المواطن/ كتابات ـ عيبان محمد السامعي
مثلت ثورة 26 سبتمبر 1962م إحدى أهم الوثبات التاريخية المجيدة التي صنعها اليمانيون على مدى تاريخهم الممتد. فالثورة السبتمبرية لم تكن ثورة ضد نظام سياسي إمامي ثيوقراطي بغيض فحسب, بل أيضاً كانت ثورة شعبية ضد أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية شديدة التخلف والتأخر سعياً إلى صناعة واقع جديد مغاير.
بعبارة أخرى: ثورة 26 سبتمبر أخرجت اليمن من ظلام القرون الوسطى إلى أنوار العصر الحديث.
إن ما نقوله ليس فيه أية مبالغة أو تهويل, وذلك بالنظر إلى طبيعة الأوضاع السائدة فيما قبل 26 سبتمبر 1962م.
لقد رزحت اليمن وشعبها تحت حكم ظلامي جائر طوال 44 عاماً (1918 – 1962م), اتسم بكونه حكماً ملكياً فردياً مطلقاً. فكان الإمام هو كل شيء في أمور الدين والدنيا, الحاكم المطلق المعصوم, وقد كان يبت في كل صغيرة وكبيرة, وهو رئيس القضاء ورئيس الادارة وقائد الجيش والجهاز الاداري والمتصرف الوحيد في خزانة وأملاك الدولة, فخزانة الدولة هي نفسها خزانة الإمام ولا فرق بينهما.
ناهيك عن أن الإمام كان يحتكر السلطة الدينية فهو خليفة الله في الأرض والحاكم باسمه الذي ينبغي على عامة الناس طاعته, فطاعته من طاعة الله, والخروج عن طاعته هو بمثابة خروج عن الدين يستوجب أقسى العقوبات!
وتأكيداً على هذه السلطة الثيوقراطية المطلقة, اتخذ الإمام ألقاباً له مثل: المنصور بالله, والمتوكل على الله, والناصر.. إلخ, إضافة إلى الألقاب الرسمية: الامام, أمير المؤمنين, الملك, وكان أبناء الإمام يلقب كل واحد منهم بسيف الاسلام.
واعتمد الإمام في إخضاع الشعب على آليات استبدادية خشنة وناعمة. فمن الآليات الخشنة: استخدم القبضة الأمنية, والقمع الشديد, والاعتقالات, والتعذيب الوحشي, والإعدامات في الساحات العامة, وشن الحروب لإخضاع القبائل والمناطق التي حاولت أن تنتفض على حكمه الظالم, كما استخدم سياسة فرّق تسد لضرب القبائل بعضها ببعض, وتطبيق نظام الرهائن, حيث كان يأخذ من مشائخ القبائل وخاصة المشكوك بولائهم أحد أبنائهم أو أحد أقاربهم يستبقيهم عنده كرهائن, والغرض هو لضمان عدم تمرد المشائخ.
أما الوسائل الناعمة فقد عمل الإمام بدأب على السيطرة على عقول الناس؛ مستغلاً الجهل المخيم على الشعب, ومن ذلك بث شائعات تدّعي أن للإمام كرامات, وأنه ليس فقط ملك الإنس بل وملك الجن أيضاً!
ومثلّت سياسة عزل اليمن عن العالم الخارجي وسد المنافذ أمام رياح العصر مبدأ أساس في سياسة الإمام لغرض ديمومة نظامه وبقائه.
وعلى مستوى السياسات الإمامية في المجال الاقتصادي فقد اتجهت للمحافظة على الأنماط التقليدية من أجل الحفاظ على جمود حياة البلاد. فقد حال النظام الامامي دون قيام صناعة وطنية, وأعاق تطور رأس المال التجاري. ولم يكن ثمة نظام نقدي في البلاد ولم يكن هناك أسواق بالمعنى العلمي لها. وكانت المدن متخلفة تذكّر من حيث شكلها الخارجي بمدن القرون الوسطى, إذ أُحيط الكثير منها بأسوار عالية وبأبواب خشبية سميكة, ولم يكن يُسمح بالدخول إلا من خلال تلك الأبواب التي تغلق في الليل وأثناء تأدية الصلاة..! (كما تشير إلى ذلك الباحثة السوفيتية ايلينا جلوبوفسكايا في كتابها الهام: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، ت: قائد محمد طربوش)
وفرض الإمام نظام ضرائبي جبائي قاهر استهدف طبقة الفلاحين وصغار التجار, حيث كانت تُفرض عليهم ضرائب باهظة تثقل من كاهلهم تعددت صورها ومسمياتها: الخطاط, والتنافيذ, والبواقي, والتخمين….إلخ, في حين كان يتمتع كبار التجار والمُلاك الإقطاعيين بامتيازات مجزية وبإعفاءات من الضرائب والجمارك.
لقد تشكّل تحالف طبقي أوليغارشي مكوّن من أفراد الأسرة الحاكمة وكبار الملاك الإقطاعيين وكبار. ركّز هذا التحالف الأوليغارشي بيده الثروة والسلطة, وعاش عناصره في تخمة, في مقابل أن الغالبية الكاسحة من أبناء الشعب عاشت حياة ضنكى وحُرمت من المقومات الأساسية للعيش.
وعلى الصعيد الاجتماعي, سادت العلاقات الاقطاعية البطريركية في أبشع صورها, حيث اتسم التركيب الاجتماعي للمجتمع اليمني إبّان حكم بيت حميد الدين بالتراتبية الهيراركية, إذ كان يقف الإمام ومعه أفراد عائلته والعناصر الغنية من طائفة السادة بالإضافة إلى القضاة وكبار الإقطاعيين وكبار التجار المندمجين في السلطة الإمامية على قمة السلم الطبقي, ويليهم شيوخ القبائل, ثم صغار التجار والفلاحين, فالحرفيين, فالفئات الدنيا: المهمشين والعبيد.
وكان لكل فئة من هذه الفئات ثقافتها الخاصة ومواقعها في نظام تقسيم العمل ولها تقاليدها وقيمها الاجتماعية والرمزية وأزياءها. وكان يحرّم على أيّ من أبناء فئة معينة أن ينتقل إلى فئة أخرى أو يستعير بعض تقاليدها أو قيمها الرمزية.
فعلى سبيل المثال: كان أبناء الطبقة العليا من السادة والقضاة يتميزون بلباس خاص, فقد كانوا يضعون طاقيات على رؤوسهم (قاوق) عليها عمائم بيضاء, ويلبسون أثواب طويلة بأكمام واسعة مغلقة, ويضعون على الكتفين وشاح خفيف مصنوع من الصوف, وعلى الخصر يوضع حزام واسع مطرز وجنبية معقوفة, ويضعونها على الجانب الأيمن من الخصر.
وكان يفرض على الناس مخاطبة أفراد شريحة السادة بكلمة “يا سيدي” وللأنثى “يا ستي”, وتقبيل اليد والركب, وغيرها من التقاليد التي تعكس منزلة ومكانة أفراد هذه الشريحة.(راجع: قائد نعمان الشرجبي, الشرائح التقليدية في المجتمع اليمني, دار الحداثة, لبنان, 1986م)
وعلى الصعيد الثقافي والتعليمي, لم يكن هناك وسائل ثقافية ولا صحف ولا دور نشر ولا يوجد نظام تعليمي في البلاد, وعدد المدارس لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة, فقد كان يتواجد في طول البلاد وعرضها مدرسة ثانوية واحدة في صنعاء ومدرستان غير مكتملتان في تعز والحديدة.
لقد فرض الإمام سياسة التجهيل على الشعب وعمل على نشر الخرافة في أوساطه ومنع دخول أي وسائل عصرية إلى البلاد ليضمن بذلك استمرار حكمه الظلامي الكهنوتي.
ورغم كل الوسائل التي لجأ إليها الإمام في فرض سلطته, إلا أن الشعب اليمني لم يستكن ولم يستسلم, بل قاوم ومن وقت مبكر هذا النظام القهري, واتخذت المقاومة في البداية انتفاضات فلاحية وعشائرية ثم تطورت مع مرور الزمن لتتخذ تعبيرات أكثر تطوراً؛ وصولاً إلى ولادة “فجر يوم صبي” هو فجر ال26 من سبتمبر 1962م الذي طوى صفحة الامامة “وولى زمان كعرض البغي” وبه “أشرق عهد كقلب النبي”..
يتبع…