المواطن/ كتابات ـ ضياف البراق
ضاع انتباهي وركبتُ الباص اللعين الذي أقسمتُ أمس من حياتي ألَّا أركبه مرة ثانية، ولقيتُ الركّاب كلهم يثرثرون من كل جانب، أصواتهم حادّة وكلماتهم شديدة البؤس. كل يوم أقسم ألا أركبه، وأركبه غير شاعر بالإثم. أقسم أنهم يثرثرون مثل كل يوم. كارثة، هؤلاء الناس لم يتغيّروا منذ مدة طويلة. على الفور أحسستُ بالاختناق. هذا الباص يقتلني من سنة كاملة أو أكثر. المشكلة أن ذاكرتي مثقوبة، نسَّاءة، إنها تخونني، لا تحتفظ بالوعود ولا الأحداث. وإلّا لِمَ أُكرِّر هذا الخطأ نفسه منذ أزْيَد من عام. ولا مرّة أوصلَني من دون تعب. وبينما العالم يدخل في عصر ما بعد الحداثة، أو بالأصح ما بعد كورونا الحالي، فإن هذا الباص يدخل بنا إلى ظلمات الجاهلية. يجلس خلفي شاب ثلاثيني ثرثار، سخيف بشكل أشد وضوحًا، يلقي نفس النكات الجنسية المكرورة على صاحبه، بأسلوب يَبعثُ على مُنتهى القرف. صاحبه يضحك ملء شدقيه، بصوت شاحب ومرتفع زيادة عن اللزوم، وأنا أتشنّج في مكاني، وألعن سوء حظي، وقلة شجاعتي. بعض الناس أبرياء من الداخل، ولكن ضحكاتهم المزّيفة تقتلني كثيرًا. أريد أن أنتحر قبل أن يطول المشوار ويقتلني هذا الذي يضحك خلفي. أنا أيضًا أرغب بالثرثرة مثلهم، ولكنهم لم يتركوا لي أي مجال لتنفيذ رغبتي. هذه حقيقة غضبي. أمّا السائق فثرثار من العيار الثقيل، وهو أسوأ من كل سائقي باصات الأجرة، في كل صنعاء، إنه يطلب منك الحساب قبل أن تحط مؤخرتك على الكرسي. لا كرسي في الحقيقة. وإذا تعطّل الباص في بداية الطريق، وهذا يحدث أغلب الأحيان، فلا يُرْجِع لك الحساب، بل يطنّشنا جميعًا، حتى نيأسَ منه، فنترك فلوسنا نادمين، ونذهب متفرِّقين في كل شارع وكل اتجاه. نذهب ونحن نلعنه بلا هوادة. ماكينة الباص تكظم أنفاسك بدخانها الكريه الرائحة. والثرثرات الفارغة بدورها تُكمِل الباقي في القضاء عليك. هكذا الحياة تكسرك بأي شكل أو موقف، وأحيانًا بدون أي مبرر. الباص مُوشِك على أن يصبح بلا كراسي، وأنا سعيد جدًّا لهذا الأمر. لا أحب الكراسي إطلاقًا. لقد دمرَّ حُبُّ الكراسي كُلَّ وطنٍ عربي. صراع الكراسي لا يزال يدمر العالم. في اليمن سيقتلك حتى كرسي الطبيب. كن مُستعِدًا لذلك. وذات مَرّة قتلني كرسيُّ الحديقة. أقصد ذلك الكرسي الذي جلستْ عليه هناك على مقربة مني، فتاةٌ لذيذة في غاية الجمال. كانتِ الشهوةُ تسيل من كل مسامات جسدها الطيني الأبيض، أو هكذا بدا لي المشهد حينها. كانت هي تبتسم للسحاب، وأنا أعتصرني جنونًا إليها. يا الله كم أنا ضعيف أمام الجمال. المجد فقط لذلك الكرسي التاريخي الجميل، والذي صرتُ أعشقه أكثر من نفسي، وأعلّق عليه أجملَ أحلامي. أقذر الكراسي في هذه المنطقة من العالم، كراسي السلطة. لا يزال الباص يمشي، والركّاب يثرثرون دون فتور. أهرب منهم قليلًا، من غير أن يشعروا بهروبي. ثُمّ أطل من نافذة الباص وأروح أثرثر مع نفسي وأنا خائف: هذه البلادُ مائجة دائمًا. أشياؤها كلها غير صحيحة، وربما غير حقيقية أيضًا. منذ مولدي وأنا أركض بين الجثث، وفوقها، وتحتها، وداخلها. أركض بلا جُثتي. غير أنّ ركضي الداخلي هو الأقسى، لأنه لا يتوقّف ولا ينتهي. في كل لحظة تسقط قذيفة أو قرية أو مدينة أو مقبرة فوق وجهي. المشاكل كثيرة للغاية، والحلول المطروحة هي مشاكل أخرى. بلاد كبيرة تتساقط من داخل أهلها. انهيارات هائلة تجري فيها، واضطرابات حادّة تتضخّم باستمرار، وآلام فظيعة تتراكم. أنا أسقط، وهم يسقطون. أنا أثرثر، وهم يثرثرون. ورغم كل ذلك، فلستُ أحتاج إلى وطنٍ غير وطني، وإنما أحتاج فقط إلى باص آخر غير هذا، إلى أوتوبيس يحلمني سريعًا إلى سكني دونما أشعر منه بالعُياء. أعود إليهم. سأصل إلى سكني في (سَعوان) بعد نصف ساعة، أو بعد نصف قرن، لا مشكلة. المهم عندي هو الوصول حيًّا. أخيرًا وصلتُ. يا للتعب المتشبِّث بي. هذا بعد أن قطعتُ بقية المسافة مشيًا على الأقدام. مشيتُ أثرثر سريعًا مع أحدهم في الطريق، إنه رجل خمسيني لطيف، لا أعرفه من قبل. وبينما كان هو يثرثر معي بكلمات بسيطة هادئة، كلمات نابعة من صميم قلبه النظيف، أو قُلِ الجريح النازف، كنتُ أنا أشعر بنوع من اليأس المؤلم يضرب جدارَ صدري بمطرقة ضخمة، ولا أدري لماذا شعرتُ بذلك. على كل حال، الثرثرة مستمرة.
وأفتح فيسبوك على سبيل البحث عن بصيص أمل، ولا أجد سوى الثرثرات المزعجة، وبعض الكتابات القليلة الرائعة. الجمال يوجد دائمًا بكميات قليلة. فيسبوك هو الآخر مليء بالثرثارين من كل صنف، ومليء بالمزايدين، والأدعياء، والمنافقين، وقليلي الذوق الذين ينشرون صور الجثث والرعب. ومنهم من يطلب من الجمهور أن يدعوا لجدته بالرحمة، أو لجده الذي مات قبل قرنين، وهكذا، ومنهم من يريد أن يشتهر ولو بأي شكل، المهم يحقق هدفه هذا. ومنهم من يلهث وراء صفحات البنات، ولا وظيفة له غير هذه. ومنهم من يثرثر لمجرد الثرثرة فحسب. وأخطرهم الذي يتجول بين الصفحات المميزة، بحثًا عن نصوص مدهشة تتفق ورغبته، فيلطشها عاجلًا وينشرها باسمه ولا يستحي من أيٍّ كان. من أين للصوص الحرف كل هذه الجرأة؟ سبحانك يا ربي. وأعرف كثيرًا من لصوص الحرف، ولكنني أتجاهلهم، من باب التسامح حينًا، وحينًا من باب الكسل، والكسل يغلبني دومًا. جرّبوا أن تثرثروا حول الجنس، أفضل وأشرف لكم من أن تثرثروا حول الكراهية. اجعلوا ثرثراتكم نقية من الكراهية، عندها تعانقكم السعادة. هناك من يمارس الجنس كممارسته الكراهية. الجنس غير العنيف هو الذي يُضيء ظلمات الحياة.
ذروني اليومَ أثرثِرُ لكم حتى أدخل في غيبوبة كاملة. اتحمّلوني قليلًا. لا تخنقوا رغبتي هذه المرة. بي رغبة هائجة للثرثرة. بي وجع في الرأس لا بد أن يخرج على هيئة شظايا. بي غصة تشتعل في القلب. أريد أن ألعن كل شيء، دفعةً واحدة، وقد شتمتُ ثلاثة ثرثارين في جروب ثقافي بالواتس، ولكننا لم نصل إلى حدِّ الحظر، وسوف نصل مع الوقت بدون شك. جروب ثقافي يُعنى باللقافة فحسب، واللقافة أسهل بكثير من الثقافة. الثقافة رقي، ومسؤولية، وموقف، واللقافة شيء آخر تمامًا. إنها ضربٌ من التنغيص اللفظي. اللقافة أعلى وأقبح درجات الثرثرة. طبعًا استمعتُ إلى كلمة هادي الأخيرة، إنه ثرثار كبير، ثرثراته دائمًا تستخف بشعب اليمن بأكمله، ولهذا السبب ضاعت البلاد كلها من تحت رأس هادي، وانداست كرامتنا، وتبخّرت جميع حقوقنا، والقادم أخطر لا محالة. كالعادة ثرثرات هادي تعج بالكوارث والبشاعات الوطنية واللغوية معًا، وهو في الحقيقية رجل فاسد عقليًا، وفاشل إلّا في النوم، ولا يتقن حتى العاميّة. إنه أفشل وأغبى من حكموا اليمن إلى الآن. هادي لا يجيء منه سوى الضلال، والضلال أقصر الطرق إلى الدمار. وفي الماضي قال هادي: عادت عمران إلى أحضان الدولة. وانزلقت عمران مع العاصفة. وقال: سنرفع علم الجمهورية اليمنية فوق جبال مَرّان. وارتفع علم الإمارات في عدن، وسقطرى أخيرًا، وتمزّق علمُ الجمهورية من جرّاء عبث هادي، وفساد شرعيّته البَوَار. وقال هادي: التحالف العربي لن يخذل طموحات شعبنا اليمني العظيم. وخان التحالف كل آمال وطموحات اليمنيين، وبطح الشرعية أرضًا. ولا يزال التحالف يشتغل على تدمير ما تبقّى من مكتسبات البلاد. وقال أيضًا: سوف نردع كل الانقلابات التي ستقف في طريق الدولة، وطريق المشروع الوطني الاتحادي. ونجحت كل الانقلابات، وانقلبتِ الشرعية هي الأخرى على الجمهورية ككل الذين انقلبوا عليها. لا غرابة، هادي من زمان يقول الشيء ويفعل عكسه. هادي قوّال لا فعّال. هادي أسوأ كارثة حلّت على رأس وطننا اليمني. ولكن سيسي مصر أقل غباءً من هادي. هذا السيسي لا أطيقه أبدًا، إنه يثرثر دومًا، أسمعه أحيانًا ولكنني لا أصدِّقه في شيء، وهذا بالتأكيد يرجع إلى شدة حبي لمصر، وبحكم خوفي لأجلها من المتآمرين عليها. اللعنة على كون الأوطان العربية العريقة، والغالية، يحكمها الثرثارون، الأغبياء، الفاشلون، والطغاة. وفي تويتر هناك يثرثِرُ أعظمُ سافلٍ إماراتي على الإطلاق؛ ضاحي خلفان، بل خربان، هذا الساقط يشتِم اليمنيين مِرارًا وتكرارًا، وكأن أرضنا كانت زمان حق أمه وأجداده فجئنا نحن وسرقناها من أيديهم بالقوة والاغتصاب. وللإمارات ثرثارون كثيرون منتشرون في معظم وسائل الإعلام العربي، وفي كل منصات التواصل الاجتماعي، وهم مُخرِّبون جدًّا، ولكنهم لن ينجحوا في شيء، لأنّ الأقنعة تسقط عند أول عاصفة غضب تهب عليها. وعلى حد تعبير جدتي تقية، الله يرحمها، للثرثرة حدود، وللمُخرِّبين نهاية سوداء. والذي يجعل من الحَبَّة قُبَّة لا يفلح ولو أفلح. والباطل باطل. والذي لا يقف مع الحق، لن يقف معه الله. واليمن ينتصر على أعدائه جميعًا أطال الزمان أو قصر. واليمن أكبر من كل الخرافات، وأقوى من كل الحروب والمؤامرات، والتاريخ خير شاهد.
من يومين وأنا أثرثر مع صديقي جمال السروري حول مستقبل الوطن العربي. يقول جمال مقاطعًا: هذا موضوع شائك وفي غاية الخطورة ويخرب المعدة مع البنكرياس ويضرب القلب في جميع مقاتله. أوافقك القول يا صديقي الحكيم. ثم أعود وأثرثر مع جمال حول موضوع أقل خطورة من ذاك، لكن ليس لمجرد الثرثرة، كلا، بل بغرض البحث عن مجال آخر للتنفُّس السليم وسط كل هذا الركام العربي المهول، أو الخراب الغامر الذي نغرق فيه منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن. ثرثراتي صارت لا تطاق، وجمال يكاد ينفجر غضبًا في وجهي، لكن، لا تخيفني شظايا الانفجارات. جارتي تثرثر أيضًا، أسمعها منذ الأمس، ولعل زوجها المسكين لا يجرؤ على إيقافها ولو لبعض الوقت، ولا يجرؤ أن ينسحب من معركة زوجته الحامية الوطيس. هو ثرثار مثلها ولكن صوته غير مرتفع ولا مزعج كصوتها الذي يخرب طبلات السمع عن بكرة أبيها. تدور الآن من حولي ثرثرات كثيرة من كل الأنواع، وجميعها قاتلة. سأترك جمال ليرتاحَ قليلًا، إلى حين يستعيد توازنه الطبيعي، وكامل نشاطه، ثم سأعود إليه بثرثرة جديدة حول موضوع جديد. وخلال لحظات الصمت، أخذني بالي إلى أقاصي عوالمَ لا مرئية كثيرة. أنظر عميقًا إلى داخلي. أراهم بوضوح. إنهم أطفال في مُقتبِل النور. يعلبون بين قلبي وروحي. لا يثرثرون مثلنا. يركضون الآن. بيني وبينهم مسافة لا تكفي للتنفُّس. ألاحقهم بفكري وأسقط دونهم من فرْطِ الشوق. غير أنّ التفكير في ذاتي يقتلني أكثر. ما من شيء يقع تحت عدسة تفكيري العصبي إلَّا وينفسِد أو ينكسر أنفه على الأقل. أخشىى عليهم من توتُّر فِكري. لقد هزمتُ اليأس. الأمل أيضًا مسافة. الأمل هنا لحظة عابرة بين وجهين مجروحين، أو بين قلبين غير حقيقيين. والحياة سلسلة طويلة من المسافات الكثيرة، والبعيدة، ولكن الزمن المتروك لنا ضئيل جدًّا؛ إذ لا يكفي لإيصال قُبَلة إلى خد حبيبتي التي تنتظرني هناك. لا أحد مِنَّا يستطيع أن يقطع كل هذه المسافات الوَعِرة بدون أن يتحطّم أو يموت في البدايات. أطل عليهم من جرح كبير في صدري ولا أرى أحدًا. أسحبني قليلًا إلى الوراء المُظلِم، أشعلُ شمعة حزني وأطل بوجهي عليهم من جرح آخر، هو الوطن نفسه، وهذه المرة لا أراهم أيضًا. اختفتِ المسافة كلها. اِنطفأتِ الرؤيةُ بيننا. أسمع أصواتهم فقط. أو أسمع أصداء أنفاسهم المرتعشة. أطلق صوت صمتي نحوهم، أرفعه حتى النهاية. لا أحد منهم يسمعني. أغلقتُ وجهي عليهم، وأغلقوا وجوههم عليَّ. انغلقتِ الكلماتُ علينا جميعًا.