كتاب المواطن / سلامة كيلة
ومن ثم هل انتهت الثورات؟
الثورات في البلدان العربية أسست لحالة هائلة من الأمل حيث بدا أن الأمور قد تطورت إلى وضع يسمح بتحقيق الأحلام التي راودت النخب لعقود طوال، بعد أن كانت قد تآكلت نتيجة الانهيارات والفشل، لهذا علق عليها نقل الواقع “فجأة” إلى حال آخر، مناقض لما هو قائم.
لكن أنظمة الحكم التي تشكلت بعد الثورات في البلدان التي أزاحت رئيسها، والتي سيطر فيها إسلاميون، جعلت تلك النشوة التي أوجدتها الثورات تتلاشى، حيث ظهر أن المسألة تعلقت بتغيير الأشخاص الحاكمين وليس كما طالب الشعب، وأن وضعًا أسوأ قد نتج عنها، خصوصًا أن كل التغيرات التي حصلت لم تحسّن جديًا في الوضع الديمقراطي، ولم تحقق المطالب التي طرحت، وبالتالي لم تغيّر شيئًا مهمًا في الوضعية القائمة.
هذا ما أطلق اليأس من جديد، ونقل الأمر من تمجيد الثورات إلى شتمها واعتبار أنها ليست ثورات بل حراك فاشل، أو حتى مؤامرة “إمبريالية”، وبهذا فقد أسدل الستار على الأصل في الثورات، وأصبح الأمر يتعلق بفوضى تحدث تقتضي عودة الاستقرار.
ليس مستغربًا أن يحدث ذلك، حيث إن المنطق الذي يحكم النخب سكوني، لهذا لا يرى إلا ما “يفقأ العين”، أي ما يحدث، بالتالي يفتقد ككل منطق صوري إلى المقدرة على فهم الواقع، وتلمس الصيرورة، ومن ثم ملاحظة ما يجري، والأسباب التي أوجدته، وما يمكن أن يوصل إليه، هذه المقدرة النظرية غائبة، حيث إن المنطق الصوري يتلمس ما هو موجود، أو ما هو غائب، ولا يستطيع تلمس المخاض الذي يمكنه أن يقلب الموجود إلى آخر، ليجري التفاجؤ بهذا الآخر.
لقد كان الوضع بالنسبة لها “ميتًا” رغم كل التراكم في الاحتقان الذي كان يعتمل المفقرين، والذي أفضى إلى الثورة، لتبدو أنها أتت من لا شيء، ومن ثم لتصبح وهمًا، كأن شيئا ثوريًا لم يكن.
تعقيدات الوضع، والمسارات التي حدثت يجب ألا تفهم أن الثورات انتهت، أو كأن لم تكن، وإلا لن نستطيع فهم ما يمكن أن يجري غدًا، فالثورات بدأت للتو، ورغم كل تعثراتها (التي نتجت بالتحديد عن فشل النخب، واليسار هنا خصوصًا) سوف تستمر إلى أن تحقق المطالب التي أسست لقيامها أصلًا، هذه المطالب التي لا زالت غائبة عن فهم النخب تلك، مطالب “العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية”.
بالتالي ما يجب أن يكون واضحًا هو أن ما تحقق إلى الآن يتمثل في ثلاث مسائل، هي أولًا أن الشعب كسر حاجز الخوف، حيث إن حالة الإفقار والتهميش والسحق التي عاشها فرضت نتيجة تراكم الاحتقان، والوصول إلى “حافة الموت جوعًا”، أن ينفجر كاسرًا كل خوف من السلطة التي تشكلت كسلطة استبدادية شمولية، وثانيًا أن تحرك الشعب بهذه القوة فرض تضعضع السلطة ذاتها، وبدء تسلل “النخر” في بنيتها نتيجة أنها في النهاية تتشكل من أفراد من الشعب، وأن حراك الشعب سوف يؤسس لتفكك الترابط داخلها، ويفتح إلى تصاعد عجزها عن السيطرة، وثالثًا إذا كانت الثورات عفوية نتيجة هامشية الأحزاب والنخب، وهو الأمر الذي أسس لتعقيد الصراع وطوله، والعجز عن “إسقاط النظام” إلى الآن، فإن الصراع ذاته يفرز تبلورًا جديدًا في المستوى الفكري السياسي، يعبر عن واقع الشعب، ويؤسس لنشوء بديل قادر على تحقيق التغيير.
نحن في صيرورة ثورية، بدأت وهي مستمرة.
وطن في فوضى:
أشدد على ذلك لأن كل الكلام هو عن الفوضى، بالضبط لأن كل ما يجري هو فوضى، لكن لا أحد يناقش لماذا حدثت هذه الفوضى حين نهضت الشعوب لتغيير واقعها؟
الفوضى واضحة بلا شك، في سورية حيث النظام مارس كل الوحشية والثورة عانت فوضى منعتها من الانتصار، فأصبح توصيف الوضع هو أننا نعيش حالة استعصاء، استعصاء مخلوط بالفوضى في كل المناطق، وفي العراق حدث حراك لإسقاط العملية السياسية أو لتغيير موازين القوى فيها فشهدنا الفوضى، وهناك وهنا دخلت أميركا لكي تحارب داعش التي باتت “قوة عالمية” تستحق الحشد، رغم ضآلة عديدها مقابل الأعداد الموجودة في سورية أو العراق للقوى التي تقاتل النظامين، وأصبحنا في سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، وانقسام ليبيا والصراع بين “إخوة السلاح”، واللمز الأميركي لفرض “الإسلاميين” في السلطة.
واضح أن الثورات استطاعت أن تضعف النظم فقط، وهو الباب الذي فتح على الفوضى، هل يعني ذلك رفض الثورات؟ لا بالتأكيد، وأصلًا الأمر لا يتعلق بالموافقة على أو الرفض لأن الشعوب تتحرك نتيجة وضعها الذي بات لا يطاق، وحيث أصبحت على حافة الموت، لهذا تحركت دون استشارة أحد، رغم أنها بحاجة شديدة إلى “أحد”، وهذا ما لا يناقش أو يولى أي اهتمام، فمن الطبيعي أن يؤدي حراك الشعب وبهذه القوة وإلى ضعف النظم، وإلى انفلات الصراعات، وأصلًا ليس من الممكن تحقيق التغيير دون ضعف النظم، بالتالي كان من الطبيعي أن نغرق في الفوضى بعد أن ضعفت النظم أو انهارت أو باتت عاجزة عن الحكم كما في ليبيا، السؤال الجوهري هنا هو: ما السبب في ذلك؟ الثورات؟ وهل نستطيع منع الشعب من الثورة، وأصلًا هل كانت الثورة مفاجأة لكل النخب والأحزاب؟ ولهذا عجزت عن أن تلعب دورًا فيها، وكانت أصلًا قد نسيت أن هناك ثورات وأن الشعوب يمكن أن تثور.
بالتالي، الفوضى أمر طبيعي لغياب القوى السياسية التي مهمتها في لحظة الثورة أن تنظم وتطور الحراك لكي يوصل إلى انتصار يحقق مطالب الشعب، كي يعود الشعب إلى “الهدوء والسكينة”، وبغير ذلك سيبقى يثور ويقاتل، ويسعى إلى التغير، وبالتالي ستضعف النظم أكثر وربما تتهاوى، وسيكون الوضع مفتوحًا على تدخلات كثيرة، وعلى صراعات “ماضوية” أو مناطقية أو تنافسية، حيث سيحاول كل طرف، سواء خارجي أو كامن في البنية أن يحقق ضمن هذه الفوضى مصالحه هو، وبهذا تتراكم الفوضى وتتوسع، لكن هذا ليس المسار الممكن حين ينهض الشعب من أجل التغيير، لأنه بات يعرف ماذا يريد، حتى وإن دخل في متاهات نتيجة عدم المعرفة بكيف يتحقق، بالتالي سيفرض ذلك طرح السؤال عن النقص الذي يفضي إلى ذلك.
هذا ما أشرنا إليه منذ البدء، حيث لماذا الفوضى؟ بالضبط لأن الحراك عفوي يعرف ماذا يريد ومن يعادي لكنه لا يعرف كيف يحقق الإرادة، ويؤسس ما يحقق مطالبه، بمعنى أن الفوضى أمر طبيعي في وضع تغيب فيه البدائل، وتتلاشى القوى التي تنظم وتتكتك، وتخطط وتعرف كيف توجه الحشد، ومن ثم كيف تتقدم لكي تنتصر، فالثورات عفوية، وهذا يعني أنها دون تنظيم ودون “وعي”، ولهذا هي تضغط فتضعف وتفكك لكنها لا تستطيع فرض بديلها بعد أن أضعفت النظم وفككتها. الثورات ينقصها إذن الخطوة الأهم، والتي تتعلق بكيف تسيطر على السلطة بدل أن تترك الوضع في فوضى؟ وما هو البديل الذي تطرحه لكي تفرضه بعد استيلاء الشعب على السلطة؟ هذا يعني أنه ينقصها “العقل” و”المنظّم”، وفي هذا حديث كثير حول أزمة الأحزاب المعنية بمطالب الشعب، لكن الثورات لا تنتظر بل لا بد من أن تتبلور القوى التي تسهم في فرض سلطة بديلة، فالشعب يريد سلطة بديلة، سلطته هو.
والآن، ماذا نعني بانتصار الثورات؟
الصورة الأولية لمعنى انتصار الثورات كانت في إسقاط الرئيس وتغيير النظام، لكن المناورات التي أوحت بذلك من قبل أطراف في السلطة أظهرت أن شيئًا لم يتغيرأكثر من إبعاد الرئيس وبعض حاشيته، لهذا ظهرت فكرة أن الثورات فشلت، حيث لم يتغير شيء في الواقع، وهذا ما فتح باب اليأس والخيبة، ومن ثم فتح باب الندب والتشكيك والخوف من الفوضى،
المعادلة كانت بسيطة، حيث تكون إزاحة الرئيس هي المدخل لتحقيق الحرية و”الدولة المدنية” والديمقراطية، هذه الأخيرة أتت بالإسلاميين فتراجع الاهتمام بها، وظهرت نزعة القبول بدكتاتور يقوم بمهمة سحق هؤلاء.
الفئات الواسعة من الشعب التي خاضت الثورات، وصنعتها، كانت تريد تحقيق مطالبها التي طرحتها، وهي مطالب اقتصادية اجتماعية بالأساس، هذه المطالب لم تتحقق بعد ثلاث سنوات من الثورة، ولقد راهنت مرة وأخرى على حلول، وقوى، دون أن يتحقق شيء مما أرادت، على العكس بات وضعها من هذه الزاوية أسوأ (ازدياد الفقر والبطالة)، لكنها لا تملك ترف اليأس أو الخوف بعد أن كسرت كل الخوف الذي سكنها حين تمردت، ولهذا لا زالت تقاتل من أجل أن تحقق مطالبها.
وإذا كان حلم النخب هو الديمقراطية، ومطالب الشعب هي العمل والأجر والتعليم والصحة والسكن، فإن الانتصار يعني تحقيق كل ذلك، وهنا نلمس مستويين، الأول بأن تحقيقها يستلزم إزاحة السلطة والفئات المستفيدة منها، التي فرضت شكلًا غير ديمقراطي للسلطة، هو شكل استبدادي شمولي، وفرضت نمطًا اقتصاديًا يخدم مصالحها ويهمّش كل المجتمع، وبالتالي عدم الاكتفاء بتغيير أفراد بل تغيير كلية البنية، والمستوى الثاني يتعلق بكيفية تحقيق هذا التغيير، حيث لا يكفي المراهنة على أفراد في السلطة، أو الدعوة للإسقاط فقط، والضغط من أجل التغيير دون وجود رؤية بديلة وقوى بديلة تفرض ذاتها بقوة الشعب سلطة بديلة، فالسلطة بكليتها هي التي فرضت النمط الاقتصادي الذي قاد إلى البطالة والفقر والتهميش، ومن أجل ذلك تشكلت كسلطة استبدادية (حتى وهي تعطي هوامش من الحرية).
هذا التغيير لا يأتي عبر الضغط على السلطة من خلال الثورة لكي تتغير، فالسلطة لا تتغير في الجوهر بل تعيد إنتاج ذاتها في شكل جديد، ربما يكون أسوأ مما كان، فإذا كانت النخب تنتظر من يغير، وتلعب دور “المعلق الرياضي” الذي يوّصف ما يجري ويصدر الأحكام حوله، فإن غياب ترف التوقف لدى الشعب نتيجة وضعه الذي لم يعد يحتمل التسويف، هو الذي يفتح على رؤية المستقبل، وتحديد كيفية انتصار الثورات، فالحراك الشعبي يتسم بالجرأة والقوة والاستمرارية، رغم نشوء بعض المراهنات في لحظة أو أخرى (وهذا نتاج غياب البديل)، لكنه لا يحتاج لأن يتشكل كبديل للسلطة لا أن يبقى حالة رفض وضغط، تنتظر التغيير من السلطة ذاتها (التي ليس من الممكن أن تتغير، فهي تدافع عن مصالحها).
الثورات تنتصر بالتالي حين يعي الشعب أن عليه هو أن يفرض سلطته، هذا يقتضي تطوير الوعي والرؤية وتنظيم الحراك بشكل يجعله قوة منظمة فاعلة تهدف إلى استلام السلطة، هذا الجهد الذي تطرحه اللحظة الراهنة، وهو يتعلق بتطوير وعي فئات جديدة لكي تصبح هي القوة الفاعلة في الثورات، وتكون قادرة على تحديد سياسات التي تجعل الشعب ينتصر، هنا يأتي دور الشباب الذي كان بعيدًا عن السياسة والفكر قبل الثورات، وأخذ يكشف ضرورة ذلك بتجربته العملية، وهو الأمر الذي يعني بأن الثورات لا زالت مستمرة رغم الصعود والهبوط الذي تعيشه بين حين وآخر.