كتاب المواطن – روجيه جارودي
أما المأخذ الرئيسي الثالث فهو أن التعليم يتحاشى مشكلة الغايات.
وقد أظهرت الشبيبة على نحو ساطع في عام 1986 أنها لا ترضى بالاندماج بأنظمة تعترض على غاياتها وقيمتها ومعناها.
فحين ترفض الشبيبة أن تعد العدة للحرب، وأن تعمم التلوث، وأن تخدم بلا شروط النمو للنمو والتلاعب بالمستهلك، فإن رفضها هذا ليس رفضًا “روسوبيا” للتقنية، ولكنه رفض لربط الحياة بالتقنية بدلًا من ربط التقنية بالحياة.
إن هذه الشبيبة بطرحها العنيف للسؤال: لماذا؟ تطرح مشكلة أساسية: مشكلة الانتقال من التلاعب والتحكم إلى تقرير المصير الذاتي.
***
إن رسم إشارة الاستفهام حول المدرسة نتيجة منطقية لرسم إشارة الاستفهام حول مضمون العلم: فإذا كان هذا العلم ضروريًا للحفاظ على الوضع القائم فما الوظيفة الاجتماعية للمؤسسة التي تعمل على نشره؟
إن الشاغل الأول لهذه المؤسسة هو حصر كل فرد في اختصاصه، وحمله على المساهمة بأقصى طاقته في المهمة الأساسية، مهمة زيادة الانتاج والانتاجية، و”الثقافة العامة” التي أطلق عليها بالتوالي اسم “الدين”، ثم تعليم “الانسانيات” وأحيانًا اسم “العلوم الانسانية” باتت تلبي حاجة قمعية لا حاجة إنتاجية.
ومثل هذا التصور عن الثقافة يفسح المجال واسعًا لتأييد نظام فئوي مغلق وإخفاء حقيقته.
وللشبيبة مبررها إذا ما شعرت بالانجذاب نحو “ثورة ثقافية” صينية نضع في قفص الاتهام سلطة المتأدب المتنفذ (Mandarin) الذي يمثل منذ ألفي عام المثقف ومالك الأرض والموظف الأمبراطوري في آن واحد، وإدراك الرابط بين التقاليد الثقافية وبين المحافظة الاجتماعية هو القاسم المشترك بين شبيبة العالم بأسره.
***
إن رسم علامة الاستفهام حول بنى المدرسة هو بدوره نتيجة محتمة لرسم تلك العلامة حول مضمون العلم والدور الاجتماعي الذي يلعبه.
ويتجلى المظهر الخارجي للمشكلة في أن المؤسسة المدرسية غير متكيفة مع المتطلبات الراهنة، فلقد كانت الوظيفة الوحيدة للجامعة منذ طويل الآماد صنع الجامعيين، والغيتو الجامعي ينفتح بمنتهى البطء على الوقائع حيث أن ۸۰% من الطلاب في القطاعات الأدبية لن يمارسوا أبدًا الهام التي يفترض أنه قد تم إعدادهم لها.
إن انعدام “مجالات التصريف” هذا قد لعب دورًا هامًا في صعود حركات التمرد مع أنه ليس أسوأ مظاهر المؤسسة.
إن بنية التعليم تنطوي على نفس الطابع الشمالي الذي تنطوي عليه سائر مظاهر المجتمع القمعي، وترتبط بصلة قربى بالتعبير الأصفى عن ثنائية الحكام والمحكومين: البيروقراطية.
وأوضح مظاهر تلك البنية وأدعاها إلى الرفض من جانب الشبيبة صلة القربي بين النظام المدرسي والجامعي وبين نظام طقوس التلقين والتأطير، والغرض واحد دومًا: دمج الشبيبة بالمجتمع، والطائفية الكهنوتية ثم المتأدبة تلعب دورًا مماثلًا: فهمتها، هي المؤتمنة على التقاليد والعلم، أن تنصب الحواجز وأن تقوم بالفرز والانتقاء، وتقنية طقوس التلقين والتأطير تتشابه إلى حد يبعث على القلق مع تقنية الجمعيات المقدسة، يقول مارکس: “ما الامتحان إلا المعمودية البيروقراطية للعلم، والاعتراف الرسمي بتحول العلم الدنيوي إلى علم قدسي”.
وعن المظهر الطقسي بتولد الطايع الاستبدادي للنظام.
ومطالب الطلبة الجامعية والثانويين في هذا المجال متماثلة في جميع أقطار العالم: أن يعتبروا ذاتًا للتربية لا موضوعًا لها، أن يحل الحوار مع المسؤولين محل الدروس التي تلقى من أعلى المنصة، أن يحاكموا لا تبعًا النظام من قيم خارجية وبعيدة عن اهتماماتهم وحاجاتهم بل تبعًا لمقدرتهم على الإبداع والخلق، أن يستعاض عن “شرح النصوص” و”الانشاء” المصطنع بعمل شخصي يشارك الفنان في فعله الخلاق.
وهنا نصل الى المشكلة المركزية: نقد المدرسة المتموضعة خارج الحياة الواقعية، الغريبة عن المشكلات الشخصية، الخارجية عن الجسد وحاجاته وعن الإبداع والخلق، والنافية للبحث المشبوب العاطفة عن الغايات.
هذه الإدانة للطابع الثنائي للمدرسة بوصفها مؤسسة منفصلة عن الحياة تفضي بالضرورة إلى نقد سياسي.
***
اول ملاحظة تفرض نفسها هنا أن الشبيبة، في غالبيتها، تقف خارج الأحزاب السياسية، بل بصورة أعم، خارج كل تنظيم مبني على المبدأ الثنائي، مبدأ تفويض السلطة، أي استلاب السلطة بين يدي “نائب” في البرلمان أو “ممثل” في الحزب أو في النقابة أو في الكنيسة.
ولا مراء في أن الحزب الشيوعي هو أكبر المنظمات تعدادًا وأمتنها تنظيمًا في فرنسا، ومع ذلك فإن حركة الشبيبة الشيوعية، تبعًا للتقديرات الأكثر تفاؤلًا، لا تصل إلى خمسين ألف منتسب، أما منظمة شبيبة الحزب الحاكم، “الاتحاد الديموقراطي الجمهوري” فبعيدة غاية البعد عن هذا الرقم، ولا تضم جملة المنظمات السياسية السارية واليسارية المتطرفة أكثر من خمسة وعشرين ألف مناضل، ويقل تعداد المنتسبين إلى المنظمات اليمينية عن هذا الرقم، وبالإجمال يبلغ عدد الشبان المنظمين سياسيًا في فرنسا ما دون المئة ألف من أصل خمسة ملايين، أي أقل من ۲٪، وفي النقابات تتم “الاضرابات الوحشية” خارج نطاق رقابة المنظمة في غالب الأحيان، على أيدي الشباب.
ولا يضم “الاتحاد الوطني للطلبة الفرنسيين” (بجناحيه) عشرين ألف عضو من أصل سبعمئة ألف طالب جامعي، أما المنظمات المنافسة واليمينية فهي أشد إفقارًا أيضًا.
ولئن كانت منظمات الشبيبة الكاثوليكية هي الأقوى حتى الأمس القريب، فإنها تذوب اليوم كما يذوب الثلج تحت الشمس وتنقسم على نفسها أو تعارض هرمية التسلل.
هل هذا معناه أن الشبيبة تنصرف عن السياسة؟ كلا، إنما هي تنصرف عن تصور معين للسياسة الي يراد، عن طريق نوع من التفويض الضمني، أن تمارس باسم الشاب ولكن بدونه، إنها تنصرف عن تصور وعن ممارسة “ثنائيين” للسياسة تزعم على أساسهما جماعة من القادة، إنها تفكر وتقرر بالنيابة عن الجماهير وتحمل اليها الوعي “من الخارج”.
وبالمقابل فإن حركة الشبيبة، ولا سيما في الجامعات، تطل دومًا، في جميع أرجاء العالم، على نضال سياسي، ففي أميركا اللاتينية، ومنذ بيان قرطبة في عام ۱۹۱۸ بوم طالب الطلاب الأرجنتينيون لأول مرة بالاستقلال الذاتي لجامعتهم وبحقهم في تسييرها، امتدت حركة مقاطعة التصور الأبوي والمستبد خلال الأعوام العشرة الأخيرة إلى الأقطار الرئيسية في القارة واكتسبت طابعًا سياسيًا، فاستنادًا إلى الحريات الجامعية الأولى التي تم انتزاعها ثار الطلاب البوليفيون في عام 1964، واحتلوا جامعة لاباز شاهرين السلاح، وحين تنظمت حرب الأنصار في فينيزويلا في عام ۱۹۹۲ لعبت جامعة كاراکاس دور المركز الرئيسي لتجنيد المتطوعين، وفي كوبا شكلت “الإدارة الطلابية الثورية”، يوم التحرير، جزءًا من کارتل المنظمات الثورية مع الحزب الشيوعي وحركة ۲۹ تموز التي تزعمها فيدل کاسترو.
وفي اليابان تظاهرت الحركة الطلابية في عام 1960 احتجاجاً على تجديد المعاهدة مع الولايات المتحدة، فاضطرت الحكومة إلى أن تطلب من ایزنهاور إلغاء زيارته لطوكيو بعد أن اقتحم عشرة آلاف طالب البرلمان وشارك في الزحف عليه اربعون ألف عضو من حركة زنغاکورن إلى جانب ثلاثمئة الف عامل من النقابات (سوهيو)، وقد ارتفع مد الحركة، مرة ثانية في عام 1998 ضد اشتراك اليابان في حرب فيتنام وضد مشروع تجديد التحالف الأميركي.
أما في الصين حيث انطلقت الحركة الثورية والنضال ضد الإمبراطورية اليابانية مع التظاهرة الطلابية الهائلة في 4 ايار ۱۹۱۹، تلك التظاهرة التي كونت جيلًا كاملًا من المناضلين (ومنهم ماوتسي تونغ)، فقد اقتحم الطلاب من جديد مسرح الحياة السياسية بصورة لم يسبق لها مثيل مع الثورة الثقافية ففي عام 1996 أغلقت الجامعات، وداب الطلاب في جماع الشبيبة، مع الحرس الأحمر، وشاركوا في النضال ضد الفئة الحاكمة الجديدة المكونة من بيروقراطية الحزب، وضد الثنائية المستوحاة من النموذج الستاليني والمتمثلة في جهاز الحزب والدولة الذي يزعم، على حد التعبير الذي استخدمه لينين حين فضح هذا الانحراف في النظام، أنه يبني الاشتراكية من أجل الشعب لا بواسطة الشعب.
وفي إيطاليا اقترن احلال جامعة تورينو في كانون الأول ۱۹۹۷ بتنظيم تعليم مضاد في الكليات رسم اشارة استفهام جذرية حول مضمون التعليم العالي، وقد ساهم في الحركة عدد كبير من الطلاب المسيحيين، مقتدين بمثال کامیلو توريس، الكاهن الكولومبي الذي قتل وهو يقاتل مع الثوار الأنصار في عام 1966.
وفي إسبانيا لا يشكل الطلاب الجامعيون قوة عددية كبيرة (فقد كان تعدادهم في عام 1965 خمسة وسبعين ألفًا في شعب يبلغ تعداده واحدًا وثلاثين مليونًا)، ومع ذلك شكلوا في عام 1962، ضد المنظمة الرسمية منظمتهم السرية “الاتحاد الجامعي الديموقراطي الاسباني” الذي جرى توسيعه في عام 1963، وفي عام 1967 ارتبطت الحركة الطلابية التي يناضل فيها الشيوعيون والكاثوليكيون جنبًا إلى جنب بـ”اللجان العمالية”، وباتت تلعب دورًا هامًا في النضال ضد دكتاتورية فرانكو.
أما في فرنسا ، وبعد الدور الشرف الذي لعبه “الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا” في النضال ضد حرب الجزائر ، فقد راح عدد المنتسبين يتضاءل ابتداء من عام 1952، وضعفت الحركة بسبب القيادات اللامسؤولة، بيد أن النضال ضد حرب فيتنام والغضب على اصلاحات التعليم الرجعية في عام 1968 جرفا جمهور الطلاب الى كفاح سياسي فجر أعظم اضراب عرفته فرنسا وشارك فيه تسعة ملايين عامل وموظف، ولقد كانت هذه تجربة هائلة، وتحليل هذه التجربة يؤلف جزءًا أساسيًا من دراستنا.
وفي المانيا كانت غالبية الطلاب، غداة الحرب العالمية الثانية، يمينية أو سلبية، وحتى في عام 1966 كان أكثر من 80%، من الطلاب ما يزالون معادين لفكرة المساهمة في تسيير جامعاتهم، وفي عام 1967 رفض نصف الطلاب الاعتراف بحدود الأودر- نايس، و كان رأيهم أن النظام البرلماني الألماني وافٍ بالحاجة.
وقد بدأت الحركة عام 1966 في جامعة برلين الحرة, فقد كانت هذه الجامعة من صنيع الحرب الباردة، وكانت منسوخة عن النموذج الأميركي، ولكنها كانت أكثر قابلية للانثلام من الجامعات التقليدية.
وفي عام 1967 تظاهرت أفواج وأفواج من الطلاب ضد زيارة نائب رئيس الولايات المتحدة، ثم ضد زيارة شاه ايران، وصرعت الشرطة أحد الطلاب، ونظم تروست الصداقة سبسرنغر حملة مدروسة لتأليب الرأي العام على الطلاب، واستيقظ الوعي في النفوس بسرعة، فقد بدا القمع، والتلاعب، والتحكم، والخضوع للولايات المتحدة المعتدية في فيتنام، بدا هذا كله على حقيقته كمظاهر مختلفة لنظام واحد: نظام الرأسمالية الالمانية التي سبق أن أنتجت هتلر، واحتل الطلاب مقار صحافة سبرنغر في هامورغ وکولن وفرانكفورت ومونيخ، وشُلّ توزيع صحف هذا التروست في جميع ارجاء المانيا، وكان “تحالف بون الكبير” بين الديموقراطيين- المسيحيين والاشتراكيين – الديموقراطيين يميط اللثام عن زيف نظام الأحزاب والنظام البرلماني.
لقد لعب الطلاب الألمان دورًا هامًا في الحركة العالمية للشبيبة، لأنهم أزاحوا الستار على الصعيد النظري عن الخداع البرلماني، ونقلوا النضال السياسي خارج ساحة البرلمان والأحزاب.
إن مسلك الشبيبة السياسي هذا يتسم بسمتين أساسيتين اثنتين على الأقل، بالرغم من تنوع الشروط القومية التي يتجلى فيها, فتطور حركة الشبيبة خارج نطاق الاطارات التقليدية للتنظيم السياسي هو في حد ذاته دليل على تحول جذري في مفهوم السياسة بالذات: فالتغيير السياسي الحقيقي هو قبل كل شيء تغيير لا للوسائل فحسب بل للغايات المنشودة أيضًا، على اعتبار أن القوى والأحزاب السياسية القائمة تسعى، على اختلاف اسمائها، إلى تحقيق غاية واحدة لا غير: النمو الاقتصادي ورفع مستوى الاستهلاك وان اختلفت فيما بينها على الوسائل والسبل إلى ذلك.
إن الثورة، كل ثورة، في التصور التقليدي للسياسة هي في جوهرها تحويل السلطة من جماعة إلى جامعة أخرى، فلا يكون للفرد فيها من دور إلا أن يستلب سلطته ويفوضها إلى جهاز له قاسمه المشترك مهما تعددت أشكاله: ثنائية الحكام والمحكومين، فالجهاز الحاكم يفكر ويقرر باسم الجميع، ويقصي في الواقع الغالبية العظمى من السكان عن كل مساهمة فعلية في رسم القرارات وإقرارها وفي اختيار الغابات المنشودة، وشعار “الديموقراطية المباشرة” إنما يعبر عن رفض هذه الثنائية.
هذا النفي، هذا الرفض، هذا التمرد من جانب الشبيبة -وهذا اليأس أيضًا لأن سبعة آلاف مراهق بين السابعة عشرة والخامسة والعشرين ينتحرون سنويًا في فرنسا- يزيح النقاب عن عمق أزمة حضارتنا، وهو يساعدنا على وعي ضرورة إعادة النظر الجذرية في نظامنا ومؤسساتنا و”قيمنا”، وفي غايات مجتمعنا.
إن الشبيبة ترفض على جميع المستويات شرائعنا.
والأهل يتأرجحون بحيرة بين روح تسلطية تكرس القطيعة وبين تسليم ديماغوجي لا يخلق أي رابطة حية بين الجيلين.
والحكومات بدورها تجاور بوجه عام بين خطب التملق وأسلحة القمع، ولا مهرب من الإحراج: إما قمع لا نهاية له ولا أفق، وإما تغيير جذري، أي بديل عن حضارتنا لا عن سياستنا فحسب.
وهذا البديل لا يمكن إنشاؤه من أجل الشبيبة وبدونها، فليس بعد اليوم من مستقبل يُمنح أو يُنعم به.
وفي تأملنا التمهيدي حول المستقبل، ينبغي علينا أيضًا، بعد أن حاولنا استشفاف معنى الانتقادات وقياس عمق المشكلة المطروحة وجديتها، أن نتساءل عما إذا لم يكن هناك مستقبل هو رهن المخاض في تلك المجتمعات المضادة التي ليس لها بعد قوانين مكتوبة والتي تتألف من انشقاق قسم هام -هو أكثر الأقسام فعالية في غالب الأحيان- من الشبيبة، وهذه لحظة أساسية في تأملنا بصدد المستقبل وبناء المستقبل، لأن مظاهر النظام السلبية لا تستثير تمردًا حقيقيًا إلا إذا وجد ممكن آخر، نموذج آخر، فمن هنا على وجه التحديد يمكن للأقلية أن تشق ثغرة وأن تفتح أفقًا، بإيحائها بذلك الممكن وبرسمها المعالم المريضة لذلك النموذج.
لنفتح صدورنا إذن، في بداية بحثنا هذا، للاشارات والاتجاهات التي تنم لا عما تفضحه هذه الشبيبة فحسب بل عما تبشر به أيضًا.
۲ – ما تبشر به:
تتجلى في الموسيقى والرقص على سبيل المثال رغبة في التوكيد الحي للذات لا يجوز الخلط بينها وبين النزعات الفردية الذاوية التي شهرتها الأجيال السابقة، والموسيقى والرقص هما الشكلان الأكثر نموذجية لتلك “الثقافة المضادة”، لذلك الاحتجاج على النزعة التعقلية الشكلية المميزة للتعليم الرسمي الذي لا تلعب فيه الفنون والتعبير المبدع عن الذات غير دور تافه.
وبغض النظر عن كل حكم قيمة على نوعية هذه الموسيقي وهذا الرقص (هذه مشكلة أخرى سنعالجها في مكان آخر1)، فثمة سمات ثلاث يمكن استخلاصها من شغف الشبيبة هذا.
فالشبيبة، أولًا، وما عادت تعدّ الموسيقى أو الرقص فرجة يتمتع بها المرء سلبيًا، فالمساهمة فيها مباشرة وفورية، تبدأ الموسيقي أو الأغنية، فيرهف الراشدون السمع، أما الشبيبة فتأخذ بالحركة، وكأنها تحیي احتفالًا دیونیسيًا مشتركًا، والفنون، بعد ذلك، شكل من أشكال الانعتاق من دوامة النشاطات النفعية، فقد لا يكون “البوب آرت” إلا رغبة في سلخ الأشياء عن دلالتها الوظيفية، وحتى إذا لم يكن فنًا، فإنه على الأقل أخلاق، موقف من الحياة، توكيد على أن ثمة حياة أخرى ممكنة، على أن ثمة مجتمعًا آخر ممكن إلى جانب المجتمع القائم، بانتظار اليوم الذي يمكن فيه استبداله.
هذه الموسيقى وهذا الرقص هما من الفنون التي لا تخضع لسيطرة الكلمات ولا لمنطق الكلام، وبخلاف الحضارة الغربية التي قدمت على الدوام النشاطات العقلية الخالصة على هذا البعد الجمالي، أي المحسوس بشكل مباشر، لعلاقتنا بالعالم، تضع الشعوب اللاغربية البعد الحالي في مكانة الصدارة، وهذا هو أحد الأسباب الأساسية لانجذاب الشبيبة نحو الهند أو نحو البوذية الزرادشتية أو نحو الجاز الإفريقي المنابع.
وعلى هذا الصعيد أيضًا نجد أن الغايات هي الموضوعة موضع استفهام، فـ”الفهم” بالنسبة إلى الانسان الغربي هو، تقليديًا، التفسير بالكلمات.. وذلكم هو مصدر جميع أشكال سوء التفاهم الجمالي, فالغربي يساوره الاعتقاد بسهولة بأنه قد “فهم” اللوحة بمجرد أن يصف له دليل المتحف موضوعها، أي كل ما هو ليس برسم في الرسم “إنني لا أفهم بيكاسو …..”، ولكن ما حاجة الفنان في هذه الحال الي أن يرسم إذا كان ما يريد التعبير عنه قابلًا للتفسير بالكلمات؟ أفليس الأجدر به أن يحترف الفلسفة أو التاريخ أو الوعظ؟
ولا ينبغي أن نخفي على أنفسنا أننا نواجه ههنا تعارضًا جوهريًا بين تصوّرين عن معرفة العالم، وهذا في الحق واحد من الميادين التي يمكن أن يجري فيها حوار حقيقي عظيم الخصوبة بين الحضارات للتغلب على ذلك التعارض ولعدم التهوين من شأن البعد الجمالي والبعد المنطقي على حد سواء لمعرفتنا وثقافتنا، من شأن العقلانية الهيغلية و”طاو” اللاوتسية على حد سواء، وليست سلسلة من المصادفات التاريخية هي التي جعلت نضال الزنوج في الولايات المتحدة يلعب دورًا حاسم الأهمية في يقظة الشبيبة، وجعلت من تأييد حرب تحرير الشعب الفيتنامي القاسم المشترك بين الشبيبة في العالم قاطبة، وجعلت الرقص والغناء والفنون الإفريقية تلقى إقبالًا متزايدًا، وجعلت الهند تمارس جاذبية جديدة، وجعلت اليوغا والبوذية الزرادشتية تعرفان انتشارًا لا سابق له، وجعلت الثورة الثقافية الصينية تلعب دورًا تعبويًا نموذجيًا، وجعلت أبطال الشبيبة، ماو ولومومبا وغيفارا وأنجيلا ديفيس، من المنتمين إلى العالم اللاغربي جميعًا.
إن نضال الشعوب المستعمرة أو المضطهدة منذ طويل الآماد يشكل، من خلال تجسيم مضخم، المطلب المشترك للشبيبة في العالم قاطبة، فالشبيبة تطالب، كتلك الشعوب، بألا تعامل كما تعامل الأشياء وبأن تؤكد شخصيتها الخاصة ضد كل محاولة لدمجها بنظام خارجي، اضطهادي، قمعي.
واتجاه الشبيبة إلى إعادة الاعتبار إلى المحسوس والمباشر أمارة غنية من أمارات المستقبل، ولا مراء في أن هذا الاتجاه يقترن في بعض الأحيان بالرغبة في إهاجة شدة الإدراك الحسي ولو بصورة صناعية عن طريق المخدر، فالمخدر بات بمثابة تأجيج للتجربة الجمالية. وعرف مديح بودلير الحشيش ولفضائله في استثارة الهلوسة رواجًا كبيرًا، فالماريجوانا تؤجج إحساسات الألوان والأصوات والعطور، والمسكالين أو الـ”ل. س. د” يحدثان المفعول نفسه، ولكن بمزيد من الضرر، وهذا الشعور بالخفة والغبطة يخلق الأوهام، وقد أثبت السرياليون بالتجربة، منذ نصف قرن من الزمن، أن الكتابة الآلية لدى الشاعر طريقة إبداعية خصبة، ولكن الكتابة الآلية لا تعطي غير نتائج تافهة لدى الشخص اللاموهوب، فالشعر ليس أرضًا أجنبية جاهزة للاكتشاف بعد اقتحامها عنوة، كذلك لا يكفي المرء أن يحدث “خللًا تامًا شاملًا في حواسه كافة” كي يصبح رامبو، وعليه، فإن استعمال المخدر كوسيلة للتحرر من الحدود والتعبير الكامل عن الذات وهم من أوهام میتولوجيا العفوية، ولا مراء في قيمة العفوية من حيث أنها تمثل قطيعة إزاء كل ادعاء يزعم بأنه يحمل للإنسان حقيقته وسعادته “من الخارج”، ومن حيث أنها تعيد الى المحسوس والمباشر قوتهما وحيويتهما ضد منطق نظام مفلس، وتبشر بشكل جديد من العلاقات بين البشر.
ولكن العفوية المكررة لا تعود عفوية، بل نقيض العفوية: فالإثارة المتكررة للإحساس تثلم الحساسية وتنهكها, و “الأسفار” التي يدعونا المخدر إلى القيام بها مهددة بأن تكون فقيرة ومتوحدة على نحو متعاظم، ولكن الشيء الأساسي الذي لا سبيل إلى إنكاره هو أن هذه “الأسفار” تمثل مظهرًا من مظاهر رفض مجتمعي تستحيل فيه الحياة ووسيلة للهرب منه، إن المدمن على المخدرات ليس جانحًا بل هو إنسان مريض، ومنشأ مرضه اجتماعي.
وحتى لا نكون من الفرِّيسين في هذا الموضوع يجب أن نعيد إلى الأذهان أن المدمنين على أشد أنواع المخدرات ضررًا وأذى “وأغلاها ثمنًا”، الهيروين، لا يقتصر أمرهم على الشبيبة ، بل نحن نصادفهم أيضًا -وبوجه خاص- لدى الراشدين والشيوخ، ولا بأس أن نذكر أن المستفيدين من هذه التجارة اللامشروعة، المنظمة على نطاق عالمي في شبكات في غاية القوة، هم بوجه عام على قدر كبير من “النضج” ولهم شركاء كبار متواطئون في أجهزة ليست في متناول الشبيبة، وإذا كان من الضروري معاقبة المذنبين، يجب البدء لا بالشبيبة وإنما بالنظام الذي يولّد تلك التجارة ويغض الطرف عنها.
وليس في المستطاع وضع حد فعلي لاستعمال الوسائل التي تتيح للمرء أن يهرب من العالم إلا اذا خلق عالم لا يولد الرغبة في الهرب.
***
نصل هنا إلى حدود المشكلة الدينية، والحق أنها تطرح اليوم بحدّة متزايدة بالنسبة إلى الشبيبة، ولا سيما أن الكنيسة كانت طول ألف عام في الغرب مديرة عمليات الهرب الكبيرة وصانعة المبررات “الروحية” لجميع الثنائيات، بدءًا من ثنائية الروح والجسد إلى ثنائية الطبقات والسيطرة السياسية.
ولا غرو أن تكون حركة المعارضة والنقض قد زعزعت أركان الكنيسة أكثر مما زعزعت أركان أي مؤسسة أخرى موروثة عن الماضي، زعزعتها في أساساتها بالذات، لأن الشبيبة كانت الخميرة، ثم تلتها في التحرك تدريجيًا الجماهير الغفيرة.
لقد شنت الشبيبة هجومًا عنيفًا على الثنائية في تنظيم الكنيسة الداخلي، موجهة التحدي إلى كل ما يمكن أن يجعل من الكنيسة جسمًا منفصلًا في المجتمع، خارجيًا عنه ومتعاليًا عليه وهذا لا يتجلى في تصطدم به الكنيسة الكاثوليكية من صعوبات متعاظمة في تجنيد الشبان وتأهيلهم للكهنوت في المدارس الاكليريكية حتى أن بعض الرهبانيات (المذكرة أو المؤنثة) اضطرت إلى إغلاق أديرتها بسبب ندرة المرشحين للدعوة الربانية فحسب،
بل يتجلى أيضًا في المطالبة المتعاظمة باندماج فعلي بين الكنيسة وبين العالم ومشكلاته، ولقد كان الكهنة – العمال رواد حركة لا يمكن أن تتقهقر الى الوراء بعد اليوم، حين رفضوا الفصل بين العمل والايمان، بين الكهنوت والحياة العمالية، حياة عمالية معترّف بها في جميع أبعادها لا بوصفها بؤسًا نشاطرها إياه فحسب، بل أيضًا بوصفها كفاحًا مناضلًا، ومشكلة عزوبة الكهنة والراهبات لم تعد اليوم غير مظهر من مظاهر تلك الرغبة في دمج الكنيسة بالحياة كامل الدمج وفي ممارسة الايمان ضمن نطاق الحياة بأبعادها كافة لا خارج الحياة، وما تشديد اللهجة في الكنيسة الكاثوليكية على “رسالة العلمانيين” وعلى إمكانية رسم الكهنة من بين الرجال المتزوجين والنساء إلا حالة خاصة من ذلك الرفض للثنائيات طرأت.
إن هذا التيار العميق غير القابل للارتكاس هو الآخر يعبر عن نفسه أيضًا في التأليف المذهبي، في اللاهوت بالذات، وليسوا قلة بين الشبيبة المسيحية في أميركا اللاتينية أولئك الذين يرون صلة لا تني تتوثق بين فكرة البعث والقيامة وبين الثورة, وإنه لأمر له دلالته أن حمل كتاب الأب كوميلان، الشاهد على تلك الوضعية النفسية، هذا العنوان “لاهوت الثورة”.
وفي بلدان العالم الثالث قام جناح هام من جميع الأديان بربط نفسه بحركات التحرر القومي: لا في أميركا اللاتينية فحسب، بل أيضًا في افريقية في شكل حركات تنبؤية ورسلية، ولدى الشبان المسلمين الذين ارتبط لديهم الاسلام، في الجزائر على سبيل المثال، حركة التحرر القومي، مثلهم في ذلك مثل الكهنة البوذيين في فيتنام اليوم، ولقد تأثرت أكثر ما تأثرت حين استمعت في بانكوك، في معبد وات – فو، إلى راهب بوذي شاب (هذه البوذية التي كانت على مر الزمن أكثر الأديان ثنائية وأشدها حرصًا على صرف اهتمام الانسان عن الأرض)، وهو يكلمني، بحمية نضالية مذهلة، عن الالتفات لا نحو عالم آخر ولا نحو الماضي وإنما نحو المستقبل لتغيير العالم.
إن الشبيبة تواجه، في الكنائس المسيحية، ثقل الماضي الرهيب: ثنائية الروح والجسد، ومستتبعاتها الأفلاطونية، عن خلود الروح، والميل على حد تعبير الأب تيار دي شاردان إلى الافتراض بأن الجسد والحياة الجنسية ملوثان بما لست أدري من دنس، ولهذه الثنائية ترجمتها السياسية والاجتماعية الفورية: فبحجة أولوية “الروح” يفضل النظام المصطف إلى جانبها على الثورة المدموغة بالفوضوية و”المادية”.
وضد هذا كله يعبر الاتجاه الأساسي الذي نرسم معالمه في الشبيبة، على نحو جذري الجدة، عن واحد من أعمق تيارات المسيحية، التبار الذي يشدد اللهجة على ما يسميه اللاهوتيون بعلم الأخرويات، أي الرجاء المسيحي.
بيد أن هذا التيار يمثل، فيما وراء مظهره اللاهوتي المحض ويتجاوز حدود الشبيبة المسيحية، طريقة جديدة في عيش علاقة الإنسان بالعالم وعلاقات البشر فيما بينهم.
ونظرًا إلى عدم توفر مصطلح أنسب، سنصفه بأنه “دیونیسي”.
أولًا لأننا نلمح بذلك إلى رؤية نيتشه الذي يلهم، عن وعي أو لا وعي، عددًا كبيرًا من مبادرات الشبيبة المعاصرة.
إن أبولون، الذي يجسد المثل الأعلى للفكر الإغريقي الكلاسيكي، هو معلم العقل والانضباط والتوازن والحكمة الإغريقية النموذجية، الحكمة التي تدين بالشطط كل محاولة لتجاوز حدود الإنسان، أبولون هو ملكوت القانون والنظام، ونموذج الفعل الأبولوني هو فعل النحات، أي الفنان الذي يبني كل شيء تبعًا للقانون متقيدًا بالنظام الذي شاءته الآلهة.
أما نموذج الفعل الديونيسي فهو فعل الراقص، الراقص بوصفه الصورة المجازية للحياة المفهومة على أنها فيض متدفق يخترقنا ويتعدى التعبير عنه قدرة الكلمات، لا المفهومة على أنها نظام علائي ينبغي تقليده بالعمل، الرقص بوصفه انبثاقًا متجددًا للوحدة الأولى بين الانسان والطبيعة قبل كل حضارة، تلك الوحدة التي عاودت ظهورها في التاريخ في شكل ثورات في كل مرة يتم فيها اختراق الحدود التقليدية: في المذاهب الصوفية والثورات، في الطوباويات والهلوسات.
إن الإله الأريسطوطاليسي المسن، المحرك الثابت، الرب البارد، قد مات، وإني لأشك كل الشك في أن الشبيبة يلو لها أن تمثل دور النادبة في جنازته, فالإله الوحيد الممكن تصوره بالنسبة إليها والقابل للحياة، بعد ماركس ونيتشه وفرويد، في عصر الجوهر فيه صيرورة، والكتلة طاقة والكينونة علاقة، هو القوة الخلاّقة الكامنة في قلب كل شيء، فالله موجود حيث وجد شيء جديد في سبيله إلى الولادة في إبداع فن من الفنون أو في اكتشاف علمي أو في حب أو في ثورة، إن الله هو نقيض القصور1، ولئن كان القصور قانونًا عامًا لانحطاط الطاقات، فإن الحياة قد انتصرت عليه من الآن وإن بصورة غير نهائية، وثمة قانون جديد صائر إلى الحلول محله، وهذا القانون الجديد الذي قبل بتحدي معاودة صعود المنحدر هو الذي يعطي الحياة معناها وقوتها ويجدد صباها.
إن موقف الشبيبة هذا يوحي بشكل جديد للعلاقات بين البشر: فقد لا يكون ما يجمع بينا محض مهمة مشتركة، وإنما أيضًا انتماء مشترك إلى فيض متدفق واحد، إلى نسغ متصاعد واحد.
إن موقف الشبيبة هذا يوحي بموقف جديد من الحياة: تحول مصير الإنسان إلى قصيدة.
سألني أحد الطلاب: ماذا سيحدث إذا رقصنا حياتنا بدلًا من أن نبنيها فحسب؟
إن ما تفضحه الشبيبة هو الثنائية في شتى أشكالها.
والتعارض بين الروح والجسد هو التعبير المباشر والأول عن الثنائية وتلخيص لسائر أشكالها: ثنائية السلطات -سلطة الأب، رب العمل، الزعيم، “القيم”، الأديان، الأحزاب، الطبقات السائدة- والبشر المقضي عليهم بدور المنفذين، هؤلاء البشر الذين تحمل اليهم “الغايات” من الخارج، في الأخلاق كما في السياسة، في العمل كما في الأدب أو الفنون، والذين لا ينتظر منهم من شيء غير الاندماج بنظام الغايات هذا، الذي خلق في شروط تاريخية مغايرة بصورة كاملة للشروط الراهنة والذي ما عاد يجيب على أسئلة اليوم ولا يلبي متطلباته.
وما تبشر به الشبيبة هو على وجه التحديد الطابع المستعجل لضرورة طرح مشكلة الغايات على بساط البحث ، حتى ولو كانت تفعل ذلك بصورة مشوشة، فوضوية، طوباوية، وبكلمة واحدة: أسطورية، أجل، ثمة “أسطورة” عن الشبيبة، ولكن الأساطير لا تولد أبدًا عبثًا: فهي تخلق حين تبرز حاجة جديدة للإنسان وحين لا تجد هذه الحاجة إمكانية لتلبيتها في المجتمع القائم، إن الأسطورة تجسيد مسبق، ومن الواجب أن نتعلم كيف تفك لغزها، والأسطورة هي دومًا إشارة إلى تجاوز، ومن الواجب أن تقرأها لفهم ما تشير إليه، وهذا الكتاب يقترح محاولة للقراءة ولفك اللغز، يقول مثل بوذي: “حين تشير الإصبع الى القمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع”.
إنما بدءًا من هنا نستطيع أن نبني، مع الشبيبة، المستقبل، وما تفتقر إليه هذه الشبيبة هو الذاكرة والأمل، والحل الحقيقي لتيهنا الأعمى والفاجع هو الوصول إلى حرية تتجاوز الامتثالية والتمرد هو المجهود المبذول كما يكون لنا مع هذه الشبيبة تاريخ مشترك وآمال متبادلة.