المواطن / فهمي الصبري
“من لا يعرف التفاح يقول بأنه مُر” هكذا تبدو صبرٌ بنظرِ من لا يعرفُها ومعادنُها الثمينةِ من بَشَرٍ وحُلي.
لقد اصطفاها اللهُ لتكونَ “جنةً” للساكنين وقِبلةً للعاشقين وموطنًا للحالمين ، ولم يخلقها اللهُ عبثًا ليُقال عنها : “بلادُ المُشارعين”؛ وما يُقالُ عنها ليس إلا رصيدًا في ميزانِ جمالها ، وإقرارًا بـ احترامها للدولةِ والاحتكامِ لها ، في الوقتِ الذي فيه يحتكمُ سواهم من مفصعو الشوارع إلى آلآتِ القتلِ ولغةِ العنفِ ووسائلِ التهبش.
لقد جعلَ اللهُ الجمالَ لصبرٍ آيةً في الخلقِ ، وأنموذجًا تقريبيًا لجمالِ الجنةِ ، وهي أرضُ الله الطيِّبةِ؛ حيثُ تكسوها الخضرةُ وتتميزُ بجوها النقي الباعثُ للحيويةِ والراحة ، وتبدو جداولُها الخضراء وكأنها “جنةً” مُطرزةً بالمشاقر.
الباحثون عن شيءٍ من عبقِ الماضي الجميل ــ يجدوه في صبرٍ ــ عند بائعاتِ الوردِ والمشاقرِ وعند بائعاتِ القات والفرسك ، وفي وجوهِ الصبرياتِ “كراكمٌ صفراء” ومشاقرٌ خضراء؛ يجدوه “زنةَ دَمَسٍ” أو قميصًا مُحاكًا بخيوطٍ من النيلونِ وأقراطٍ من الفضةِ على أجسادِ الفاتناتِ في شوارع تعز وعلى طريقِ الجبل.
الباحثون عن جمالِ الأرضِ والأجواء الطبيةِ ، سيجدوه شُميلاتٍ على أيادي الصبرياتِ وليازمٍ على رؤوسهن وحُنيشاتٍ على أعناقهن وأخراصٍ فضيةٍ على آذانهن وخلاخلٍ على أقدامهن؛ ربما يجدوه مووايلًا ومهاجلًا من أفواههن وأفواه فلاحو صبرٍ في الشعابِ والوديانِ ، في البراري وفي السهولِ.
الزائرون “أفواجًا” من أرجاءِ المعمورةِ لا يموتون في صبرٍ ولا يُحاكمون؛ بل إنهم يأتونها بحثًا عن الحياةِ والتعرُّف عن قربٍ على إكسيرِ الجمالِ الذي يهبُ الحياةَ لزائريه وساكنيه ، فالعيشُ في صبرٍ لا يحتاجُ إلى كبسولاتٍ ولا حُقننٍ طبيةٍ؛ بل هناك جمالٌ فريدٌ وأجواءٍ صحيةٍ “كفيلةٌ” بحياةٍ صحيةٍ لمن عَشِقَ صبر.
ليسَ مديحًا قولي في صبرٍ؛ بل أطربوه فنانون كُثر وأشادَ الكثير من الشعراء العِظام أمثال شاعر الوطن الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان الذي أهدى قصيدته الغنائية لفراسك وبلس صبر للفنان الكبير أيوب طارش ببضعِ أبياتٍ هي :
طاب البلس طاب وا عذارى طاب .. هيّا صبحونا بَلَس…
والفرسك اخضر وحالي .. فراسكك وا صبر .. لا ما تسبب ضرَس.
ولغروس صبر و ورودها أهدى الفضول قصيدته :
يسقيك ما احلى ورودك وغرسك وا صبر .. يرحم أبوه من غرس…
كم فيك من حسن .. كم فيك من ألوان فتنة .. ليت قلبي نَفَس…
لكن قلبي ملانه حب من حينما في الحب قلبي غَطَس.
ولبناتِ الجبل أهدى الفضول قصيدته الجميلة قائلًا فيها :
ما احلى بنات الجبل حينما يطوفين المدينة بالثياب الدمس …
خدود مثل الورد ضوء الفجر أرواها وأعطاها المشاقر حَرَس.
ولم يرتوِ الفضول من بحر شعره لصبرٍ؛ بل إنه وجه سفينته الشعرية نحو القات الصبري وقاطفاته من جميلاتِ الجبل بقصيدته الغنائية بصوتِ عندليب الفن اليمني عبدالباسط عبسي :
طــَعمه قُبَل .. وا حلا طعمه قُبل…
قات المثاني على ماء الجبل …
قطَّافة القات قاتك كلما …
جلس تطرّي و وردك ما ذبل …
قات الجبل في يدك يقطر ندى …
وضحكتك في فمك تقطر عسل.
أما الشاعر عمر عبدالله نُسير فيهدي صبرًا قصيدته الغنائية بلسان الفنان الأكتوبري محمد محسن عطروش بقصيدةٍ كُتبت بعد زيارة الشاعر لصبر قائلًا فيها :
يا بائعات البلس والقات .. يا حور .. يا نازلات من العلالي إلى البندر .. يا لابسات الذهب زينات…
يا سُعد من يشتري من صبايا صبر الاخضر ..
في حسنكن شاضيع…
لو ذا الجمال للبيع .. بانشتري يا ناس…
للفنان الراحل علي عبدالله السمة حضوره البديع في طرب صبايا صبر التي تعلَّقَ بحب إحداهن حد الهُيام ، فظل يُطربها بالعديد من الأغاني قائلًا فيها :
يا صبايا صبر .. بينكن لي حبيب …
هو مغير القمر .. غاني أهيف حلا…
له درايا طوال .. حاز كل الخصال..
يا صبايا صبر .. يا حمام الجبل…
كم أسرتن بطل .. ما يهاب القتال…
الدكتور سعيد الشيباني له بصمته الجميلة عن فاتنات صبرٍ اللاتي غَنَّى الفنان الكبير محمد مرشد ناجي كلماته قائلًا فيهن :
جبل صبر كم طلعتك بهية ..
ذكرتني صالة والجحملية
صوت المغني في صبر شجاني ..
وهيَّج الذكرى للأسمراني..
لصبرٍ تأريخُه الكبير في ذاكرةِ الفن ، فهي قصةَ عشقٍ أزليةٍ لكل من ارتشفَ جمالَه واستنشقَ هواه؛ بل هي لوحةً فنيةً اعتلَت أرضَ تعزٍ ، ربما عروسًا متوجًا بالغمامِ في شتاءاتِ فصولِها.
وفي مناقبِ الوديانِ نجدُ الإنسانُ الصبري من أكثر سكان اليمن حرصًا على المورودِ الزراعي الذي يتلاءم مع حالة الطقس في صبر ، فلا يزالُ أبناءُ صبرٍ يزرعون الشعير والفول والثوم البلدي والفلافل والحُلبة والبقوليات ، إضافةً إلى البلس (التين بنوعيه) والفراسك والرمان في قمم الجبل إلى جانب القات وزروعٍ أخرى تُزرع في سهولِ صبرٌ وقممِها.
اللهجةُ في صبرٍ “حكايةٍ وحياكة”
تختلفُ اللهجاتُ من قريةٍ إلى أخرى في صبرٍ ، فهناك من يختصرُ الجُمَلَ الفصيحةَ بعباراتٍ شعبيةٍ سهلةِ التداولِ كأن نقولُ بالفصحى : لقد كُنا في حيرةٍ من أمرنا ، ليختصروها إلى العباراتَين الشعبيَتَين (حِوشنا/ اتخاوشنا) ، والجملة : لا يمكنكم أن تحكموننا ، اُختصرت بالكلمة (مشتحكموناش).
وفي موسوعةِ الصوتيات تمتزجُ اللهجةُ الصبرية بالعاطفة ومواسم الزراعة والبلاغةُ الشعبية ، وفي الغالب تشترك في ذلك مع بعض مناطق الحجرية؛ كأن يصدح البسطاء هناك بالمهجل الخاص بموسم الذري :
لا بكر الوادي مغبر
هات ضمدك واجبر
اليوم ذري اليوم تمهجال
وابتول شد الحبال
لا تشرح الشيبة المناصف
مثلما الدم للوزف
حلفت لي ماناش غريمك
والشريعة تحكمك
يا ريت لي يا ريت.. يا ريت
يا ليت لي بالبحر بيت.
أو يصدح : واذي الحُبَيبة .. ودعتك الله .. ودعتك احمد .. راعي المظلة.
أما عن مهاجل الصراب فيشدو الصارب بصوته قائلًا :
ليلبو روّح.
ليلبو وا ليل
وا شريمي دق.
دُق لا بالليل
شعملك بندق
للحمام والعيل.
وبالنظر إلى موسوعة الموروث الشعبي في صبرٍ فهي رائدةً في الحفاظِ على موروثِها الشعبي من عاداتٍ وتقاليدٍ وأزياءٍ ، فالزي الصبري الذي يلبسنه نساءُ صبرٍ فريدًا نوعَه؛ حيثُ يختلطُ النيلون والفضة والحرير بنقوشٍ فائقةِ الجمال وألوانٍ آسرة ، وقُماشٍ أصيل ، إلى جانب الفضيات الموضوعة على أجزاءٍ مختلفةٍ من الجسم ، فالحُنيشاتُ الفضيةُ في الصدر والليازمُ حولَ الرأسِ والخلاخلُ على القدمين والأخراص على الأذنين والشُميلات على اليدين.
كانت صبر ولا تزالُ شعاعًا ساطعًا ينبثقُ ضوءها لتشملَ به أرجاءَ تعزٍ واليمنَ كاملًا ، كما لا تزالُ نكهتَها الشعبيةَ الجميلةَ عابقةً في نفوسِ اليمنيين.