المواطن/ كتابات ـ فهمي محمد
شخصيا تمنيت كثيراً ان تنتهي الحرب والتقي مجدداً بالصديق العزيز والسياسي المثقف محمد الصبري، بل كنت في ذلك متفائلاً لحد اليقين ربما لاني لم اكن اعلم ان هذا المناضل الكبير يصارع مرض عضال، ناهيك عن أن هذا السياسي الزاهد بمعدنه الذي اعرفه، كان اكبر من ان يشتكي او يستجدي احد في محنتة مع المرضً كما انه لم يكن يرغب حتى في الإيحاء لمن يكتب عنه او يخبر حكومته الرشيدة بمحنته مع مرض كهذا لينال أدنى حقوقه المشروعة في الرعاية الطبية والاهتمام بعد نضال طويل قدمه من اجل المستقبل في اليمن !
رحل الصبري بكل هدوء ورحلت معه حمولته السياسية والثقافية في الزمن الذي أصبحنا فيه بحاجة ماسة لبقاء امثاله وعطائهم لاسيما في معركة التأسيس لمفهوم الوطن والدولة التي يخوضها اليمنيون منذ ثورة 11/ فبراير 2011/ م وحتى اليوم، فمن على شاكلته من الساسة وحدهم دون شك، مؤهلين وقادرين على ان ينيروا مسار النضال الوطني بفعلهم السياسي والثقافي .
عندما بدأت تطلعاتي للعمل السياسي لم اكن قد عرفت الاستاذ محمد الصبري الذي، غادر قريتنا مبكراً للدراسة في جامعة صنعاء قسم العلوم السياسية، فقط كانت الاخبار تتحدث في مناسبة أو في اخرى عن هذا الشاب المثقف والنهم، الذي يعتزل كل يوم متعة المقيل والزملاء من بعد العصر وحتى منتصف اليل ويخلو منفرداً مع خير جليس في الزمان = الـ كتابُ، وقد نادم هذا الجليس الخير صاحبنا الراحل في غرفته الكائنة في شارع هائل طول فترة دراسته الجامعية وحتى بعد ان اصبح موظف في جامعة صنعاء، وهي الفترة التي انتهت مع انعقاد المؤتمر الحزبي للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري الذي سطع فيه نجمه كسياسي ومتكلم وقيادي صاعد بقوة الثقافة الي الأمانة العامة للتنظيم الناصري، يومها كان المنصب السياسي هو من اتى الى غرفة الصبري وتلك حكاية سمعتها من احد شباب التنظيم قبل سنوات وهو يخبرني عن جهود الشباب الذين ذهبوا لإقناع الصبري الى سكنه كي يقبل تولي القيادة الحزبية في المرحلة القادمة.
هذا التخصيص لا يعني ان فقيدنا لم يقرأ من قبل أو ان القيادة السياسية شغلته عن الكتاب بعد تولي منصبها، بل يعني ان تلك الفترة على وجه الخصوص مثلت زمن الفعل الثقافي والنضوج الفكري للأستاذ محمد الصبري، وهذا ما جعله يمارس القيادة السياسية والحزبية في صفوف المعارضة بوعي سياسي، ويمارس السياسية بفعل ثقافي، بمعنى آخر كان قائداً سياسياً محنكاً يقف بأقدامه النحيلة على ارضية ثقافية ومعرفيه، وبين الميزتين كان الصبري دوماً لا يكل من جلسات الحوار الطويل كما أنه في نفس الوقت يُحسن الإستماع اليك أثناء حديثك معه ، وحتى حين تقسو عليه في نقاشك وجدلك تزداد مساحة الإبتسامة على وجه، وكأنه سعيد بهذا التفاعل السياسي، لاسيما حين يأتي من شاب متحمس، وفي المقابل عندما يقنعك بفكرته ومن خلال تجربته النضالية لا تشعر انه يدعي المعرفة عليك، او انه يصادر حقك في الكلام، بل يمنحك الثقة الكاملة بأفكارك ونقاشك، ذلك ما عرفته شخصياً عن الاستاذ محمد الصبري في مناسبات عديده كان اخرها اسبوع من النقاش المطول أستغليت فيه تواجد هذا السياسي في القرية بمناسبة زواج ابنه عبدالعزيز بعد سقوط العاصمة صنعاء.
بعد مشوار سياسي طويل في سبيل التغيير في اليمن، قدم محمد الصبري نموذجاً محترماً لدور السياسي المثقف وللمناضل الزاهد الذي لا يستثمر مطلقاً في السياسية، ولا يتاجر بالمواقف الوطنية، وعندما رحل عنا وجدناه لا يملك فلة ولا ارضية ولا حتى مال او تأمين مستقبل الأولاد بالوظيفة العامة كما يفعل جلّ السياسين، كل ما تركه هذا القائد السياسي لاسرته مكتبة ثقافية وموقف سياسي يحسد عليه، واكثر من ذلك حتى قليل من تراب الوطن الذي ناضل من اجله لم يتوسد به في قبره!
انه نضال العظماء الذين يربون بأنفسهم عن أخذ الفتات مقابل نضالاتهم السياسية في سبيل مستقبل الشعوب، أو أنها الفضيلة التي تحدث عنها فلاسفة اليونان قبل الميلاد حين كانوا يصفون بها كل مهتم بالشؤون السياسية العامة على حساب شؤون أسرته وحاجاتهم وقد بالغ الأستاذ/ محمد الصبري، في ذلك.