تحليلات – منصور هايل
في 14 فبراير 2018 عين الامين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرس البريطاني مارتن جريفيت مبعوثا خاصا له الى اليمن خلفالإسماعيل ولد الشيخ احمد, وقبل ذلك كان غريفيت قد شغل العديد من المناصب في السلك الدبلوماسي البريطاني,ومنظمات انسانية دولية علاوة على مساهمته في تأسيس شركة” انتر ميديات” الخيرية في لندن التي تعمل على حل النزاعات والوساطات ولا زالت تحفظ لغريفيت موقعه ككبير المستشارين فيها.
مع مباشرته لمهمته نشطت الدبلوماسية البريطانية في إتجاه الإستحواذ على الملف اليمني انطلاقا من تسوية قضية ميناء الحديدة عبر اتفاق ستوكهلم في 13 ديسمبر 2018 الذي ترتبت عنه انسحابات شكلية سلم بها مقاتلوا المليشيا الحوثية ميناء الحديدة من يدهم اليمنى الى يدهم اليسرى المتمثلة بقوات خفر السواحل المولية لهم.
قبل ان يباشر مهمته في اليمن كان القرار 2216 الصادر عن مجلس الأمن في 14 ابريل 2015 من المرجعيات الرئيسة التي تتمسك بها الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا, وكانت الدبلوماسيه هي صاغت بنوده وعملت على تمريره بالتنسيق مع واشنطن في مجلس الأمن الدولي, ولكن غريفيت انقلب عليه في مستهل مشواره واعاد المفاوضات الى ننقطة الصفر بالقفز على جهود المبعوثين الأممين السابقين بنعمر وولد الشيخ,بإطلاقه لحوار جديد دون ضمانات او ضوابط ولمبادرة تساوي بين “طرفي الأزمة” وليس بين حكومة شرعية ومليشيا انقلابية مسيطرة على السلطة في العاصمة بقوة السلاح وقد جاء القرار 2216 ليشدد على ضرورة خروجها من المدن وتجريدها من السلاح.
ومن الوهلة الأولى لحقبة غريفيث أصبح لافتًا أن التركيز الدولي انصب على الأزمة الانسانية في اليمن, وهي أزمة مريعة من غير شك، ولكن ذلك التركيز صار ينحو بأتجاه نفي الطابع السياسي للأزمة اليمنية التي بدا انه يراد لها أن تكون منسية أو هامشية، ووفقا لهذا المنظور فالبلاد بحاجة إلى سلال غذائية تتكرم بها هيئات الإغاثة من نادي الأثرياء في دول الخليج, وهيئات الإغاثة في بريطانيا والعالم, وعلى نحو بدت معه اليمن مرشحة لأن تكون صومال الألفية الثالثة , وليس بخاف أمر الصومال حين ادار لها المجتمع الدولي ظهره إلى أن تمزقت إلى اوصال واختزلها إلى مجرد “كارثة انسانية”.
إن نزع الطابع السياسي للأزمة التي اندلعت بقوة على إثر الإنقلاب الحوثي المدعوم إيرانيًا في سبتمبر 2014 ينطوي على اعفاء المليشيا الحوثية من المسؤولية تجاه انهيار الدولة وانحلالها, والمسؤولية الأكبرعن الإنزلاق الى المجاعة ثم الإستثمار في “أكبر واسوأ أزمة انسانية” -حسب وصف الأمم المتحدةـ وفي ذلك تبرير وتغطية لإفلات المجرمين من العقاب.
ويصر المبعوث البريطاني على المضي في هذا الإتجاه مدعومًا من دبلوماسية وحكومة وبرلمان وصحافة بلاده على نحو بدت معه “بريطانيا العظمى” تتحرك بروح “القبيلة”.
وقد هاجت وماجت لندن عندما اعلن وزير الخارجية الأمريكي السابق في 10 يناير الماضي عن قرار ادارته بتصنيف مليشيات الحوثي , منظمة ارهابية.
في اليوم التالي للإعلان الأمريكي نشرت صحيفة ” الفاينيشال تايمز” تقريرا مطولا لمحررها في لندن اندرو انغلاند حذر فيه من خطر الخطوة الامريكية بتصنيف جماعة الحوثي اليمنية كجماعة ارهابية على الوضع الإنساني.
التقرير في مجمله استند إلى معلومات وتصريحات البريطاني مارك لوكوك وكيل الأمين العام للشؤون الانسانية الذي سبق وأن شغل منصب الامين الدائم للتنمية الدولية البريطانية الى عام 2011وتولى فيما بعد قيادة الأجهزة الإغاثية التي تنظمها الأمم المتحدة.
وقد نقل انغلاند عن ابن بلده لوكوك قوله إن اليمن الفقير سيكون امام مجاعة مدمرة في حال مضت إدارة ترامب في وضع جماعة الحوثي على قائمة الإرهاب , مشيرًا إلى أن البلد الذي يعيش حربًا متعددة الوجوه منذ ستة اعوام يواجه اسوأ مجاعة منذ عقود.
وأضاف لوكوك: سيكون هناك اثر كبير على التصنيف “الإرهابي” بشكل يضعف واردات الطعام وقد تكون القشة الأخيرة التي تجرف البلد الفقير الى مجاعة كبيرة, وليست صغيرة.
وأضاف: السؤال هو إن كانت المجاعة ستكون كبيرة, أم ضخمة وعلى قاعدة لم يشهد العالم مثلها منذ المجاعة الأثيوبة التي مات فيها اكثر من مليون شخص في ثمانينات القرن الماضي.
وقال انغلاند إن التجار اليمنيين قلقون من تداعيات التحرك ضد الحوثيين على اعمالهم.
وأورد ان الأمم المتحدة تقدم مساعدات لـ13 مليون نسمة أي نصف السكان ممن يواجهون خطر المجاعة , وان هناك 4 ملايين نسمة لم يعودوا يحصلون على الطعام الكافي وهم على طريق الجوع, كما يقول لوكوك.
وفي سياق هذا التحرك المتسارع والممنهج اندرجت احاطة المواطن البريطاني الثالث مارتن غريفيت في مجلس الأمن حيث عبر عن قلقه البالغ من اثار القرار الأمريكي وأكد في احاطته التي قدمها للمجلس في 14 يناير تأييده لوكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية لوكوك الذي دعا إلى العدول عن القرار.
وفي الأثناء كان غريفيت يغرد عبر حسابه في تويتر: نخشى ان هذا القرار سيؤدي لتثبيط الجهود المبذولة لجميع الأطراف.
في وقت سابق علق بومبيو على الخطوة الأمريكية المتأخرة ضد الحوثيين: التصنيف يهدف لمحاسبة الحوثيين على اعمالهم الارهابية , بما فيها الهجمات العابرة للحدود والتي تهدد السكان المدنيين , وبمعنى افصح تهدد السعودية وناقلات النفط دونما اعتبار لما تشكله من خطر ارهابي ووجودي على اليمن واليمنيين قبل ان تصبح تهديدا للسعودي وناقلات النفط بموجب برمجة وتوجيه ملالي طهران.
وفي السياق , أيضًا, كرست صحيفة “الجارديان” العديد من تقاريرهاحول الأثر التدميري الذي يمكن ان يترتب على القرار الأمريكي,وتحركت عشرات الشخصيات البرلمانية والحقوقية والمنظمات”الإغاثية” البريطانية وراء المبادرة التي اطلقها زعيم حزب العمال البريطاني السابق جيرمي لوقف الحرب في اليمن واعلانه يوم 25 يناير “اليوم العالمي من أجل اليمن” وشهدت لندن وغيرها من العواصم التي لم يرف لها جفن تجاه صور ضحايا مجازر الحوثيين وآخرهم من قامت المليشيات بذبحهم وتعليقهم على الاشجار… نعم شهدت لندن وبعض العواصم فعاليات احتجاجية مناهضة للحرب على ـ ماتقوله المليشيات الحوثيةـ وللسعودية التي طالما كانت ولا زالت ضالة الإبتزاز المفضلة للدوائر البريطانية والغربية عموما , وصرح براين وغيرة من المنظمين ليوم اليمن بأن الفكرة من تلك الفعاليات هي ان تكون حدثا عالميا للضغط على الرئيس الأمريكي الجديد لوقف الحرب في اليمن ولم يفصح ان الفكرة تتضمن, ايضا, الدعوة الى الغاء قرارات وعقوبات ادارة الرئيس السابق بحق المليشيات الإجرامية.
إنهم , وبالمفتوح والمفضوح يريدون للحرب ان تستمر وللمليشيات ان تزدهر ولـ”الإغاثة” ان تكون مستدامة.
منذ مطلع فبراير الحالي تولت ممثلة بريطانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة السفيرة باربرا ودوارد الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي رسميًا، وفي المؤتمر الصحفي الذي عقدته في 2 فبراير لاطلاع الصحافة على برنامج المجلس للشهر الحالي، أكدت ان النزاع في اليمن سوف يندرج ضمن برنامج عمل المجلس، ومن المرتقب أن يدلي غريفيت بأحاطة ليسجل الرقم القياسي في الإحاطات, فهو لا يعرف الكلل ويقضي جل أيامه في طائرة الأمم المتحدة متنقلًا من بلد إلى آخر ليسوق لـ”الإعلان المشترك” ويتحدث عن “اسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم” وهي كارثة ما كان لها ان تتفاقم لولا استثمار المليشيات الحوثية والأممية فيها.
في حقبة غريفيت كانت الفضيحة الدبلوماسية المدوية التي تمثلت بنقل “السفير” القيادي في الحرس الثوري الإيراني حسن ايرلو على طائرة الأمم المتحدة مع الجرحى الحوثيين العائدين الى صنعاء، وفي طائرة تابعة للأمم المتحدة جرى ترحيل البهائيين اليمنيين إلى المنافي بعد تجريدهم من جنسيتهم ومصادرة املاكهم، وكذلك كان الحال مع اليهود اليمنيين وبرعاية اممية وقد حسبت هذه الإقتلاعات الميكروـفاشية لبعض اليمنيين من بلادهم كـ”إنجازات” لغريفيت والأمم المتحدة.
ولئن كانت المليشيات الحوثية في حقبة جمال بنعمر قد تمكنت من الزحف على صنعاء وطرد الحكومة الشرعية وهو يداورها ويحاورها وينسج لها مظلة “اتفاق السلم والشراكة” فقد اضحت في حقبة “الاعلان المشترك” لغريفيت لا تتمتع بإمكانية الإفلات من العقاب فحسب، وانما تحصد مليارات الريالات والدولارات وتتملك اهم العقارات وتتحكم بسوق المشتقات النفطية والصرافة وو….برعاية ومشاركة اممييتين.
وفي غضون هذه الحقبة المظلمة تشظت البلاد إلى كانتونات ودويلات خاضعة لحكم المليشيات التابعة للدول المتصارعة في الاقليم، وأصبح جليًا أن الدبلوماسية الدولية لا تريد لليمن أن يعود دولة واحدة ولا حتى ان يعود إلى دولتين بقدر ماتتجه، أولًا، نحو المزيد من تصفيده في مربع “الكارثة الإنسانية” ثم تعليقه على مشجب الانتظار المهلك لرسم حدود المناطق والدويلات و”إمارات الأمر الواقع” البديلة لشيئ اسمه اليمن بالدم.
“فساد اممي”.. مشاركة الأمم المتحدة
في صنع اكبر مأساة انسانية في اليمن
أصبحت المساعدات التي تقدمها المنظمات التابعة للأمم المتحدة مصدرًا لإثراء وقوة المليشيات، ومن أهم مصادر تمويل الحرب، علاوة على إنها من اسباب الشقاق والتناحر بين الحوثيين الصعداويين والصنعانيين… ذلك ما تتحدث عنه التقارير الدولية واالتحقيقات الإستقصائية التي صدرت مطلع هذا العام.
في تحقيق استقصائي انجزه الزميل علي سالم بدعم من مؤسسة كانديد, تبين ان برنامج الغذاء العالمي -في نطاق اشراف لوكوك- يتعامل مع يمنيين يمتلكون شركات اوفشور”تستخدم للتهريب الضريبي وغسل الأموال” وقد كشفت عنهم ووردت اسماؤهم في مابات يعرف بـ”أوراق بنما” .
أوضح التحقيق إن برنامج الغذاء يشتري سلعًا وخدمات من موردين يشتبه بوجود صلة لهم باطراف الصراع، ويمارس الخرق لمبادئ العمل الانساني ويقدم اغذية متدنية الجودة أو منتهية الصلاحية.
وأظهر التحقيق، عبر استعراضه لنماذج، أن برنامج الغذاء أشبه بتاجر دولي أكثر من كونه منظمة انسانية تعني بمكافحة الجوع وانقاذ الأرواح.
وكشف أن معظم تحويلات اليونسيف النقدية تذهب لكيانات مليشياوية، وفي عامي 2017 و2018 بلغ ماقدمته اليونسيف 178 مليون دولار ذهب معظمه لكيانات تابعة للحوثيين.
وبعودته إلى خبراء اقتصاديين، أكد التحقيق انه “كان يمكن للأمم المتحدة أن تساهم في انقاذ الاقتصاد اليمني من الإنهيار من خلال ايداع مبالغ أموال المساعدات في البنك المركزي اليمني إلا أن المنظمة حذت حذو دول التحالف العربي التي بقيت تنقل المال إلى الجماعات المولية لها جوا ما حرم البنك المركزي فرصة المحافظة على الريال اليمني.
وتحدث عن “اذعان الامم المتحدة لسلسلة من المطالب وتوجيه مبالغ طائلة من الاموال إلى وزارات فاسدة”، وعلى نحو متطابق أكد تقرير لجنة الخبراء التابعة لمجلس الأمن الصادر قبل ايام إن لجان الإغاثة تتعرض لحالات التهديد والإبتزاز والتخويف والإحتجاز.
وتجمع التقارير على إن المساعدات تتعرض للنهب والسرقات، وان معظم المساعدات لا تصل الى الأشد احتياجًا, وان الحوثيين يفرضون على المنظمات توظيف اتباعهم في كل مفاصلها وفي كافة مناطق سيطرتهم للترزق والتجسس واقتناص الثروة، وتجمع على غرق المنظمات الأممية في المحسوبية والفساد على حساب المجتمع الدولي، منوهة إلى ان قيادة الجماعة الحوثية قامت بتشكيل جمعيات خيرية وإغاثية صارت المنظمات الأممية تتعامل معها وتدعمها بالملايين، كما قامت بتشكيل مجلس أعلى للشؤون الانسانية تذهب إليه أموال طائلة من قبل المنظمات الأممية التي لم تبذل أي جهد بل تشأ التوجه، أصلًا، إلى ابتكار طرق بديلة وذكية ونزيهة لإيصال المساعدات لمستحقيها.
وفيما خص فساد برنامج الغذاء فقد تم الكشف عن شحنات من القمح المدعم “سوبر سيريال” تحتوي على مادة سامة.
أما عن فساد السياسات والأداء فقد اتضح انه فيما تشدد سياسات الأمم المتحدة على مكافحة التدليس والفساد فقد تكشف ان مسؤولين وموظفين امميين شاركوا في صنع أكبر كارثة انسانية في اليمن, فبدلا من أن تعمل المنظمة الاممية على الحد من الأزمة الانسانية تسترت على اسبابها الحقيقية وساهمت في تفاقمها.
وتكشفت عمليات “بيع الاموال المخصصة للمشاريع الانسانية في السوق السوداء بهدف التكسب الشخصي من فارق سعر الدولار في مقابل الريال اليمني من دون تقييد ذلك في سجلاتها” ـ حسب التحقيق الإستقصائي.
ويفيد التحقيق بأن بيانات الأمم المتحدة عن الوضع الانساني متضاربة وغير دقيقة , وهي تمنع موظفيها من الحديث إلى وسائل الاعلام، وتقوم بتمويل منظمات وجمعيات خيرية تشكلت بتوجيه من زعيم الجماعة الحوثية، مشيرًا إلى ان هناك اكثر من 10 جمعيات حصلت على تمويل ضمن برنامج الاستجابة لليمن رغم تبعيتها لكيانات مذهبية منخرطة في الصراع.
وفيما تأكد بأن المنظمات الاممية تقدم روايات غير منطقية وتقوم برشوة النافذين في مناطق سيطرة الحوثيين والحكومة على حد سواء فقد اتضح بأن سرقة المساعدات وعدم وصولها إلى الأكثر احتياجًا لا يرجع فقط إلى وجود جماعات مسلحة كالحوثيين وغيرهم, بل يرتبط باختلالات مزمنة تعانيها معظم وكالات الأمم المتحدة العاملة في اليمن منذ ماقبل اندلاع القتال حيث تعتمد المنظمات الأممية على قاعدة بيانات مغشوشة، وعلى قوائم مرتكزة على معايير الولاء الطائفي والجهوي وتتواطؤ مع تسييس الاحصاءات والإغاثة وتشارك في صرف اعانات ومساعدات بناء على قوائم باسماء وهمية مع علمها بأن جل تلك الأموال تذهب الى جيوب المليشيات.
والحاصل ان مليارات الدولارات التي صرفت تحت بند مساعدة اليمنيين ومنها 10 مليار دولار ضمن خطة الاستجابة الانسانية ذهب معظمها في تمويل الحرب وتسمين الموظفين الأممين وتسميك حزام المجاعة التي يراد لها ان تكون مؤبدة خدمة للمقاولين الامميين الذين وجدو في المحنة اليمنية مشوعا استثماريا اذ لايكتفي هؤلاء بالمرتبات والمخصصات المالية الخيالية التي تصرف لهم ـ يجري الحديث عن 17 مليون و600 الف دولار تصرف للفريق التابع لغريفيت في الحديده كل ثلاثة اشهر وقوامة 75 شخص فقط ـبل يشاركون المليشيات في الفساد والخراب وسفك دماء وكرامة اليمنيين.
من هنا لا غرابة أن يكون العويل عاليًا كلما تعرضت المليشيات لعقوبات أو جرى التلويح بعقوبات امريكية أو دولية تهدف إلى تضييق الخناق عليها.