراطية على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وقمعًا شرسًا لكل من يرفض الاندماج بالنظام.
وحصيلة ازمة الحضارة الأولى هذه تتيح لنا ان نقيس ضخامتها التاريخية: فأضاحي قبائل الآزتيك التي كانت تستوجب ذبح 10000 أسير في يوم واحد، وتدمير بابل أو قرطاجة، واهرام جنكيز خان أو تيمور لنك المؤلفة من بضعة الوف من الجماجم، لا تعدو أن تكون عملًا يدويًا بالمقارنة مع مجازر الحرب العالمية الثانية وملايين الأموات في افران اوسفيتش وبركنو البشرية.
ولا ريب في أن ازمة الحضارة الراهنة، التي تتطور وفقًا للمنطق نفسه، ستكون أشد اذى ووبالًا بما لا يقاس: فالفاشية الهتلرية مهددة بدورها بان تبدو عملًا يدويًا منذ أن خلق اكتشاف الطاقة الذرية والصواريخ الموجهة والناظمات الآلية والتلفزيون وسائل تدمير مادي وتحكم عقلي لا تصمد للمقارنة معها الوسائل التي كانت معروفة في السنوات العشر السود الممتدة بين 1933 و 1944.
إن النظام الرأسمالي، الذي يمثل اقتصاد الحد الأقصى من الربح غايته، والنمو للنمو قانونه الأول، لقادر على تحقيق تجليات وعلى الظهور بمظهر (الصحيح المعافى) مهما تكن الأهداف المنشودة: فالشيء الأساسي هو أن يسير محرك السيارة على الوجه المرام ، ولا أهمية بعد ذلك لواجهة سير السيارة.
وسوف نمثل لنموذج هذا النظام الذي يختلط فيه التطور الاقتصادي بتطور الانسان، برمز مستوحى من كتاب ميشان عن (كلفة النمو): طاحونة الشيطان.
لقد اعادت الحكومة في (قطر رفيع التطور) العمل بالقانون الذي يتيح للفرد حمل السلاح ، انسجاما مع مبدأ الحرية الفردية.
وصناعة الأسلحة الفردية تشهد اليوم ازدهارًا لا سابق له. فالمنتجون المتزاحمون يتنافسون في التخيل والاعلان للترويج في السوق الحرة لتشكيله لا متناهية من المسدسات والقنابل اليدوية المستدقة الحجم، ضمانًا لحرية اختيار المستهلك.
والسوق لا محدودة عمليًا، ذلك أن الرجل مهما كان مسالمًا، والمرأة مهما كانت متواضعة الجاذبية، ما عادا يبيحان لنفسيهما إذا كان يخيل إليهما انهما عاقلان، المجازفة بالسير في شارع من الشوارع بدون سلاح أو سلاحين ناريين، بعد أن باتت الاعصاب في كل مكان مهتاجه بفعل وتائر العمل، وعرقلة السير في المدن، والتشكيك في اقدس القيم، والاثارة الجنسية أو المالية. ثم إن (المستوى الحياتي) الرفيع للغاية الذي تم ادراكه بفضل تلك الاستثارة الاقتصادية للتوسع يتيح لكل فرد إمكانية شراء عدة أسلحة. لقد ولى إلى غير رجعة زمن الفاقة والبؤس الإنساني!
ولقد ولدت صناعات جديدة تتمتع بدينامية استثنائية: صناعة الصدريات الواقية من الرصاص، والخوذ والجزمات المشبكة معدنيًا، والاقنعة غير النافذة، والمركبات المصفحة، والزجاج الواقي للسيارات، والمصاريع الفولاذية للمنازل. وما طفرة صناعة الحديد إلا مؤشر الصحة الاقتصادية للبلاد، وروح المبادرة لدى ارباب الصناعة، وفضائل المشروع الحر، وبعد نظر الحكام. وفي غمرة هذا الازدهار المتجدد بات (الكساد) من منسيات الأمور.
وبالفعل، إن جميع فروع النشاط القومي ترفد باستمرار بما ينعشها: إنه العصر الذهبي لشركات التأمين وللعيادات الخاصة وللمخابر الصيدلانية التي تلبي باندفاع الطلب المتعاظم على المهدئات. وبذلك بات الاستخدام التام يحكم المضمون، ومجالات العمل للشباب غير المحدودة: فحتى الذين لا يحوزون على أي اختصاص يستطيعون العمل بأجور مناسبة وفي ميادين لا تتطلب مهارة خاصة، كأن يعملوا على سبيل المثال نقالين للجرحى والموتى.
ومناقشة الميزانية، في اطار هذا الاقتصاد القومي المزدهر، تبرز للعيان ان العلم يستفيد من (اسقاطات) التسلح الخاص: فالنفاذ السريع لمصادر الفلزات وجه البحث العلمي نحو اكتشاف مواد اصطناعية للدرع اصلب مقاومة، وهذا ما قاد الى تطور مماثل في صنع القذائف. وكما قال بهذه المناسبة واحد مع المع خطبائنا البرلمانيين، فان حلزون التقدم ينفتح على اللانهائية.
ان الجراحة والطب النفسي تحقق تجليات فذة بشفائها امراضا لم تكن معروفة حتى اليوم : فارتداء الدروع الكتيمة جدد تصوراتنا عن الاستقلاب الغذائي، وحمل الأسلحة أدى الى اكتشافات في مجال القلق النفسي والعدوانية تقلب رأسا على عقب مستقبل علم النفس.
يا له من تجديد للثقافة، ولا سيما للعلوم (الإنسانية)! فعلم النفس الوضعي النزعة ينفتح امامه افق لا حد له لتطبيق مناهجه . وهو يلعب دورا رائدا بتنسيقه بين أبحاث سائر العلوم بصدد ( علم المسدسات ) .
والاحصائيون يحسنون تقنيات التعميم المتوازن ، فيحسبون التاريخ الذي سيصبح فيه حجم الأسلحة ووزنها معادلين حجم الأرض ووزنها بدقة تضارع الدقة التي حدد بها احد مشاهير اسلافهم السنة التي لن يترك فيها النمو الديموغرافي غير متر مربع واحد من الأرض لكل فرد من افراد الجنس البشري .
بيد أن الديموغرافيا الحديثة قد قلبت معطيات المشكلة حين اكتشفت “القانون اللغارتمي” لإبادة الجنس البشري، ذلك القانون الذي يتيح إمكانية التنبؤ باليوم الذي سيطلق فيه آخر انسان على جاره آخر طلقة قاتلة!
من هذا المنظور العلمي يصبح “علم المستقبل” الوضعي النزعة ملك العلوم لتمتعه بنفس الدقة النظرية التي يتمتع بها علم الفيزياء أو علم اللغة، وعلى هذا الصعيد تقوم “شركة راندا” وأضرابها، بحكم ما تملكه من خبرة كبيرة في “نظرية الألعاب الاستراتيجية”، بدور رفيع، دور المستشارين والأنبياء، لدى كبار أرباب صناعة الموت.
وقد اقترح مؤخرًا أحد الباحثين –وهو بلا شك من أعظم عبقريات عصرنا إذا ما صدقنا نبوءاته الطويلة الأمد- أسلوبًا جديدًا للهندسة المعمارية ولتنظيم المدن، وللفن بوجه الإجمال، يتلاءم وحاجات “عصر المسدس”: شوارع محدودبة للحد من نسبة الاصابات بتراشق الرصاص، ومن ثم “ثورة” في عالم الأشكال استنادًا إلى هذا المطلب الأولوي.