المواطن/ كتابات – فهمي محمد
وتتمثل تلك المعطيات السياسية غير المرغوب بها ثانياً :- بوجود مرجعيات سياسية قانونية وحدوية ملزمة للحزبين الحاكمين في دولة الوحدة = { 1- الدستور 2- إعلان قيام الجمهورية اليمنية وتنظيم الفترة الإنتقالية 3- كذلك الإتفاق الذي ألزم الحزبين الحاكمين خلال الفترة الإنتقالية بالأخذ مؤقتاً بمعيار الأفضلية القانونية والإدارية في عمل الوزارات والمؤسسات الذي كان معمول به قبل الوحدة في صنعاء وعدن حتى صدور قوانين ولوائح جديدة ناظمة خلال الفترة الإنتقالية تلغي ما كان معمول به من قوانين ولوائح في تجربة الشطرين } لا سيما وأن الفترة الإنتقالية كانت معنية بدرجة رئيسية بموجب إعلان دولة الوحدة بمهام بناء الدولة الوطنية وكذلك إنجاز مهام الإصلاح السياسي والإقتصادي الشامل الذي كان يفترض حدوثه قبل إعلان دولة الوحدة ، ما يعني أن القبول الفعلي بتلك المرجعيات الوحدوية والإلتزام بتطبيقها بل السماح لها بعملية التموضع السياسي والقانوني خلال الفترة الإنتقالية كان بلا شك سيؤدي إلى بناء الدولة الوطنية في ظل الجمهورية اليمنية ، كما أن الدولة الوطنية بمنطق تلك المحددات الملزمة في المرجعيات السياسية الوحدوية لا تعني سوى تكريس حضور الجنوب شريكاً وليس منضماً.
صحيح أن الدولة الوطنية في حال قيامها في يمن ما بعد الوحدة ، كانت ستعمل على إلغاء المسميات التشطيرية من الذاكرة الوطنية { شمال وجنوب } لكنها فيما هو أهم من ذلك على المستوى الوطني ستجعل من المكون الإنساني في الجنوب اليمني شريك في صنع القرار السياسي والسيادي في ظل دولة الوحدة وليس شريك في شغل الوظيفة السياسية والإدارية فقط ( وإن كثُرت مواقعها في جهاز السلطة ) كما أريد للجنوب أن يكون شريكاً في ظل دولة الوحدة اليمنية ، لا سيما وأن الحضور السياسي الندي للمكون الإنساني بالنسبة للجنوب في صنع القرار السياسي والسيادي أو الحضور في شغل الوظيفة السياسية والإدارية العامة في دولة الوحدة كان منذ العام الأول للوحدة قد شكل أحد أهم النقاط الخلافية الجوهرية الخفية بين الحزبين الحاكمين في دولة الوحدة .
العمل على تحديد سقف هذا الحضور والمشاركة المقتصرة على شغل الوظيفة السياسية والإدارية للجنوب في دولة الوحدة ، ارتبط فعلياً منذ البداية بسوء النوايا لدى التحالف الرباعي الحاكم في صنعاء ، ثم تحول بعد ذلك إلى ممارسات سياسية وخطاب ديني موجه خلال الفترة الإنتقالية ، وبعدها تحول إلى توجه دستوري وقانوني صريح على إثر نتائج الإنتخابات البرلمانية الأولى التي جرت في 1993م، ثم تحقق هذا السقف بقوة السلاح والفتوى الدينية على إثر حرب 1994م، التي لم تتوقف إعتمالاتها العسكرية والسياسية وحتى الأخلاقية عند حدود إقصاء المكون السياسي والشريك في دولة الوحدة اليمنية = { الحزب الاشتراكي اليمني } بل ذهبت إلى استهداف المكون الجنوبي أرضاً وانساناً كما سيتم توضيحه لاحقاً أثناء الحديث عن مشكل الإنقلاب الأول على مشروع الدولة الوطنية في يمن ما بعد الوحدة = { حرب صيف 1994 }
صحيح أنه بناءً على تلك المرجعيات السياسية الوحدوية الملزمة ، قد صدر خلال الفترة الإنتقالية ما يقارب من 200 قانون في ظل دولة الوحدة إلا أن تلك القوانين من حيث النجاعة والتأثير في المسار العام ، ظلت من جهة أولى محشورة داخل بعدها القانوني المجرد فقط ومن جهة ثانية كان الإلتزام بتطبيق هذه القوانين حاضراً في بعض محافظات الجمهورية اليمنية ، فالدولة فشلت في بسط سلطانها السياسي والقانوني على كامل التراب الوطني في يمن ما بعد الوحدة ، لكون القبيلة السياسية ظلت تمارس دورها التاريخي والوظيفي داخل الوسط الإجتماعي في العديد من المحافظات الشمالية حتى اليوم ، أما فيما يتعلق بتفعيل البعد السياسي والوطني لهذه القوانين الصادرة في ظل دولة الوحدة فقد ظل محل إعتراض وتنصل خلال الفترة الإنتقالية وما بعدها من داخل السلطة الخاضعة يومها للعصبية القبلية المركزية أكثر مما هو من خارج السلطة ، فالقبيلة السياسية في الشمال ومن خلال تجربتها في معترك الصراع السياسي الطويل منذ ثورة 26 سبتمبر وحتى يوم إعلان الوحدة أصبحت تدرك خلال الفترة الإنتقالية ماذا يعني السماح لعملية التموضع السياسي والوطني المتعلق بالدساتير والقوانين النافذة ، وتلك أحد المشكلات الكبرى التي كانت ومازالت قائمة حتى اليوم في طريق بناء الدولة الوطنية في يمن التشطير وفي يمن الوحدة = { إعاقة تفعيل العمل بالبعد السياسي والوطني للدستور والقوانين الصادرة } .
فيما يتعلق بمسألة بناء الدولة الوطنية في أي مجتمع ، فإن نجاعة الدساتير والقوانين وحتى المرجعيات السياسية الملزمة التي نحن بصدد الحديث عنها لا تقاس ببعدها القانوني فحسب ( ما يتعلق بتنظيم العلاقة الفردية وحتى المساواة أمام القانون ) بل بما هو أهم من ذلك وهو تفعيل بعدها السياسي والوطني المتعلق بفكرة الدولة نفسها لكون تفعيل هذه الأبعاد على المستوى الفوقي تشكل حالة ناظمة لعمل المؤسسات الحكومية={ المدنية والعسكرية} ولدورها السياسي على المستوى الوطني ، وكذلك للحاكمين المعنيين في صنع القرار من داخل هذه المؤسسات الحكومية ، على إعتبار أن هؤلاء يظلون في المقام الأول قادة سياسيين ورجالات دولة أكثر من كونهم موظفين إداريين ، بمعنى آخر إذا كانت الدولة كفكرة سياسية قد ظهرت يوم أن تحولت السلطة إلى مؤسسة معنية بتطبيق النظام والقانون على عموم الأفراد ، بحيث أصبح هؤلاء يشعرون بأنهم يطيعون سلطة عليا وليس أشخاص بحد ذاتهم ، فإن الدولة الوطنية في كثيراً من مظاهرها قد تحققت في مرحلة لاحقة بناء على تفعيل البعد السياسي والوطني للقانون والدستور بحيث أصبحت المؤسسات الحكومية في الدولة وحتى الحاكمين فيها يؤدون دوراً سياسياً محكموم بالفكرة الوطنية وبالمشروع الوطني ={ الولاء لفكرة الدولة} ما يعني في النتيجة المتعلقة بصلب الحديث عن موضوعنا ، أن تفعيل البعد السياسي والوطني للمرجعيات الوحدوية والقوانين الصادرة خلال الفترة الإنتقالية كان يعني من جهة أولى تحرير مؤسسات الدولة من أي هيمنة سياسية حزبية={ فض حالة الاشتباك القائمة بين دولة الوحدة ومقدرتها وبين الحزبين الحاكمين } وذلك بحد ذاته كان مرفوض من قبل المؤتمر الشعبي العام الذي دخل في تحالف مع حزب الإصلاح لكون الحزبين يومها وتحديداً المؤتمر كانوا يسيطرون على جهاز الدولة في المناطق الشمالية الأكثر كثافة سكانية والأكثر دوائر إنتخابية مقارنة بالمناطق الجنوبية قليلة السكان والدوائر الإنتخابية ( 50 دائرة في الجنوب مقابل 251 دائرة في الشمال ) وهذا الفارق في عدد الدوائر الإنتخابية له معنى في مخرجات العملية الإنتخابية المرتقبة لا سيما في حال بقاء الإشتباك قائم بين جهاز الدولة ومؤسساتها وبين الحزبين الحاكمين ، ومن جهة ثانية كان تفعيل البعد السياسي والوطني للمرجعيات السياسية والقانونية يعني بناء الدولة الوطنية على عصبية سياسية وطنية ما يعني إلغاء العصبية القبلية المركزية المتأصلة في جهاز السلطة في المناطق الشمالية ، ناهيك عن بناء مؤسسة الجيش في دولة الوحدة وفق أسس وطنية مهنية وهذا ما كانت ترفضه القبلية السياسية التى كانت يومها تشكل هوية إنتماء وولاء للقيادة العسكرية المسيطرة على المؤسسة العسكرية في الشمال.