كتاب المواطن – روجيه جارودي
الفصل الثاني
تغييرات ينبغي تحقيقها
1- تغيير للبنى: لا رأسمالية ولا بيروقراطية تقنية ستالينية.
إن غياب الغائية الإنسانية في الاقتصاد في المجتمع بوجه عام يتنج عن مبدأ الرأسمالية بالذات.
فمن عصر النهضة إلى مطلع القرن العشرين كانت الظاهرة الغالبة هي توسع الاقتصاد البضاعي.
كان قطع المحاور الكبرى للمواصلات البرية في الأمبراطورية الرومانية على أثر الغزوات البربرية، وهيمنة العرب بعد بضعة قرون على البحر الأبيض المتوسط، قد أرجعا أوروبا إلى اقتصاد مجزأ لا تلعب فيه السوق غير دور ثانوي، محلي، في وحدات العالم الإقطاعي الاقتصادية الضيقة. وما كان لا البشر ولا الأرض ولا المال بخاضعين لقوانين السوق، وكانت المعايير اللااقتصادية، الناجمة عن تسلسل المراتب السياسية والاجتماعية، هي الناظمة لعمل البشر ولملكية الأرض غير القابلة للنقل بطريق التجارة، وكان الاتجار بالمال نادرًا بحكم تحريم القرض بفائدة المنزل منزلة الربا، وما كان يجوز لأحد أن يمارسه إلا إذا كان ممن يحيون خارج المجتمع الإقطاعي، في هامشه أو في مسامه، كاليهود على سبيل المثال.
ومع دحر الأتراك واستتباب الملاحة التجارية في البحر الأبيض المتوسط من جديد، ومع الاكتشافات الكبرى التي أتاحت امكانية نهب ثلاث قارات، تقوضت أركان أرستقراطيات الأرض والدم القديمة والنواهي الدينية، وظهر إلى حيز الوجود غنى جديد وقوة جديدة، خارج نطاق الملكية العقارية والمجتمع الإقطاعي والإكليريكي، وما كانت هذه الثروة والقوة الجديدة تستند إلى الوراثة النبيلة أو الشلل الإكليريكي، وإنما إلى قوة وحيلة رجال الفتح والتجارة.
وأس سادة العالم الجدد الشركات الاستعمارية الأولى التي راحت تركز رؤوس الأموال بمختلف الوسائل، سواء عن طريق إبادة قارات بأسرها كما في اميركا أم عن طريق الإتجار بالرقيق كما في افريقيا أم عن طريق نهب حضارات أكثر تقدمًا من حضارة أوروبا ولكن أقل منها تسليمًا كما في آسيا، وخلقوا بالتالي بين القرن الخامس عشر والقرن العشرين، على صعيد المعمورة بأسرها، بنية جديدة للعلاقات الانسانية: فلأول مرة في التاريخ اتجهت السوق إلى أن تصبح عالمية، فكانت كل عقبة دينية أو أخلاقية أو سياسية تقف في وجه عالمية السوق هذه تزاح، وصار البحث عن الربح المحرك الأوحد للمشاريع. ولم تكن السوق هي الواقعة الجديدة، بل استبداد السوق المطلق: السوق التي لا تأتمر بغير قوانينها الذاتية والتي تتحكم بسائر العلاقات الاجتماعية بلا استثناء. تلكم هي السمة الأساسية للرأسمالية، وذلكم هو ما يميزها عن سائر الأنظمة الاجتماعية التي وجدت في التاريخ, وقد بلغت الرأسمالية أوجها في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وبفضل الاختراعات الكبرى في تقنيات الإنتاج والمواصلات (ولا سيما اختراع الآلة البخارية)، والتقدم الذي تحقق في وسائل الاتصال بدءًا من المطبعة إلى الراديو والتلفزيون، و تكامل نظام الاعتماد والتبادل والمصرف والبورصة، خلق الاقتصاد المبني على السوق، والربح، الاقتصاد الرأسمالي النموذجي، خلق في مدى ثلاثة قرون، المؤسسات القادرة على إدخال كل شيء في إدارة السوق الحرة.
وقبل كل شيء المال، عن طريق إلغاء النواهي الدينية بصدد الربا والقرض بفائدة، ثم الأرض التي سدد عرضها للبيع ضربة قاضية الى الإقطاع، وأخيرًا العمل الإنساني، الإنسان نفسه، لا عن طريق تجارة الرقيق فحسب بل أيضًا عن طريق نظام الأجر الذي حول قوة العمل الى بضاعة خاضعة، شأن كل بضاعة أخرى، لقوانين السوق، يقول لينين: إن الرأسمالية هي نظام اقتصاد السوق وقد أدرك المرحلة التي يصبح فيها العمل بضاعة.
إن المال والأرض والعمل، التي ما عادت تمثل غير وحدات تجارية لا شخصية خاضعة لقوانين العرض والطلب، أصبحت آلات تعمل جنبًا إلى جنب مع غيرها من آلات ذلك الجهاز الكبير الذي تسيره قوانين الغاب وحدها، قوانين الصراع بين المصالح الخاصة، و”الحرية” المتولدة عن السوق هي، في أنقى أشكالها، تسجيل لعلاقات القوة بين شتى ملاك الثروات. فلكل شيء من الآن فصاعدًا سعره، وهذا السعر يتحدد بنتائج ذلك القتال الضاري الأعمى الذي يشنه ضد الجميع.
إن كل شيء قابل لأن يشرى ويباع، وليس ثمة من شيء تعجز رحى طاحونة الشيطان هذه عن التهامه.
بيد أن الرأسمالية ليست محض نظام اقتصادي، فهذا النظام الاقتصادي يستدعي بالضرورة بنية اجتماعية وعلاقات اجتماعية تسلسلية بين سلطة الأقلية المالكة وتبعية أولئك الذين لا يملكون وسائل الانتاج، ويستدعي أيضًا بنية سياسية تعكس، في أشكال شتى، هذه التبعية الاقتصادية والاجتماعية. ويستدعي أخيرًا نموذجًا من الثقافة والحضارة يُقولب فيه البشر بحسب مقتضيات السوق والمزاحمة والربح، ويتلاعب بهم ويتحكم بهم أولئك الدين يسيطرون، إلى جانب الرأسمال، على الغالبية الساحقة من وسائل التعبير (الصحافة، النشر، السينما، الاذاعة والتلفزيون، الإعلان، الخ) .
إن مجتمعًا تسيره قوانين عمياء، قوانين مزاحمة الجميع وربح قلة قليلة، مجتمعًا لا تمثل فيه وظيفة تثمير الأموال وظيفة اجتماعية بل تكون تابعة للمشروع الخاص وحده، إن مجتمعًا كهذا يفلت من كل رقابة واعية على غاياته.
إنه أول مجتمع في التاريخ لا يقوم على أساس أي مشروع حضاري.
ولقد بات من الدارج أن يقال إن مجتمعاتنا “الغربية” قد زال عنها منذ عصر النهضة طابعها المقدس، بيد أن هذا القول على شيوعه بجانب الصواب، فالمجتمع المكتسب صفة القداسة هو المجتمع المؤسس على غاية مطلقة، خارجية، ومتعالية على إرادة الأفراد الذين يتألف منهم, ففي الحواضر الإغريقية، ثم في المجتمع الروماني، كانت الديانة والعبادة العامة تعبران عن هدف المجتمع: احترام النظام الإلهي. ومع أفول الأمبراطورية الرومانية ورثت الكنيسة هذه الوظيفة، وما له دلالته أن يكون لقب الحبر الأعظم، قد انتقل من الامبراطور إلى البابا. وطوال ألف عام ونيف، من عهد الامبراطور قسطنطين إلى عصر النهضة، شيدت مجتمعاتنا الغربية على الاعتقاد بوجود نظام أرادته المشيئة الإلهية وبأن جميع فضائل الحياة الشخصية أو الجماعية تتفرع عن ضرورة التلاؤم مع هذه الخطة الإلهية.
ومنذ عصر النهضة، ومع تطور التجارة ثم الصناعة، نالت جميع مظاهر حياة البشر، الحياة الاقتصادية والسياسية فالفكرية فالأخلاقية، استقلالها الذاتي وانفصلت عن تلك الرؤية للعالم.
إن مثل هذا المجتمع قد تحول إلى مجتمع دنيوي، بمعنى أن الدين صار فيه “قضية خاصة”، ولكن صفته القدسية لم تزل عنه بنتيجة ذلك، لأنه ظل خاضعًا لغاية مطلقة، خارجية ومتعالية على إرادة الأفراد الذين يتألف منهم، بالرغم من أن هذه الغاية لم تعد تتلبس شكلا دينيًا فالنجاح الاقتصادي للمشاريع (الفردية أو الجماعية) أصبح غاية في ذاته.
ولما كان التطور التقني هو شرط “إعادة الانتاج الموسع” للنظام، فإن هذا التطور التقني يصبح بدوره غاية في ذاته، فمنذ القرن السابع عشر، فتح ديكارت الأفق لـ”علم يجعلنا سادة الطبيعة وملاكها”، ومنذ القرن الثامن عشر حلت فكرة “التقدم” محل فكرة “العناية الإلهية” القديمة معيارًا مطلقًا لعمل البشر، التقدم المفهوم على أنه نمو مطرد في الانتاج والاستهلاك والربح والفعالية، ولئن نابت منابه اليوم أسماء أحدث مثل “التنمية” والتطور، فإنها في الحقيقة تشير إلى الواقع نفسه وإلى الأساطير نفسها وتخضع للمعايير ذاتها.
وقد لخص غالبريث في نكتة الطابع الأساسي لمثل هذه الحضارة: إن كل شيء يحدث كما لو أن القديس بطرس، المكلف بإرسال هؤلاء إلى الجنة وأولئك إلى جهنم، يكتفي أن يطرح عليهم هذا السؤال الوحيد: ماذا فعلتم على الأرض حي تزيدوا النتاج القومي الخام؟
وفي مثل هذه المجتمعات تسود غائية مطلقة: النمو للنمو، ولكنها غائية بلا غاية، أو بتعبير أدق: بلا غاية المسائية حقًا، فيحكم المزاحمة بين الأفراد، بين المشاريع، بين الأمم، لم يعد هناك من انسان يتخذ بصدد الغايات، وإنما فقط بصدد الوسائل، وسائل رفع الربح أو النمو إلى أعلى مستوى ممكن.
وهكذا، فإن الغائية المطلقة، الخارجية، المتعالية على إرادات الأفراد، تطل على قيد الوجود، ولكن بدلًا من أن تبدو علنًا وكأنها تسامي قانون إلهي فإنها تتنكر في شكل قانون طبيعي محايث لنفسه.
كيف أمكن الوصول إلى مثل هذا التحلل المجتمعي والانساني؟
بفعل سؤدد السوق الملتهمة في إوالياتها (Inteuniamen) للعمل والأرض والمال.
***
إن الرأسمالية التي تجعل من قوة عمل الانسان بضاعة تؤبد الثنائية، تلك السمة المميزة لكل مجتمع قائم على أساس التعارض بين طبقتين رئيسيتين: طبقة الملاك لوسائل الانتاج (في الماضي مالك العبيد، ثم الإقطاعي المالك للأرض، واليوم الرأسمالي مالك الآلات والمنشآت) وطبقة من لا يملكون فيخضعون بالتالي للأوائل (في شكل وراثي كما كان يخضع الأقنان لمولاهم، أو في شكل بيع لقوة العمل كما يخضع العمال لأرباب عملهم). هذه الثنائية، هذه التبعية من جانب الغالبية الساحقة لأقلية مسيطرة اقتصاديًا ، جلية صارخة، وصراع الطبقات ليس من اختراع الثوريين، يلاحظ أسقف أراس، المونسینيور هويغ: “لا يملك أي عامل ضمانة لمهنته، فمن الممكن أن يطرد بلا عودة ولأي دافع كان، وقبل أن بتم استخدامه يدعى بما يشبه الأمر إلى أن يسرد قصة حياته ويفصح عن معتقداته، ومن الممكن يسرح لدوافع تخص ضميره، يقول بعضهم اليم إنه لم يعد من وجود للطبقات، وإني لألاحظ أن هناك طبقتين على الأقل من الناس الذين يطلبون عملاً قد يفقدونه.
وفي الموجزات الرسمية للاقتصاد السياسي لا نعثر على كلمة “استغلال”، فكأنها مصطلح جدالي لا مصطلح علمي. مع أنه ما من أحد يخطر له أن ينفي أن مالك العبيد كان يستغل عبيده، أي يربح من عملهم أكثر مما تكلفه إعالتهم، وما من أحد يخطر له أن ينفي أن ذلك ينطبق أيضًا على الإقطاعي تجاه أقنانه, أما نفي واقعة استغلال العامل الحديث، فإنه يحول دون فهم عملية تراكم الرأسمال، فالعامل، بخلاف العبد أو القن، ليس ملزمًا بحكم أي نص قانوني بأن يظل مرتبطًا أبد الحياة برب عمل معين، ولكن ثمة ضرورة اقتصادية خالصة، ضرورة تأمين أسباب الحياة، ترغمه على أن يكون له رب عمل يتحكم في وسائل الانتاج وفي توزيع الأجر، وما دام هذا الامتياز قائمًا، فالتبعية محتمة بنفس درجة الحتمية التي تجعل من مالك بئر في الصحراء تتوفر لديه وسائل الدفاع عن هذا الاحتكار سيدًا مطلق التصرف في مسألة الحياة والموت.
إن استغلال العامل الأجير يتلبس اليوم أشكالًا جديدة: فحتى عندما لا يكون العامل مقضيًا عليه بالجوع و بالإنهاك الجسماني كما كانت الحال في القرن التاسع عشر، فإنه يظل يعاني من استلاب مزدوج كمنتج وكمستهلك، واستلابه كمستهلك ينجم عن استلابه كمنتج: فالنظام الذي يبلّده ويفرغه من جوهره بحكم وتيرة العمل ومدته، هو عينه الذي يتلاعب به ويكيفه ليخلق لديه ما هو مربح للرأسمال من حاجات، والاستغلال لا يتمثل في ما يسرق من الشغيل من مال فحسب بل أيضا فيما ينتزع منه من نوعية الحياة، إن العلم والتقنية، منذ عصر النهضة، لم يحررا الانسان.
إن العامل المياوم الزنجي أو المكسيكي في لوس أنجلوس يمتلك سيارة: فعدم توفر وسائط النقل العامة يرغمه على ذلك حتى يستطيع الذهاب إلى موضع عمله, وعليه، فإنه يغل عنقه بالديون لسنوات طويلة (وعمليًا طوال حياته) حتى يقتني سيارته ثم حتى يجددها. وهكذا يضاعف ساعات عمله أو وتيرته ليفوز بعلاوات يسدد بها ديونه. وبذلك يصل إلى تلك الدرجة من البلادة ومن دمار النوعية الإنسانية للحياة التي لا يعود يعرف معها من استجمام غير التناوم أمام جهاز التلفزيون (الميتاع هو الآخر بالدين) ليتفرج على مباراة في لعبة القاعدة (بيسبول) أو على مشاجرة من فيلم عن الجاسوسية أو رجال العصابات، أو تصفح مجلة خلاعية، هذا إذا لم يتعاط المخدرات. إنه “مستوى الحياة الرفيع” في تعريفه الأميركي: أكثر من 4000 دولار للشخص في السنة! إن المصير نفسه ينتظرنا إذا واصلنا القبول بالتهام طاحونة الشيطان لنا!
والإدانة لا تقتصر على مفهوم السوق وحده، بل تتناول أيضًا مفهوم نظام الأجر النابع من الأول، فمنذ الآن (وفي المستقبل أكثر) تتوفر إمكانية تقنية لإنتاج جملة السلع الاستهلاكية الضرورية من قبل عدد صغير من الشغيلة وفي ساعات قليلة من العمل في اليوم، ينوه اللورد باودن بهذا الوضع الجديد انطلاقًا من مثال أغنى الأقطار الرأسمالية: “إن اقتصاد الولايات المتحدة يواجه وضعًا خارقًا للمألوف: فنصف السكان العاملين يكفي لتلبية حاجات سكان البلاد… وهكذا تجد السلطات العامة نفسها ملزمة بتوفير الاستخدام للنصف الآخر”. والحق أن الرأسمالية لا تستطيع أن تبقى على قيد الحياة إلا اذا ضاعفت الاستخدامات اللامجدية أو الضارة (الجيش، الوسطاء، الطفيليين).
ومنذ عام 1964 اشارت لجنة تحقيق أميركية إلى أن ۳۸ مليون أميركي يعيشون في ظل البؤس، وخلصت بعد دراسة آفاق التأليل الشامل إلى هذه النتيجة الحاسمة: “إن الرباط التقليدي بين العمل والدخل يوشك أن ينقطع”.
ويومًا بعد يوم تتجلى بمزيد من الوضع استحالة الإبقاء على نظام تتولى فيه المشاريع توزيع الدخول (دخول أرباب العمل أو الأجراء على حد سواء) بينما لا تتطابق الأجور والأسعار مع تقدم إنتاجية العمل، تتجلى استحالة الإبقاء على نظام تتوقف فيه تلبية حاجات شعب بأسره على المبادرة الخاصة لبعض الجماعات المالية والصناعية.
إن التطور الراهن للعلوم والتقنيات الإنتاجية يقضي أن يكف العمل اليدوي أو الفكري عن أن يكون بضاعة.
***
– إن مبدأ “المشروع الحر” الرأسمالي الذي يجعل من المال بضاعة، أي يمكنه من “الإنجاب بدون عمل”، والذي يعد مسألة توظيف الأموال قضية خاصة (التوظيف في البورصة أو في المضاربة على الأسهم)، تترتب عليه ثلاث نتائج أساسية:
– تركز الثروة والقوة بين أيدي أقلية لا تني تتضاءل.
– سباق أعمى على الربح للربح والنمو النمو.
– سؤدد المال على جميع النشاطات القومية، بحيث تصبح جميع “القيم” الانسانية “قيمًا” اقتصادية وتجارية، “قيمًا” بالمعنى البورصي للكلمة، وبالتالي خاضعة للبيع بالمزاد العلني.
ومن هذه الزاوية فإن استنتاجات مارکس الأساسية في “الرأسمال” ما تزال تحتفظ بكامل قيمتها، وسوف نكتفي بالإشارة إلى عواقبها على حياتنا اليومية وعلى نوعية هذه الحياة.
إن آلية تراكم الرساميل، سواء أبين أيدي المشاريع (في شكل احتياطي وأرباح غير موزعة) أم بين أيدي الأفراد (في شكل ربائح وحصص وفوائد وريوع) تتيح إمكانية تحويل كل ما هو ضروري للحياة، ولا سيما وسائل الانتاج والتبادل، إلى ملكية خاصة، كما تتيح إمكانية حصر احتكار هذه السلطة بعدد متضائل بأفراد من الأشخاص.
هذا المركر ظاهرة عامة في العالم الرأسمالي: ففي انكلترا كان 9٪ من السكان في عام 1960 يملكون ۷۰٪ من الملكية و96% من الأسهم، و1% منهم يملكون ۸۱٪ من الأسهم. وحسب تقرير اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ حول “النضال ضد التروستات” (!) في الولايات المتحدة، فإن ۲۰۰ شركة كانت تحوز في عام 1950 على 49% من مجمل الأسهم، وفي عام ۱۹۵۷ على 57٪، و تتلقى 86% من مجمل الأرباح.
وقد تكهنت صحيفة “الايكونومست” الانكليزية في عددها الصادر في 13 تموز 1968، استنادًا إلى رأي اقتصاديين “ثقات”، بأن ۳۰۰ شركة دولية لا أكثر ستهيمن في غضون عشرين عامًا على الحياة الاقتصادية للعالم الرأسمالي.
وهكذا، فإن عددًا لا يني يتعاظم من الأفراد لن تتاح له إلا إمكانيات اختبار متضائلة باستمرار.
والنتيجة الطبيعية للسباق الأعمى على الربح للربح والنمو للنمو هي: التقنية للتقنية والعلم للعلم.
إن المسلمة المقدسة -والضمنية في آن واحد- لمجتمعنا هي: كل ما هو ممكن تقنيًا مرغوب وضروري، وليس كمثل هذه المسلمة أذية ومضرة اليوم.
فمعايير الفعالية الصالحة للمشاريع قد سحبت بوصفها معايير عليا على المجتمع برمته حين باتت المشاريع تمارس نفوذًا حاسمًا على الدولة.
ولكن إذا كانت عقلانية المشروع تتحدد استنادًا إلى غاية تقنية، فإن عقلانية المجتمع لا يمكن أن تحدد بالطريقة نفسها وإلا تحول المجتمع إلى مجتمع إنتاج للإنتاج واستهلاك للاستهلاك بلا غائية انسانية والمفارقة اليوم صارخة بين عقلانية الانجازات الجزئية وبين لا عقلانية المجتمع ككل.
ومشكلات حكم أمة من الأمم لا يمكن أن تعالج بالطرق التي تصلح لتسيير مشروع من المشاريع، وإذا ما شبهت الأمة بمشروع، فما النتاج الذي تقع عليها مهمة صنعه؟ البشر، أي بالتحديد نقيض النتاج.
إن البحث العلمي، الذي هو من الآن فصاعدًا الشرط الأول للغنى والقوة، قد أصبح هو الآخر غاية في ذاته، بصرف النظر عن عواقبه على مستقبل الانسان. ولا يحدد التطور اليوم بأنه تطور الانسان، بل بأنه التطور العلمي والتقني الذي غدا الانسان وسيلته لا غايته.
وهوذا مثال بليغ الدلالة على هذه اللاأنسنة: فالأمم تصنف اليوم تبعًا لـ”الدخل القومي الخام لكل فرد من السكان” دونما اعتبار لتوزيعه واستنادًا إلى معدل وسطي أمي يجمع بين دخل شخص کروکفلر وبین دخل عامل تنظيفات من زنوج هارلم، بين دخل أمير من أمراء البترول وين دخل عمال شحن وتفريغ ناقلات البترول، ومن هنا فإن بعض الاقتصاديين من أمثال غالبريث في الولايات المتحدة وميشان في انكلترا بدأوا يشككون في مبدأ المعالجة الاقتصادية الخالصة للاقتصاد واستعمال المعايير الاقتصادية الصرفة: معايير النمو للنمو.
ولقد كان جوليو كوري ثم اوبنهايمر أول من عاش هذا القلق حين طرحا مشكلة صنع القنبلة الذرية بمصطلحات هي غير المصطلحات التقنية الصرفة، فالعلم لا يمكن أن يكون غاية مطلقة: فهو يعطينا كل ما نرغب فيه ولكنه لا يستطيع أن يحدد لنا ما ينبغي أن نرغب فيه، يقول آنشتاين: “في الماضي كانت الأهداف كاملة ولكن كانت الوسائل ناقصة، والوسائل اليوم كاملة والإمكانيات كبيرة، لكن الأهداف مبهمة”، و إنها لعلامة من علامات العصر أن يقوم العاملون في واحد من أكبر مراكز “المادة الرمادية” في الولايات المتحدة، معهد ماشوستس التكنولوجي، بإضراب له هذه الغاية الجديدة: التساؤل حول معنى البحث العلمي الراهن وهدفه.