المواطن / كتابات _ فهمي محمد
الحروب بشكل عام تظل هي الكارثة؛ لكن المفارقة أن الوطنيين وحتى عشاق الحرية والسلام يضطرون في منعطفات تأريخية وظروف معينة؛ لخوض نوع من الحروب المشروعة وهم بهذا الخيار يمارسون سبيلهم الوحيد في معاركهم المصيرية من أجل إنتاج شروط الحياة الكريمة وشروط التحول إلى دولة ووطن للعيش المشترك ، وأكثر من ذلك، نجد فكرة الحروب الثورية تتسامى على المستوى القيمي وتلتحم بما هو إنساني وأخلاقي وبشكل يجعل الإيمان بمشروعيتها فعلاً نضالياً يتجاوز الحدود السياسية والجغرافية وحتى الأجناس والأديان والقوميات كما هو الحال عند عاشق البندقية الطبيب الأرجنتيني والثائر الأممي ” جيفارا ” الذي قاتل حتى الشهادة في سبيل الحرية والإستقلال خارج حدود موطنه الأصلي تحت شعار ” أينما يحل الظلم فهو موطني ” .
الحديث عن حروب مباحة قد يثير الإشمئزاز ، عند من يملكون قلوباً من أغصان الزيتون وهم مُحقون في ذلك ، أو قد تظل الحرب محل استفهام لديهم؛ لاسيما حين تكون داخلية؛ لكن منطق التأريخ يظل قادراً على المجادلة والإقناع فكثيراً من الأوطان تمخضت من رحم الحروب الثورية كما أن الحرية والكرامة في كثيرٍ من الأحوال والتجارب التأريخية لم تُعطى منحة أو هبة أو حتى هدية؛ بل تم انتزاعها “عنوة” ومجادلة ، أو كما قال آخر عمالقة اليسار ” ما أُخذ بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة “…!
هذا لا يعني تبرير لوحشية الحرب أو دعوة تشرع للفعل المسلح؛ بقدر ما هي مجرد أفكار شخصية تأبى الإنحباس ، وهي أفكار أظُنها تتعلقُ بمشروعيةِ نوعٍ من الحروب التي يجب التعاطي معها في حالة الضرورة .
فـ “عطفا”ً على منطق هذه الأفكار؛ فإن الحرب الثورية في حال وجودها تظلُ حربٍ في سبيل تحرر الإنسان وليس من أجل حكم الإنسان ، فهي في كل الأحوال حرب تنتصر للمشروع الثوري والإنساني، وتنتصر لفكرة التغيير ولمعنى التحولات التاريخية نحو التقدم؛ هذا يعني أن أي محاولة لإنتاج الممارسات السابقة وحتى الواقع السلبي الذي شكل أسباباً واقعية للفعل الثوري أو للعمل المسلح “حتماً” سيضع الحرب الثورية على محك سؤال العبثية في الحروب حتى وإن رفعت شعار ثوري أو تمترست خلف المشروع الثوري .
فبدلاً من مشروعية الحرب الثورية هنا يصبح حال الحرب في ظل هكذا إعادة منتجة للماضي “قابلا”ً لسؤال العبثية في الحروب بشيءٍ من المشروعية وكثير من المنطقية ، وإلا فما الفرق هنا أن يُحكم الإنسان بثنائية الفساد والإستبداد على يد هذا الثائر أو ذاك الممانع، طالما والمسلكيات والممارسات واحدة لدى الجميع ولم تتغيير ؟ ناهيك عن السؤال المتعلق بالثمن المدفوع وحجم التضحيات المقدمة خلال هذه الحرب التي تسمح بإعادة المنتجة لاسيما وأن الثمن المدفوع في الحرب الثورية دائمًا ما يُقاسُ أو يُبررُ بقدرة الحرب كخيار مسلح وضروري على إنتاج شروط التحول والتقدم نحو المستقبل ،
الهدف العام في الحرب الثورية لا يتمثل بالإنتصار على سلاح القوى الممانعة أو حتى نزعه ، بقدر ما يتمثل في إجبار هذه القوى وغيرها على قبول فكرة التغيير والتحول وهذا يتطلب إبتداء وجود المثال النضالي والنموذج الثوري الصارم والعملي في السلوك والممارسات عند من يُمارس فعل التغيير سواءً بأدواتٍ سلمية أو بعملٍ مسلح؛ فالحرب الثورية هي في الأساس فعل ثوري بامتياز .
كثيرٌ مما ذُكر “آنفاً” يظلُ خاضعًا أو متعلقًا بدور القيادة المؤهلة لخوض الحرب الثورية؛ لكن في المقابل نجد أن من شروط هذه الحرب : أنه لا يُوضع زناد البندقية الثائرة في يد من لا يؤمن بمشروعها الثوري والإنساني إيمانًا لا يقبلُ التفريط أو المساومة؛ وهذا شيئاً مهماً في مسار الحرب الثورية وفي إمكانية نجاحها في فعل التغيير بقوةِ السلاح.
فالحديث عن مشروعية حيازة السلاح أو حتى استخدامة في الحروب الثورية؛ يجب ألا يظلُ باباً مفتوحًا على مصراعيه أمام من هب ودب بناءً على الرغبة في القتال أو بدافع الخصومة والصراع الذي يجد أسبابه كما هو في واقعنا لاسيما في ــ معسكر الشرعية ــ في سياقاتٍ مختلفة مذهبية أو إيديولوجية أو حتى سياسية انتهازية تتقاطع مع القوى الممانعة لفعل التغيير ، وفي حال حدوث ذلك ، فإن السلاح يكون غير قادر على إنتاج شروط التحولات التاريخية ويصبح في نفس الوقت غير مؤهل لأن ينتصر في معركته لفكرة التغيير والتقدم ، وحتى في حال تمكنه من الإنتصار على سلاح القوى الممانعة يظل “قابلاً للإقتتال” والإحتقان البيني وحتى قابل لمسألة التوظيف في الصراع السياسي على السلطة والحكم والثروة والنفوذ كما هو الحال في واقعنا .
وهذه مألآتٍ تتحققُ في كل الحروب عندما يكون حامل البندقية وصاحب القرار فيها هو (المقاتل بلا مشروع وطني)…!
هذا المقاتل بلا مشروع وطني وإن أدى دوراً مهما في قتال القوى الممانعة إلا أن سلاحه يظلُ أكثر قابلية للإستخدام والإستثمار في سبيل المشروعات الصغيرة وفي سبيل تنفيذ أجندات خارجية تتقاطع مع المشروع الثوري والوطني .
الحرب الثورية لا تجد حرجاً في تلقي الدعم الخارجي فكثيرٍ من التجارب الثورية اعتمدت على دعم عابر للحدود السياسية التي تفصل بين الشعوب؛ لكن قبول الدعم هذا يجب ألا يخضع لمنطق المقايضة لاسيما ــ على حساب الثوابت الوطنية والقرار السيادي .
في الحروب الثورية تظل السيادة الوطنية والقرار السياسي الوطني شأنًا داخليًا وخطًا أحمرًا لا يقبل التفريط أو التنازل عنه لأي دولة داعمة “مهما يكن حجم الدعم المقدم منها” ، وفي حال حدث هذا التفريط فإنه بلا شك يفتح الأبواب المغلقة أمام القوى الممانعة، بحيث تستطيعُ من خلالها تسويق حربها ووجودها الممانع عبر خطاب سياسي وإعلامي ذرائعي يتغنى بالسيادة الوطنية وبشكل يخفي حقيقة مشروعها الممانع للمسألة الوطنية نفسها ، ناهيك عن كون هذا التفريط من زاوية أخرى يتناقض مع المشروع الثوري الوطني الذي يظل دائمًا هو المبرر السياسي والأخلاقي لخيار الكفاح المسلح عند من يؤمنون بالحرب الثورية كخيارٍ أخير في معركة التغيير والتقدم على اعتبار أن الظالم هو من يحدد وسيلة نضال المظلوم ، أو هكذا قال مانديلا .
الحديث عن الحرب الثورية المؤطرة بمنطق هذه الأفكار السابقة يظلُ في كل الأحوال حديث في صُلب الثورة على اعتبار أن الأول هو أحد أدوات الضرورة في مفهوم الثانية؛ لكن المؤكد أن الحرب الثورية في حال عدم انتصارها على القوى الممانعة تتحول إلى تأريخ بطولي ونضالي مُشرق ومُشرف في ذاكرات الأجيال القادمة وفي الذاكرة السياسية للأوطان؛ بل وتشكل في كل الأحوال لهؤلاء الأجيال مصدر إلهام وقوة في معارك التغيير القادمة؛ لأن فعلها وممارستها الثورية تظل مقبولة سياسياً وأخلاقياً لديهم وغير عبثية في نظرهم .
أما في حال تمكنت الحرب الثورية من الإنتصار على القوى الممانعة، فإن معني الإنتصار الحقيقي حسب منطق هذه الأفكار “يُقاس بما هو غائي من الحرب الثورية”؛ أي بقدرة هذا الإنتصار على إنتاج شروط التحول الذي يؤدي “حتماً” إلى إعفاء الأجيال القادمة من مشقة التفكير بالثورة أو من خيارات الحروب الثورية .
فهل نحن فعلاً في صدد حرب ثورية ؟؟؟