كتاب المواطن / سلامة كيلة
وضع اليسار وأسباب عجزه:
أشرت إلى وضع اليسار قبلًا، وإن بشكل عابر، هنا أشير إلى أن قوة اليسار الشيوعي كانت في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، وأن سيطرة الأحزاب القومية بعد إذ (نتيجة رفض ذاك اليسار التقدم لاستلام السلطة رغم مقدرته في عدد من البلدان)، والتحولات التي أجرتها في التكوين الاقتصادي الطبقي، قد أفضت إلى تراجع وضع هذا اليسار، وبدء تحلله، ولم يسعف نهوض “اليسار الجديد” منذ نهاية ستينات القرن العشرين في استعادة القوة تلك، حيث تلاشى بسرعة هائلة.
وجاء انهيار الاتحاد السوفييتي، وتلاشي البلدان الاشتراكية، لكي يسقط الرمزية التي كانت تلم ما تبقى، وتبقى الأحزاب الشيوعية رغم هزالها، ومن ثم تسقط الأيديولوجية التي استندت إليها، ولهذا انفرط متحولًا، إما إلى الليبرالية مباشرة (تحت مسميات اليسار الديمقراطي) أو عبر التركيز على الديمقراطية كمطلب عام ووحيد (أو ملحق بالنظم كما في سورية والمغرب والعراق المحتل)، وبهذا فقد طابعه الأيديولوجي (رغم كل شكليته السابقة)، وتموضع في الفئات الوسطى التي تطمح إلى تحقيق الديمقراطية.
لم يعتقد أن الشعوب ولم يعد يتلمس مشكلاتها الاقتصادية والمطلبية كما كان في يومٍ ما، وبات يتشكل في بنية تنظيمية منحصرة ومتضيقة، ومتمحورة حول ذاتها، لقد فقد التحليل الاقتصادي الطبقي، وفقد الميل للارتباط بالعمال، وتجاهل النقابات والعمل النقابي، وهو أصلًا لم يكن يفكر في الاستيلاء على السلطة، حتى حينما كان قويًا، وباتت إستراتيجيته تتمثل في “النضال الديمقراطي”، والتحالف مع القوى التي تمحور نشاطها حول هذا الهدف، ويطالب بتحقيق الديمقراطية، ويعمل في مجال حقوق الإنسان.
إنه مناضل ديمقراطي بامتياز، وهو مناضل ديمقراطي من منظور ليبرالي، لأنه يمحور كل نشاطه حول هذه الهدف وليس لأي سبب آخر، بينما كان الفقر، وكانت البطالة، والعجز عن التعليم والعلاج، يؤسسون لاحتقان لدى الطبقات الشعبية، كان يتنامى بهدوء، لكن بشكل مستمر ومتصاعد، ولهذا ففي الوقت الذي كان يعمل على إصلاح النظم من خلال دمقرطتها، كانت الطبقات الشعبية تؤسس لإسقاط هذه النظم.
وبالتالي حين انفجرت الانتفاضات كان تائهًا، فإما وقف معها وسار ككل الشعب العفوي، أو وقف مترددًا ومحذرًا وخائفًا من التغيير، أو كان ضدها، ورغم مشاركة بعض الأحزاب، وطيف من اليساريين؛ فإن ما كان ينقص الانتفاضات هو الرؤية، والسياسات، وتحديد المطالب والأهداف أحيانًا، وبالتالي تنظيم كل هذه الحشود من أجل الاستيلاء على السلطة. هذا ما كانت تريده الطبقات الشعبية، أو ما كان يسمح وحده بتحقيق مطالبها، وهو وحده من كان يجب أن يحمل برنامج هذه الطبقات، وينظم انتفاضتها لكي تفرض الاستيلاء على السلطة، لا ترك الأمور لتدخل فئات سلطوية أو قوى إمبريالية (كما في ليبيا) لكي تحقق “التغيير”.
ما يمكن تلخيصه هنا هو أن اليسار الماركسي لم يكن ماركسيًا، ولم يكن معبرًا عن العمال والفلاحين الفقراء بل عبر عن نخب من الفئات الوسطى، وطرح أوهامها، وكان واضحًا أنه فقد التحليل الاقتصادي الطبقي، وفقد الارتباط بالعمال والفلاحين الفقراء، وتخلى عن مفهوم الثورة، (ككل الليبراليين)، ولم يقترب من مسألة الاستيلاء على السلطة. ولأنه لم يفهم الواقع لم يكن في وارد وضع إستراتيجية صراع، ولا تحديد التكتيك الضروري لتبلور العمال والفلاحين الفقراء، ولتنظمهم، باختصار ظل في واد آخر، يلوك أوهام الفئات الوسطى، التي تلبرلت أو تأسلمت، أو حتى باتت مع الإمبريالية، فقام بالنشاط الخطأ في الوقت الخطأ وللهدف الخطأ.
ربما يتحسس البعض، لكن لاشك أن هناك من شارك بقدراته، في تونس ومصر وسورية واليمن والمغرب والعراق ولبنان والأردن والبحرين، على أمل أن يكون هؤلاء بداية أحزاب ماركسية مختلفة التكوين والسياسات والوعي كما راج طيلة العقود الخمسين السالفة.