المواطن/ متابعات
تقدّم تركيا وجهين في تعاملها مع الحرب ضدّ الإرهاب وتحديدا ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية؛ فهي من جهة عضو التحالف الدولي ضدّ الإرهاب، ومن جهة أخرى ممول رئيسي لهذا التنظيم وأراضيها تعتبر المعبر الرئيس لمده بالمقاتلين والإمدادات الطبية والغذائية. وفتحت مستشفياتها لعلاج جرحاه؛ كما أنها تشتري منه النفط السوري.
في أكتوبر 2019، شنّت قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) غارة جوية أسفرت عن مقتل زعيم التنظيم، أبوبكر البغدادي. تمت العملية في شمال غرب سوريا على مسافة تقل عن ثلاثة أميال من الحدود التركية. وكان لافتا أن قاعدة الانطلاق كانت العراق لا تركيا، حيث يملك حلف الناتو قاعدة انجرليك وعناصر قريبة من الحدود السورية التركية.
غذّى هذا الأمر الروايات التي تؤكد تمتع البغدادي بالحماية التركية وباعتباره ذراعا “عسكرية” لأردوغان لتحقيق أحلامه التوسعية واستعادة أراض يعتبرها تابعة للدولة العثمانية. وقوّى التقارير التي توثّق تفاصيل علاقة متينة بين الاستخبارات التركية وتنظيم داعش، ودور الحكومة التركية في تسهيل دخول وإيواء قيادات وعناصر من التنظيم لتقديم العلاج أو تسليحهم وتهريبهم عبر الحدود للقتال في سوريا والعراق، أو السفر إلى أوروبا.
وتدحض العشرات من التقارير الاستخباراتية واعترافات مقاتلين في داعش اعتقلتهم قوات سوريا الديمقراطية، محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفي تلك العلاقة من خلال حملة الاعتقالات الأخيرة التي أعلن عنها إثر مقتل البغدادي، أو من خلال تصريحاته المؤيدة للحرب على الإرهاب كقوله إن “تركيا أظهرت للعالم أجمع كم كان تنظيم داعش الإرهابي أجوف رغم تصويره لسنوات عديدة على أنه وحش لا يقهر”، وأن “تركيا كانت أول دولة كسرت شوكة داعش”.
تركيا وقطر تدعمان النصرة
في أحدث سلسلة من الفضائح التي تلاحق أجهزة المخابرات في تركيا وقطر، نشر موقع نورديك مونيتور، السويدي المتخصص في الشؤون المخابراتية، تقريرين أشار فيهما إلى أنّ وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية ذكرت في تقرير سرّي، بتاريخ يونيو 2016، أن تركيا وقطر دعمتا جبهة النصرة.
وكشفت الوثيقة التنسيق المتبادل بين المخابرات التركية والجماعات المتطرّفة في سوريا، وبخاصة تنظيم داعش، وجبهة النصرة. احتوت الوثيقة على سرد مفصّل لحالة المقاتلين الرئيسيين في سوريا مع جبهة النصرة التي تضم ما يصل إلى 10.400 مقاتل.
وأشار تقرير موقع نورديك مونيتور إلى أن النصرة حافظت على توريد المعدات وشبكة تسهيل قوية للحفاظ على الإمدادات والذخيرة وتدفقات الأسلحة. ولفت الانتباه إلى تعاونها مع جماعات المعارضة وكيف تكيّفت مع تحديات المشاركة في المعارك الرئيسية ضد النظام السوري.
لكن الوثيقة لفتت إلى أن العلاقة الأوثق كانت بين تركيا وداعش. وتؤكد هذه الوثيقة ما جاء في تقرير سابق لأجهزة الاستخبارات الهولندية كشف عن استخدام داعش الأراضي التركية كقاعدة إستراتيجية لتدريب عناصره، بالإضافة إلى عبور الآلاف من التابعين لداعش إلى سوريا وأوروبا.
ومن بين التفاصيل المذكورة أن عناصر من جهاز المخابرات التركية كانت تجتمع مع داعش بشكل دوري، ويتم خلال اللقاء نقل توصيات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التنظيم. وأكّدت تقارير عديدة هذه التفاصيل. لكن اللافت في الوثيقة التي نشرها موقع نورديك مونيتور هو خارطة الانتشار الجغرافي لداعش في شمال غرب سوريا، والذي كان يتم بمتابعة تركية دقيقة.
مرج دابق
كانت وكالة الاستخبارات التركية على علم بمواقع جميع القرى والمدن التي يسيطر عليها داعش في شمال غرب سوريا. وتاريخيا، ترتبط هذه المنطقة بمعركة مرج دابق، وهي المعركة التي وقعت قبل خمسة قرون، وسطّرت بداية هيمنة العثمانيين على المنطقة العربية، إثر هزمهم لدولة المماليك.
جرت وقائع معركة مرج دابق على مقربة من البلدة التي تحمل اسمها وتقع على بعد حوالي 10 كيلومترات جنوب الحدود السورية مع تركيا. وكتب أخيليش بيلالاماري -وهو محلل في العلاقات الدولية- عن منطقة شمال غرب سوريا قائلا إنها شهدت العديد من المعارك وتكمن أهميتها في أنها تقع على الطريق البري الأكثر عبورا بين تركيا وأوروبا من ناحية، وبلاد الشام ومصر وبلاد الرافدين من ناحية أخرى.
وتوضح الوثيقة، التي استندت إليها وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية، أن المخابرات التركية كانت لديها معلومات مفصلة حول وجود داعش في القرى والمدن في هذه المنطقة وكذلك قامت برسم خارطة السكان وصنفتهم على أساس العرق.
وتبين خارطة التوزيع الجغرافي والعرقي لسوريا أن معظم المدن والقرى التي كانت تخضع لسيطرة داعش مأهولة بالتركمان والعرب والسوريين من أصول تركية. وكانت كل مدينة تحمل خصوصية بالنسبة إلى التنظيم؛ فعلى سبيل المثال، في اخترين احتفظ داعش بالأسلحة الثقيلة والعربات المدرعة في مستودع للحبوب. ووُصفت مدينة الباب، التي يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة، بأنها أهم مركز لداعش بعد الرقة ومنبج. كانت المدينة تحت سيطرة مجموعات داعش من التونسيين والمصريين والليبيين. واحتفظ التنظيم بمخازن الذخيرة الرئيسية في كهوف تقع شرق المدينة. وأعاد توجيه الإمدادات إلى خطوط المعارك الأمامية من هناك.
واعتبرت مدينة الراعي، ثاني أهم مركز لداعش بعد الباب. وكانت المدينة بمثابة مكان لجمع وإعادة نشر المقاتلين الأجانب الذين أتوا إلى سوريا للانضمام إلى داعش. وركّز طريق التهريب -على طول مدينة الراعي وقرية البيلي التركية على وجه الخصوص- على القرى التركية المعروفة باسم علي المنطار وكانجالي.
وكانت قرية عياسة التركمانية، بالقرب من الحدود التركية، مهجورة تقريبا باستثناء بعض المدنيين المسنين. واستولى مسلحو داعش على مسجد واتخذوه مأوى، وأقاموا ثلاثة مواقع استيطانية وشاركوا في أنشطة تهريب مكثفة من تلك القرية.
وتم وصف مدينة إتمالات العربية بأنها مرتع لنشاط تجنيد داعش. وينتمي كل من أمير التنظيم في قرية الراعي، بسام ديبو الكمال، ومأمور سجن داعش، عبدالله ديبو الكمال، والأمير العام لداعش بشمال سوريا، عبدالكريم هلال (المعروف أيضا باسم أبوشاه) إلى قرية إتمالات. وقام تنظيم داعش بنشر دبابات إلى الغرب من القرية ووضع مركبة محملة بالمتفجرات عند المدخل الجنوبي الغربي مقابل مدرسة.
واستضافت مدينة منبج، التي يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، حوالي 1000 عنصر من عناصر داعش وكانت بمثابة مركز لجمع وتوزيع مقاتلي داعش أيضا. كما وقعت قرية دلها التركمانية التي تقع بالقرب من الحدود التركية تحت سيطرة داعش، وتم تجهيز المباني في القرية بمدافع رشاشة ثقيلة (12.7 ملم) يصل مداها إلى كيلومترين. وأوت قرية مولا يعقوب، التركمانية التي يسكنها 500 شخص، مقاتلين من داعش. وكانت مدينة مريغل التركمانية، التي يبلغ عدد سكانها 2000 نسمة بمثابة مكان لعلاج مقاتلي داعش الجرحى. وتم إدراج قرية النهضة، التي تقع على بعد حوالي خمسة كيلومترات من الحدود التركية ويبلغ عدد سكانها 2000 تركي، ضمن أراضي داعش. وفي قرية حزال مزرة، استخدم داعش السكان المدنيين كدرع ضد الضربات الجوية للتحالف بقيادة الولايات المتحدة.
غطاء التمويل
يشير المحققون إلى أن المخابرات التركية استخدمت العديد من المنظمات غير الحكومية كغطاء لتمويل التنظيمات الجهادية، بما في ذلك مؤسسة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية (إنسان) لإخفاء الشحنات غير القانونية للمقاتلين المتطرفين في سوريا.
وتذكر التقارير أسماء ثلاثة أشخاص من الذين حددتهم الشرطة كشركاء لإبراهيم ش -وهو إبراهيم ش في سوريا، وهو إرهابي مدان من تنظيم القاعدة، قامت بتجنيده المخابرات التركية- في تهريب البضائع إلى سوريا هم عمر فاروق أكسيبزي (الذي عمل خارج فرع منظمة IHH Kayseri)، ورجب جامدلي (عضو في منظمة IHH في فرع قيصري)، وإبراهيم حليل إيلي (الذي عمل خارج فرع كيليس لمنظمة IHH). وأظهرت محاضر التنصت على المكالمات الهاتفية بين إبراهيم ش وهؤلاء العملاء كيف خططوا لاستخدام سيارات الإسعاف لنقل البضائع إلى المقاتلين المتطرفين عندما منع المحافظ شاحنات بيك آب من العبور إلى سوريا.
العشرات من التحقيقات الدولية تكشف أن أنقرة استخدمت المنظمات غير الحكومية وحملات الإغاثة الإنسانية لنقل الأسلحة وكل ما يحتاجه تنظيم داعش من أدوية وغذاء ومعدات بإشراف الاستخبارات التركية
وجاءت المعلومات التي وثقها موقع نورديك مونيتور متوافقة مع اعترافات مقاتلين في تنظيم داعش اعتقلتهم قوات سوريا الديمقراطية. من هذه الشهادات ما قاله القيادي الداعشي أسامة عويد الصالح، الذي اعتقلته قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور.
تحدث عويد الصالح عن تجارة النفط وكيف كانوا يقومون بنقل الذهب والآثار التاريخية، التي يجلبونها من الموصل، إلى داخل تركيا عبر إدلب. وتحدث عن زيارات البغدادي إلى تركيا، وكيف كان زعيم داعش الذي لقي حتفه في غارة أميركية في أكتوبر 2019، يتحرك تحت غطاء كامل من الحماية، وفرته له أنقرة.
عقوبات أميركية
كان أحمد سعيد يايلا، الأكاديمي التركي الذي سبق أن شغل منصب مدير دائرة مكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية التركية للمدة بين 2010 و2014 وقبل ذلك عمل لمدة 20 عاما في مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية التركية، أكّد أن الحكومة التركية نقلت إمدادات عسكرية إلى داعش عبر وكالة مساعدات إنسانية تابعة لها، وأن جنود داعش، بما في ذلك الشخص الثاني في المنظمة، فضل أحمد الحيالي، يتلقون العلاج الطبي المجاني في تركيا.
وتحدث يايلا عن أن زعيم داعش في تركيا، حليس بيانكوك، هو ابن مؤسس حزب الله التركي، الذي يحظى بحماية بناء على أوامر من الرئيس أردوغان. وكشف يايلا أن أجهزة الاستخبارات التركية هي التي كانت تشرف على نقل مقاتلي داعش إلى داخل الأراضي السورية.
وكتب الصحافي التركي جنكيز كاندار أن وكالة الاستخبارات التركية ساعدت على تقوية تنظيم داعش؛ ففي عام 2012، قدّمت تركيا السلاح والدعم اللوجستي للجهاديين الذين يقاتلون ضد النظام السوري ومن أجل إجهاض ظهور إقليم كردستان مستقل في سوريا، لأن نجاح أكراد سوريا، ستكون له تداعياته على القضية الكردية في تركيا.
واستشهدت صحيفة “ذا ناشيونال” بمناقشات مسؤولين في المخابرات العراقية لتأكيد سفر أحد إخوة البغدادي إلى إسطنبول عدة مرات منذ نهاية سنة 2018، مما عقّد الأمور أكثر بالنسبة إلى أردوغان. كما تظهر تسميات وزارة الخزانة الأميركية لممولي داعش في تركيا أن البلاد تساهلت مع الجهاديين.
وفي شهر نوفمبر 2019، سلطت واشنطن عقوبات على 5 كيانات و4 شخصيات، أغلبها متمركزة في تركيا، بسبب دعم وتمويل تنظيم داعش. وذكرت الخزانة الأميركية في بيان أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في الوزارة فرض عقوبات على تلك الكيانات لتقديمها “دعما ماليا ولوجيستيا حيويا” لتنظيم داعش.
وقال وزير الخزانة ستيفن منوشين “في أعقاب عملية اغتيال البغدادي الناجحة، فإن إدارة دونالد ترامب مصممة على تدمير ما تبقى من خلايا شبكة داعش الإرهابية”. وأضاف “تساهم وزارة الخزانة في هذا الجهد بعدة طرق، بما في ذلك إضعاف قدرة داعش على تجنيد وتسليح المقاتلين في جميع أنحاء العالم من خلال القضاء على موارده المالية”.
ويوضح التصنيف الأميركي الصورة الرمادية في العلاقة بين تركيا وداعش. الأمر الذي سارعت الماكينة الإعلامية والسياسية للنظام التركي لإخفاءه.
وقال مدير الاتصالات في الرئاسة التركية إن الدعاية التي شنت ضد تركيا صممت لإثارة الشكوك حول خطط البلاد المتعلقة بتنظيم داعش.
وصنف أيكان أردمير، المحلل في مؤسسات الدفاع عن الديمقراطيات، تصريح المسؤول التركي ضمن حملة إعلامية لمعالجة صورة أردوغان المشوهة، مضيفا أن الحكومة التركية سعت إلى أن تظهر في صورة البلاد المستعدة للقبض على عناصر داعش.
وفعلا أعلنت أنقرة عن مجموعة من الاعتقالات. ففي 4 نوفمبر، أعلن المسؤولون الأتراك أنهم أسروا شقيقة البغدادي، رسمية عوض، مع زوجها وزوجة ابنها وخمسة أطفال في مقطورة بالقرب من مدينة أعزاز شمال غرب سوريا، والتي كانت تحت سيطرة تركيا منذ سبتمبر 2016.
في اليوم التالي، أبلغت قوات الأمن التركية عن اعتقال خمسة مقاتلين بما في ذلك مدير الاستخبارات، في عمليات متعددة شملت البلدات التي تديرها البلاد في سوريا بالقرب من حدودها. وفي 6 نوفمبر، كشف أردوغان أن تركيا تحتجز أولى زوجات البغدادي الأربع، وهي أسماء فوزي محمد القبيسي، مع ابنته ليلى جابر منذ اعتقالهما في 2 يونيو 2018 في مقاطعة هاتاي.
وبينما كان يروي قصص نجاحه ضد تنظيم داعش على مدى ثلاثة أيام متتالية، طرحت أسئلة عن هذا التوقيت بالذات وعما كان يفعله أفراد عائلة البغدادي في تركيا، إذا لم تكن أساسا ملاذا آمنا لهم؟ كما تساءل كثيرون: هل باع أردوغان عائلة البغدادي بعد مقتله؟