المواطن/ كتابات _ فهمي محمد
كل الحروب الثورية لها غاية وأهداف نبيلة تبرر فعلها، وحجم التضحيات المقدمة في سبيلها، وأي خروج عن هذه الغاية أو الأهداف يحول فعل الحرب إلى عمل عبثي كما يحول التضحيات الجسام إلى ضرب من ضروب الإنتحار الكارثي، أو تصبح هذه الحرب في أدنى الأحوال مجرد ضحك على ذقون من سقطوا شهداء وجرحى خلالها كما هو حال الحروب العبثية التي تتكفل بتدمير البلدان لكنها تعجز في كل الأحوال عن إنتاج شروط التحويل التاريخي كصيرورة نحو التقدم .
مشكلة الحرب الثورية لا تكمن في اتخاذها خيار العمل المسلح ، بقدر ما تجد إشكاليتها في كثير من التجارب لاسيما في ــ اليمن ــ تتعلق بسؤال قد يقلب المعنى رأساً على عقب حين يتعلق السؤال بالقوة المؤهلة أو حتى بالقادة المؤهلين سياسياً وأخلاقياً وإنسانيًا ووطنيياً؛ للقبض على زناد البندقية في الحرب الثورية، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي في الأساس بندقية ثائرة بيد الوطنيين الشرفاء والمخلصين المؤمنين بفكرة تغيير التوجه وليس بفكرة تغيير الوجوه ، وهم بهذا الإيمان قد يُجبرون في منعطفات تاريخية على خوض معارك الأوطان و مواجهة القوى المُمانعة لفعل التغيير والتقدم بعمل مسلح .
مجرد التفكير في الإجابة عن هكذا سؤال إشكالي بلاشك سوف يوسع الدائرة في مخيلتنا وبشكل يجعلنا امام تساؤلات آخرى أكثر شمولية في موضوع الحرب الثورية وهو تقول : هنا هل للحرب الثورية شروط جوهرية ومعطيات سياسية تشكل أطر ناظمة ودائمة لها ؟
وهل تمارس في نفس الوقت شيئاً من التحكمية الثورية والوطنية على فعلها المسلح ؟
بمعنى آخر هل يكفي مجرد الوقوف وحتى الإستشهاد في وجه القوى الممانعة أو حتى الإنقلابية حتى نكون في صدد حرب ثورية أو حرب مشروعة تبرر فعل العنف وحجم التضحيات المقدمة سياسيا وأخلاقياً ووطنيياً ؟
في كل الأحوال لستُ بصدد تقديم إجابات عن هكذا أسئلة كبيرة ، كما أنني لم اقرأ حتى اليوم مادة تتعلق بالحروب الثورية من زاوية تكيفها بناءً على معطيات سياسية وقانونية أو حتى أخلاقية؛ لكني هنا أحاول أن أكتب أفكارًا تقلقني بخصوص ذلك على ضوء ما يجري وما يُمارس في الحرب اليمنية إذا ماتم مقارنتها على تجارب أخرى ، لاسيما حين يطول ــ أمد الحرب ــ وتصبح دون أفق سياسي أو أن الحرب تفتح نوافذ للحديث عن جدواها أو عن كونها عبثية أم لا .
الحرب في الأساس فكرة سيئة، وإن شئت فقل فكرة شيطانية لا تمت للإنسانية بصلة؛ لكنها قد تكون خياراً وحيد أمام من لا يؤمنون بها فهؤلاء يُجبرون على خوض الحروب حتى لا يتحولون إلى عبيد أو يعيشون بدون كرامة في أوطانهم ، ذلك ما نجده في خطاب تشرشل رئيس الوزراء البريطاني عشية الحرب العالمية الثانية حين قال مصارحاً شعبه الذي ظل حابساً أنفاسه يترقب عودة رئيس وزرائه حاملاً غصن الزيتون؛ لكن هذا الأخير لم يكن أمامه سوى مصارحة شعبه بالقول : ( ليس لكم عندي غير الدم والدموع فقاتلوا في كل مكان …!)
هذا الخطاب التاريخي لم يكن دعوةً للحرب بقدر ما كان دعوةً للقيم الوطنية والإنسانية في منعطف تاريخي من أجل ممارسة خيارها الوحيد في مواجهة جنون هتلر وفكره النازي الذي كَلفَ البشرية يومها “خمسين مليون قتيل” .
في جانب آخر قد تكون الحرب أو حتى اتخاذ القرار في ممارسة العنف والعمل المسلح ، ليس الخيار الوحيد المفروض على من لا يرغب فيه كما هو خيار تشرشل؛ لكنه قد يكون في سياقات أخرى أو ظروف، هو الخيار المناسب لرفع الظلم عن شعب ما أو عن جماعة مظلومة عند من يرغب فيه كما هو في فلسفة رجل السلام والتسامح مع الآخر ، بل والمناضل الأسطوري والتأريخي والإنساني في سبيل الحرية والكرامة ” نيلسون مانديلا ”
فبعد أن استنفذ حزب المؤتمر الوطني كل خياراته السلمية في مواجهة نظام التفرقة العنصرية دون جدوى؛ وقف مانديلا يومها في وجه القيادات التاريخية للحزب ثم قال بكل شجاعة : ” الظالم هو من يحدد وسيلة نضال المظلوم ”
فالمناضل الإنساني الذي استحق جائزة نوبل للسلام عن جدارة واستحقاق هو نفسه الذي أقنع حزبه بتبني خيار الحرب والكفاح المسلح في سبيل تغيير واقع الظلم والتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا !!
صحيح تم إسقاط نظام التفرقة العنصرية بعد أن بارك الحزب مقترح مانديلا وتم تأسيس منظمة ( أوميكا ) العسكرية والتي تعني “رمح الأمة”؛ لكن المفارقة أن هذا المناضل لم يجعل من سقوط نظام التفرقة العنصرية بقوة السلاح انتصارًا للمواطن الأسود على الأبيض او انتصار للمظلوم على الظالم، بقدر ما جعل من هذا السقوط انتصار للمسألة الوطنية؛ فالفعل المسلح في فلسفة هذا المناضل لم يكن هدفه هزيمة الرجل الأبيض، بقدر ما كان هدفه تحويل هذا الأخير إلى إنسان يؤمن بإنسانية الآخر؛ بمعنى آخر خيار العنف الذي اتخذه مانديلا بناءً على قاعدة ” الظالم هو من يحدد وسيلة نضال المظلوم ” كان خيار واعٍ للقضية الوطنية وملتزم بالهدف النبيل؛ لذلك لم تدمر جنوب أفريقيا في حربها الثورية رغم الدعم الخارجي لطرفي الصراع ، فكل ما حدث أن البندقية الثائرة استعادت الحرية والكرامة والمواطنة المفقودة لدى الأغلبية السوداء وفي المقابل اُستُعِيدت قيم الإنسانية المفقودة لدى الأقلية البيضاء ، من هذه الثنائية تحولت بلاد التفرقة العنصرية إلى وطن لا يخضع لمقاييس اللون والرائحة ، والسبب في ذلك يعود لشرطين جوهريين في الحروب الثورية هما : الأول : –
أن فعل العنف كان مؤطراً بمنطق المشروع الثوري الإنساني “تأطيرًا” غير قابل للإنحراف .
والثاني : –
أن زناد البندقية كان بيد قيادة مؤهلة سياسيًا ووطنيياً وحتى أخلاقياً لخوض هذه الحرب المشروعة .