المواطن/ كتابات ـ فهمي محمد
هذا المقال كتب ونشر على صفحة الكاتب في 2017/9/23 ومن الأهمية بمكان إعادة نشره لاسيما مع التدخل التركي في ليبيا.
” الــسيــاســة الــطيــبــة لا تــؤدي بالــضرورة إلى الــنجــاح ولــكــن الــسيــاســة الــسيـئــة ضــمــان اكــيــد لــلــفــشــل “
تلك هي خلاصة التجربة السياسية لأحد القادة السياسيين البارزين في الولايات المتحدة الامريكية، وهي تؤكد صدق مدلولها السياسي في المخرجات والمألات التي أنتجتها سياسة الانظمة الحاكمة لدول الخليج وعلى وجه التحديد دولة السعوديه التي مارست على شعوب المنطقة العربية بشكل عام وعلى اليمن بشكل خاص سياسة سيئة لأكثر من نصف قرن من الزمن.
الحاضر بكل مكوناته وأدواته وقيمه السلبية او الايجابية وبكل أنساقه على المستوى السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي ، لا يأتي من فراغ ولا تصنعه الصٌدف من العدم ، بل هو نتاج ومخرج طبيعي لممارسات سياسية سابقة ، حتى فيما يتعلق بالحاضر المتغير الذي تؤسسه الثورات الناجحة التي تمكنت من صناعة ألتحولات التاريخية، وشكلت في الأساس إعتمالات تتقاطع مع الماضي ونماذجه التاريخية ، فإن هذا الحاضر المتغير يعد مخرج لممارسة سابقة هي ممارسة الفعل الثوري والمشروع الثوري ،
فالحاضر المعاش إما أن يكون إمتداد طبيعي وجامد لممارسات سابقة ، او يكون واقعاً يعبر عن تطور ايجابي متحرك لممارسات سياسية ناجعة ، وإما أن يكون واقعاً يعبر عن ردة فعل عكسية لتلك الممارسات السابقة التى مازالت ممتدة إلى الحاضر .
هكذا يٌصنع حاضر الشعوب بممارسات سابقة قريبة أو بعيدة ، لكن ما يٌهم في هذه المقالة هو الحديث عن الممارسة السياسية ، لهذه الأنظمة التي ساهمت بشكل كبير في صناعة هذا الحاضر العربي عموماً واليمني على وجه الخصوص ، لاسيما وأن السعودية والإمارات تخوضان اليوم معارك وحروب طاحنة من أجل تغيير نتائج سياستها ولكن بأدوات غير ناجعة وغير صحيحة لن تزيد هذا الواقع إلا رسوخاً وتكريساً وتعقيداً لصالح حضور إيران الدولة التي تٌقدم نفسها اليوم طرف رئيسياً في معادلة الصراع والحرب في اليمن، بل في المنطقة العربية بشكل عام .
منذ أكثر من نصف قرن والأنظمة الحاكمة في دول الخليج (بقيادة السعوديه) تمارس سياسة رجعية تقوم على تسخير كل إمكانياتها النفطية = { البترو دولار} في محاربة الفكرة القومية ومشروعها السياسي والأحزاب التقدمية والاشتراكية لاسيما في الدول المجاورة،
صراع مع حركة القومين العرب ، وصراع مع البعث وصراع طويل مع المشروع السياسي والقومي العروبي الذي رفعته ثورة / 23/ يوليو 1952/ م في مصر ، وصراع طويل مع الاحزاب الاشتراكية في اليمن ومشروعاتها السياسية والاجتماعية وقيمها الإنسانية ذات المضامين الاجتماعية ، فضلاً عن صراع سياسي طويل مع فكرة التغيير نفسها أعاق بناء الدولة الوطنية وأفرغَ مشروع ثورة سبتمبر من محتواه، وأخيراً وليس بأخر صراع غير مبرر مع أحزاب الاسلام السياسي التي شاركت سياستها منذ نصف قرن في تسمينهم.
حقبة الستينيات من القرن الماضي كانت هي المحطة التاريخية التى شهدت بواكير هذه الممارسات السياسية السعوديه، التي أستخدم فيها المال والدين ووظف الصراع المذهبي ومراكز القوى القبلية وشبكة الفساد والنفوذ على المستوى السياسي والاجتماعي في الداخل اليمني، وكذلك مراكز القوى والنفوذ على المستوى العالمي في سبيل محاربة فكرة التغيير ، وما الضربة العسكرية الخاطفة لرأس النظام القومي العربي في 1967/م إلا دليلاً صارخاً على هذه السياسة السيئة التي ذهبت إلى أبعد مدى في حمقها مع فكرة الثورة والتغيير في دول الجوار ، لاسيما وأن العديد من المراجع تؤكد أن الضربة التي قامت بها إسرائيل في 1967/ لمصر عبد الناصر، كانت بتكليف من امريكا بموجب طلب مقدم من الملك فيصل الذي يعد في المناسبة افضل الملوك في السعوديه وقد وجه حينها رسالة مكتوبة إلى الرئيس الامريكي بهذا الخصوص مرفقاً بها تقرير مفصل عن إجتماع الوفد الجمهوري والملكي في اليمن بخط رئيس الوفد الملكي احمد الشامي .
لن أسترسل في سرد الأحداث وذكر الأرقام فما يُهمني هو الحديث عن هذهِ الممارسات السياسية التي صنعت هذا الحاضر الذي نقاتل اليوم سياسياً وعسكرياً من أجل تغييره في اليمن بعد أن تم صناعته بممارسات سياسية سعودية في ستين سنه ماضية،
فقد ترتب على ضرب مشروع الفكرة القومية وقتل الشعور الوجداني بالإنتماء القومي كهوية حية وجامعة على مستوى الشعوب العربية، أن أصبحت شعوب المنطقة العربية تعيش حالة من الرخاوة المكشوفة للأخر القومي المجاور، لاسيما فيما يتعلق بديناميكية الهوية العربية الجامعة التي أصبحت غير محصنة أمام إختراقات القوميات المجاورة ” تركية وفارسية ” والتي تزحف علينا من وقت لآخر من نافذة التمذهب وصراعاته التي اذكتها وغذتها سياسة السعوديه من سنين طويلة في اليمن.
على سبيل المثال الحركة الحوثية التي وجدت فيها إيران ضالتها المفقودة من سنين في هذه المنطقة الحساسة لم تكن إلا إنعكاسا لصراع مذهبي / سياسي أذكته السياسة السعودية من سنين طويلة، فقد عملت هذه الأخيرة على نشر المذهب الحنبلي بنسخته الوهابية في اليمن ، وهذه الممارسات السياسية السابقة التى تبنتها السعوديه كانت بدافع الخوف من تنامي زخم الاحزاب التقدمية والقومية لاسيما منذ ثورة 26 سبتمبر 1962/م، وهو ما أدى إلى خلق توجه مذهبي يقاوم هذه الإعتمالات الاجتثاثية لاسيما داخل المذهب الزيدي الذي نشأ تاريخياً على إثر السؤال السياسي الذي تم تداوله وتغليفه بخطاب ديني في الإسلام المبكر ، وبمنطق الفعل وردت الفعل تم البحث عن التطرف الشيعي المقابل في مواجهة التطرف السني الذي يزحف على سطح الجغرافية اليمنية بدعم من دولة السعوديه .
في خضم هذا الصراع الذي بدأ وكأنه يستدعي النماذج التاريخية المشوهة في معترك السياسية في القرن الواحد والعشرين حضرت ايران الى جبال مران على إعتبار أنها الدولة القادرة على تقديم هذه البضاعة المتطرفة من النسخة الشيعة لكي تستثمر هي الأخرى هذه الأفكار الممانعة والجماعة الحاملة لها فكرياً وثقافيا وسياسيا كأدوات صراع سياسي يتم فيه إذكاء فكرة التمذهب ببعده المتعالي ={ السلالية} وبشكل يخدم حضورها السياسي الفاعل في المنطقة العربية المطلة على الممرات المائية الدولية، خصوصاً وإن إيران تعيش في صراعها مع الآخر الدولى والإقليمي خارج فضاء الدولة القومية ومشروعها السياسي في ايران، بمعنى آخر أصبحت إيران في ظل هذه المعادلة التى تشكلت بفعل السياسية السعوديه تتصارع مع الآخرين بفائض قوتها الذاتية التي تتموضع أساساً في الجغرافية العربية وتعتمد في نفس الوقت على العنصر البشري العربي وليس الإيراني .
كما أن سياسية تلك الانظمة التي تجر وراءها أموال طائلة سخرتها في محاربة الاحزاب الاشتراكية وإضعاف دورها بما تحمله من مشروعات سياسية واجتماعية تتجاوز المكونات المذهبية والعصبوية أدت في الواقع إلى إعاقة بناء الدولة الوطنية الحديثة هذا من جهة ، ومن جهة اخرى أدت إلى إحياء الصراع المذهبي، وتداول الخطاب المبني على الجملة الدينية في المجال السياسي العام لاسيما وإن الدين تم توظيفه وإستثماره في هذا الصراع السياسي بخطاب مبتذل مع الفكرة السياسية ، فكانت النتيجة كارثية بالمنطق السياسي على شعوب المنطقة العربية على مستوى بعدين اثنين :-
-الأول : غياب الدولة الوطنية في المنطقة وعلى وجه التحديد في اليمن وبشكل اصبحت فيه الانظمة الحاكمة تمارس حالة من السلطوية القمعية بدون مشروع سياسي أو إجتماعي وطني يعمل على صهر تلك المكونات والمسميات التقليدية في سبيل وحدة الجماعة وبما يحقق اندماجها الإجتماعي والوطني داخل الهوية الوطنية الجامعة، بل على العكس من ذلك تم إذكاء فكرة هذه المكونات التقليدية وتوظيفها سياسياً كهويات جزئية لصالح السلطة، على حساب مفهوم الدولة الوطنية .
-والثاني : غياب الهوية القومية الجامعة على مستوى الشعوب العربية، على إعتبار أن إحياء القومية العربية – كثقافة – يؤدي بطبيعة الحال إلى خلق وجدان جمعي يتجاوز الحدود السياسية القطرية، ويكون في نفس الوقت قادراً على تحصين الشعوب العربية من سياسات واجندات القوميات المجاورة ( وتحديدا الفارسية والتركية )
بمعنى آخر إحياء الهويات الجزئية اللا وطنية على المستوى القطري أدى من جهة إلى خلق الفواصل والمساحات وحتى الصراعات داخل أبناء القطر الواحد وبالشكل الذي يعيق سياسا واجتماعياً وجود الدولة الوطنية القطرية داخل الجغرافية العربية ، ومن جهة ثانية خدم مشروع الدولة الوطنية وحتى القومية خارج الفضاء العربي، كما هو الحال مع دولة إيران التي أصبحت دولة مؤثره في مسار الأحداث ليس بكونها دولة إقليمية قويه فحسب، بل لكونها تملك أدوات القوة والنفوذ في الداخل العربي الذي تشكل بفعل استدعاء الهويات الجزئية لاسيما المذهبية منها، لأن صراع الهويات المذهبية اصبح مع مرور الزمن أدوات صراع ناجعة بيد الدولة الإيرانية كما هو الحال في اليمن
إيران الدولة والقومية والمشروع السياسي هي من جنت ثمار تلك الممارسات السياسية الخاطئة للأنظمة في دول الخليج العربي دون ان تحرق اصابعها بالنار لأن هذه الانظمة تقدم للمشروع السياسي في ايران كل ما يريد على طبق من ذهب ، ومازالت مستمرة في ذلك ، وما الحصار لدولة قطر الغير مبرر إلا أحد هذه الأطباق المقدمة بالمجان، وهي دعوة حضور لإيران في المنطقة العربية حتى في حال إن استسلمت قطر لكل شروط السعودية والامارات رغم إستحالة ذلك، بل ودعوة حضور لدولة تركيا التي تحاول اليوم استغلال الصراع المذهبي والحضور إلى المنطقة العربية من نافذة التمذهب السياسي .
المشروع السياسي الايراني يعتمد في الداخل الايراني على رافعات قوية وصلبه ، تجعل منه قوة قادرة على اخترق الفضاء العربي ، وتتمثل تلك الرافعات في وجود دولة ضاربة في أعماق التاريخ قبل أن يوجد الإسلام ، وما المنحولات السياسية الفارسية التي ترجمت وشكلت مداميك الدولة العربية الاسلامية إلا دليل على هذه العراقة في التراث السياسي ، ورسوخ ثقافة الدولة في المجتمع الإيراني ، وكذلك وجود هوية قومية جامعة للمجتمع الفارسي في إيران تحصنه من الإختراقات المجاورة ، وكذلك أيديولوجية مذهبية أصبحت تشكل اليوم نظام معرفي وثقافي يُستخدم سياسيا في حماية الدولة وفي وحدة القومية الفارسية، ولهذا فإن المشروع السياسي الإيراني في المنطقة العربية – بقيادة قاسم سليماني – يعمل سياسياً على تفكيك الدولة الوطنية بكل أريحية مستغلاً عدم وجود هوية قومية وحتى ثقافة وطنية حيه تواجه هذا الحضور المتغول ، وأمام هذه الرخاوة يستخدم المشروع السياسي الإيراني الأيديولوجية المذهبية في تفخيخ المحيط العربي وجعله حقل الغام يعيق زحف القوى العالمية الكبرى تجاه إيران الدولة والمشروع السياسي والعسكري النووي .
يتوجب اليوم على التحالف العربي إذا أراد أن يواجه خطر المشروع الإيراني ليس على مستوى اليمن فحسب بل على مستوى المنطقة العربية بشكل عام عليه أن يستفيد من أخطاء الماضي ونتائجه ويتخلى بشكل نهائي عن مسألة التعويل على صراع المتناقضات المذهبية والأيديولوجية ، ويغادر حساباته التي تقول أن التطرف الشيعي سوف يصده تطرف سني مقابل ، ولهذا ذهب الى دعم المكونات السلفية والمكونات المشابهه ، على اساس التعويل على صراع الايديولوجيا المذهبية في اليمن ، فذلك لن يخدم سوى حضور ايران لان المشروع الايراني في المنطقة يقوم على سياسة سحب المجتمع العربي ثقافيا وسياسياً واجتماعيا إلى عصر ما قبل الدولة الوطنية ، عصر الصراعات المذهبية والطائفية ، والذي يتم بموجبه تفكيك الدولة الوطنية أو القضاء على فرص بناءها ، ليكون حضورها سهلاً ومبرراً ، كما هو الحال في العراق بعد سقوط الدولة، فقد نجحت في سحب المجتمع ثقافيا واجتماعياً الى عصر ما قبل الدولة في العراق فكانت النتيجة سيطرت ايران على القرار السيادي والوطني في العراق.
على التحالف ( السعوديه الامارات ) أن يدرك أن توقيف الحضور الايراني بشكل صحيح في المنطقة مرتبط بخوض التحالف معركة جادة تقوم سياسياً على أدوات ومفاهيم وطنية الهدف منها بناء الدولة الوطنية داخل الفضاء العربي بمشروع سياسي يقوم على قيم الحرية والعدالة والإرادة الشعبية ، وعلى إحياء القومية العربية كهوية جامعة تشكل سياج يحمي شعوب المنطقة من الاختراقات والاجندات التي تمثل أطماع سياسية للقوميات المجاورة فارسية تركية ، وهذا يعني انه يتوجب على التحالف حشد كل القوى الوطنية في اليمن وغيرها تحت هذه الاهداف الوطنية، وليس إفتعال الصراع مع بعض القوى كما هو الحال مع احزاب الإسلام السياسي ، وبشكل يجبرهم إلى الإحتماء بالآخر ، ليجد هذا الآخر مبرر حضوره في المنطقة العربية من تلك النوافذ التي تفتحها تلك السياسات البلهاء تاريخياً والتي تؤكد حتى اليوم أن دول التحالف مع كل هذه النتائج الكارثية مازالت تعادي فكرة الدولة الوطنية في اليمن ناهيك عن الدولة المدنية .
23/9/2017