المواطن/ كتابات – عيبان محمد السامعي
(1)
الحدثُ الثوريُّ ليسَ بحدثٍ عاديٍّ عابرٍ, بل حدثٌ تتكثف فيه أبعاد الزمكان والتاريخ والدَّهشة.
و11 فبراير 2011م كان حدثاً ثورياً تاريخياً رفيعَ المقام, من حيث الدلالات والدوافع والمضامين.
لقد أيقظتْ ثورة 11 فبراير الشعبَ من رُقادِهِ, وأعادتْ الاعتبار للذَّات الجمعيَّة بعد أنْ رانَ عليها الهوان والشعور بالانكسار والعجز. وأثبتت أنَّ الشعبَ أكبر من كلّ التوقعات والرهانات الخائبة, فقد كسر حاجزَ الصمت وحطَّم جدارَ الخوف.
إنَّ لحظةَ الثوّرة, هي لحظةُ الحقيقة حيث تعود الأمور إلى نصابِها, ويسترّد الشعب ذاتَه بعد همودٍ طويل.
وبالثورة تتجسَّد “السيادة الشعبيّة”, حيث الشعب مصدر السلطة وصاحبها.
لقد أسقطتْ الثورة الكثير من الأوهام والصوّر النمطيّة, وفي المقدمة تلك الصورة النمطيّة التي يرسمها البعض وهوَ يتَّهمُ الشعبَ بالخنوعِ والخضوعِ, وأنَّ لا أمل يُرتجى فيه, لأنه شعب سهل الانقياد, مُكبّل بالجهل والأميّة ويقف في صف جلاديه, ولا يفوت هذا الفريق الاستشهاد بمقولة “لعن الله شعباً أردت له الحياة فأراد لي الموت” المنسوبة زوراً وبهتاناً للشهيد الثلايا.
لقد أبانتْ الثورة عن الصورة الحقيقيّة للشعب بوصفه “كياناً جماعيّاً مرتبطاً بروابط مشتركة, وفاعلاً سياسياً, ومصدرَ السلطات, وصاحبَ السيادة.” [1]
إنّ الثورةَ فعلٌ تجاوزيٌّ لكلِ مظاهر اليأس والعجز والسلبيّة, فقد “رممت النفوس المنكسرة المترعة بالتشاؤم والقنوط والتذمر والخراب النفسي والوجداني وأشعلت في [النفوس] شمعة أمل للخلاص من الكبت والظلم والاعتساف ومشارب الحرمان والرقابة البوليسية البغيضة التي تكبح العقلية الحرة المبدعة وتفسد اليقظة الذهنية والجسدية والروحية للشعوب.” [2]
والثورة هي تعبير مُكَثّف وخلاق لأشواق الجماهير في الحريّة والعيش الكريم.
(2)
انبلجتْ الثورةُ في لحظة انفجار التناقضات ووصول الأزمة (التراكمات الكميّة الداخليّة) ذروّتها, وهي لحظة فارقة, حيث لا يستطيع الحاكم أن يستمر في حكمه بنفس الأدوات والآليات القديمة, وفي الوقت نفسه, لا يستطيع الشعب التكيُّف أو الاستمرار في العيش بالوضع القائم.
لم تكنِ الثورةُ, إذن, وليدةَ الصدفة أو ظاهرة طارئة, بل نِّتاج عمليّة تراكميّة وعوامل موضوعيّة, وهي وإنْ كانت مفاجئة في توقيتها, إلا أنّ نشوبها كان تعبيراً صارخاً عن وصول المجتمع إلى ذروّة التأزُّم التي يغدو معها العودة إلى الخلف أو الاستمرار على نفس الوتيرة ضربٌ من المُحال.
لقد جاءت الثورةُ الشعبيّة استجابةً للتحديّ الذي خلقته السلطة, والمتمثّل في سيّاسات الإفقار والتجويع والإفساد والخصخصة ونهب المال العام وتقييد الحريّات والقمع والتهميش والحرمان الاجتماعي.
وكانت الثورةُ ردَّةَ فعلٍ على سلوكِ السلطة وقيامها بإعادة بناء العلاقات على أساسٍ من الولاءات والاستزلام السياسيّ والزبائنيّة والاحتكار الأقلويّ للثروة الوطنيّة, التي أَفْضَّتْ إلى نشوء طبقة طفيليّة مكوّنة من كبار موظفي الدولة وقيادات عسكريّة ومشائخ قبليّة ورموز دينيّة.
اقتحمتْ هذه الطّبقةُ المجالَ الاقتصاديّ مُستغلّةً نفوذها في الدولة, ووجّهت ضربات قاصمة للبرجوازيّة المحليّة وللاقتصاد الوطنيّ, وتسبّبت في تفاقم الفجوة بين فئات المجتمع وطبقاته, فقد أفرزت تلك السيّاسات إلى انقسام المجتمع إلى قسمين رئيسيين (طبقة مسيطرة, وطبقات شعبيّة): الأولى تمثل أقليّة لا تتعدى الـ10% لا تنتج شيئاً وتسيطر على كل شيء, والثانية تنتج كل شيء ولا تملك شيئاً..!
(3)
مثّلت الثورةُ نداءَ الشعب نحو الحريّة, وضد السيّاسات الأمنيّة القمعيّة للنظام, وقيامه بعسكرة الحياة والمجتمع, فقد “كان تفشي عنف أجهزة الأمن، إلى درجة تحوّله إلى قاعدة سلوكية في التعامل مع الناس، من أهم أسباب انفجار الغضب الثوري”. [3]
لقد بلغَ نظام المخلوع صالح, في سنوات ما قبل الثورة, طورَ “الأَمْنُوقَراطيّة” [4], وهي مرحلة من تطوّر النظام السياسيّ في اتجاه موغل في القمعيّة والديكتاتوريّة, حيثُ يلعبُ الأمنَ الدّور المحوريّ في تثبيت دعائم الحكم والحفاظ على بقائه, لذا قام النظام السابق بتشييد جهاز (الأمن القوميّ) وإيكال مهمّة إدارتِهِ لأحد الخُلصاء الأقرباء, وهو عمار محمد عبدالله صالح.
إنّ مساعي النظام السابق في توريث الحكم وتنصيب الأقرباء وتمركُّزه حول العائلة, كان أحد أهم عوامل اندلاع الثورة, ذلك لأن المخلوع صالح بهذا الفعل قد “جَرَحَ كبرياءَ الشعب” حين ظنَّ أنَّ بمقدوره أنْ يُورِّث البلاد والعباد إلى نجله, مما ولّد ثورة شعبيّة عارمة أتتْ على حكمه وقذفتْ به إلى المهاوي.
لقد اتّسمَ نظام المخلوع صالح بالشخصانيّة الفرديّة, حيث يجري تقديس الحاكم الفرد, وتقديمه في صورة “الزعيم المُفدَّى”, و”القائد المُلْهِم”, و”رُبّان السفينة”, و”الرمز” الذي لا يدانيه أحد من العالمين. هذه الصورة التي تُؤَسْطّرُ الحاكم وتجعله فوق البشر وفوق القانون وفوق الشعب هي من لوازم الاستبداد, غايتها استلاب الذهنيّة العامة وقطع الطريق أمام أي إمكانيّة لتغييره, فهو الثابت, والمحور, الذي يدور حوله كل شيء.
لقد عمل النظام السابق على ابتزاز الشعب وقوى المعارضة, فإما القبول بطغيانه والإذعان لسياساته, أو أنْ تُطلقَ يدُ الفوضى, فيضرب اليبابَ والخرابَ أرجاءَ الوطن, وهو ما تجلّى في تهديد المخلوع بـ”صَوْمَلَة” اليمن و”عَرْقَنَتٍهَا”, وهو ما يحاول أنْ ينفّذه اليوم من خلال الحرب الإجراميّة التي يشنّها ضدّ أبناء الشعب اليمنيّ.
(4)
النظامُ الاستبداديّ بطبيعتِهِ نظامٌ فاسدٌ, فـ”السّلطةُ المُطْلَقةُ مَفسدةٌ مطلقة”, وهو ما يصدق تماماً على نظام المخلوع صالح, فقد أصبح الفساد بمثابة مؤسسة, بل ” نظاماً مستقلاً يعيد إنتاج نفسه بكفاية نادرة”[5]. إنّ الفساد في عهد المخلوع صالح “دخل في علاقة هوية مع النظام, فلا يحضران إلا معاً ولا يرتفعان إلا معاً.”[6]
لا ريبَ أنّ النظامَ الاستبداديّ الفاسد حينما يُمارس تسلُّطه وفساده, إنما يحمل نظرة ازدرائيّة للشعب, فالشعب في نظره مجرد جمع من الرعاع والسَّوَقة الذين ينبغي حكمهم بالقَسّر والإخضاع.. هذه النظرة الاحتقاريّة تجلَّتْ في خطابٍ مُسرَّبٍ للمخلوع حينما وصف الشعب بالجبان الذي ينكر فضائل الحاكم..!
لقد كان نظام المخلوع صالح أبعدَ ما يكون عن الديمقراطيّة رغم ادّعائه زيفاً بكونه نظاماً ديمقراطياً, فقد “ألبس سلطته غطاء اللغة الديمقراطية” [7] بغرض إضفاء الشرعيّة.
مثلّتْ الديمقراطيّة للنظام السابق مادة ثريَّة للاستهلاك الإعلاميّ ولتفريغ شحنات الاستياء والتذمُّر الشعبيّ, وطوال عقود من الزمن ظلَّ النظام يبيع الوهم للشعب ويُبشّره بأنّ الديمقراطيّة هي الخلاص من كلّ الأزمات التي تطحنه, ومع تزايد الحديث والوعد عن الديمقراطيّة تم إفراغ الديمقراطيّة من مضمونها الحقيقيّ, فهي لم تنتج تداولاً سلمياً للسلطة, ولم تُغيِّر في واقع حياة الناس شيئاً, بل زادتهم بؤساً وشقاءً.
(5)
صُمّمَ نظام المخلوع صالح على سياسات التجويع والإفقار, حيث كان الهدف من ورائها جعل الناس في حالة ركضٍ دائمٍ وراءَ لقمة العيش, ليَصْرِفَهُم عن الانشغال بقضايا الشأن العام.
بيدَ أنّ وطأة الفقر والبطالة وأزمة المعيشة؛ فضلاً عن القمع والحجر على الحريّات, دفعت النّاس إلى السياسة, وبالتالي إلى الثورة, فـ”كلّ ممنوعٍ مرغوبٍ”؛ وهو أمر لم يَفطن له النظام.
لقد انتفضَ الشعبُ كالعنقاء من تحت رماد القهر والحرمان والخوف, وأفصحَ عن عبقريّةٍ كبيرةٍ في مقارعة نظامٍ قمعيٍّ عَمِلَ خلال سنوات حكمه المديدة على بناء ترسانة خرافيّة من السلاح. فقد كان لانتهاج الكفاح السلمي أبلغ الأثر في شلّ قدرة النظام على استعمال تلك الترسانة, وبالتالي استحالتها إلى كَومّةٍ من القَشْ! وهو أسلوب يُطلق عليه (جين شارب) بـ “الجُودو السياسيّ”, حيث يستمد من لعبة الجودو مبدأ توظيف قوّة الخصم في هزيمته. ويقصد بـ”الجودو السياسيّ” الحفاظ على الطابع اللاعنيف في مواجهة القمع الذي يمارسه الخصم, الذي من شأنه أن يجعل هذا القمع يرتد إلى الخصم في النهاية.[8] وهو ما كان مع الثوّرة السلميّة.
لقد واجه الشعب آلة القمع والموت بصدور عارية, وبشجاعة نادرة, وبجسارة غير معهودة, في مشهد استثنائيّ تجسّدت فيه قوة إرادة الجماهير وروحها, فروحُ الجماهير لها قوّة سحريّة تفوقُ أيّ قوة, أو وفقاً لغوستاف لوبون: إنّ “نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أو يوقفها أي شيء, وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها وسلطتها باستمرار؛ إذ لم تعد مصائر الشعوب والأمم تحسم في مجالس السياسة والحكّام, وإنما في روح الجماهير وحشودها المتضامنة .”[9]
(6)
لقدْ اندفعَ الشعبُ في تظاهراتٍ عارمةٍ, اكتسحتْ جلّ محافظات اليمن, في مشهدٍ اجتماعيٍّ وطنيٍّ خلاق, عبَّر عن حسٍ جماعيٍّ بالمصير المشترك لكلّ اليمنيين, ودَفَعَ بهم إلى عمق السياسة.
وقد أضحتْ الشوارع والساحات العامة مسرحاً للأحداث, وملاذ جميع الفئات بخاصة من ينتمون إلى الطبقات الدنيا والوسطى, المُستبعدين من مراكز صنع القرار. فالشارع أو الميدان هو المكان الذي يجمع المعروف والمجهول والمرئيّ والصوتيّ. وفيه تتكوّن العواطف والآراء وتنتشر[10].
لقد كانت الثورة “في مادتها وجمهورها وأسلوبها السلمي ومظاهرها الاحتجاجية الشعبية، وشعاراتها وصورها وأهازيجها، عيداً وطنياً جامعاً، ومناسبة لإعادة توحيد الشعوب والمجتمعات، وبث روح الألفة والانسجام والتفاهم والتسامح فيما بينها، فيما وراء انتماءات أفرادها الأهلية، الدينية والقومية والمذهبية، بعد شقاق مديد، أي كانت فرصة لولادة الشعب والأمة الدولة، ومصهراً تتعانق فيه الأجيال الجديدة مع الأجيال القديمة، ويتفاعل فيه التراث مع الحداثة، وتلتقي فيه السياسة بالثقافة والفن، وتصدح فيه الوطنية الجامعة بالقيم الإنسانية والنظرة العالمية.”[11]
إنّ فرادةَ ثورة 11 فبراير, تكمنُ في أنها لم تأتي نِّتاج حركة انقلابيّة, أو قيام تيار معين أو نخبة لديها خلفيّة أيديولوجيّة وتصوّر ذهنيّ مُسبق بالاستيلاء على السلطة؛ بل ثورة شاركت فيها مختلف فئات الشعب وطبقاته, ورفعتْ مطالب وأهداف جسَّدت المصلحة الاجتماعيّة لعموم الشعب في التغيير والحريّة والعيش الكريم.
لقد مثَّل شعار “الشعب يريد إسقاط النظام ” (وهو الشعار المركزيّ للثورة), مثَّل خلاصةً مكثَّفةً لمطالب الشعب, فالثَّورةُ تَرومُ إسقاط النظام بكل رموزِهِ وسياساتِهِ وآلياتِهِ وقيمه, ولن تكتفي الثورة بإحداث تغيير جزئيّ أو فوقيّ برحيل رأس النظام أو بعض أركانه, بل تغيير جذريّ يأتي على المنظومة كلها.
لقد حمَل هُتاف “الشعب يريد إسقاط النظام” دلالات لغويّة ومضمونيّة تُفصحُ على أنَّ الشعب انتقل من حالة الاستكانة إلى دائرة الفعل, المعبّر عنها بالتأكيد الجمعيّ في صيغة المضارع بأنّ الشعبَ يريد, الآن وهنا, أيّ الإفصاح عن اقتحام الإرادة الشعبيّة للساحة السياسيّة العربيّة, ذلك الاقتحامُ الذي يُعدّ السمة الأولى لكل انتفاضة ديمقراطيّة. إنّ إرادة الشعب يجري التعبير عنها هنا بلا وسيط, إذ تهتف بها ملء الحناجر جماهير غفيرة في الميادين والساحات العامة.[12]
(7)
ما يميّزُ ثورة 11فبراير عن كلّ الثورات السابقة, أنَّ الشعبَ كانَ الفاعلَ الرئيسيّ فيها. حيث خرج الشعبُ من تلقاءِ نفسهِ دون إيعازٍ من طرفٍ سياسيٍّ معين, ودون أنْ تقوده نخبة معينة, بل كان الشعب هو القائد, وهو روح الثورة. هذا وضع يبعث على الاطمئنان من جهة صعوبة قيام طرف ما بتوجيه الشعب باتجاه معين, أو أن يختطف ثورته, لأنَّ الشعبّ امتلك وعيّ بذاتِهِ وبمصالحِهِ. ويرفض قيام أيّ طرف الإنابة عنه أو التحدث باسمه.
إنَّ الطابعَ الاجتماعيّ لثورة 11 فبراير, قد تجلَّى من خلال مشاركة مختلف فئات الشعب وقواه السياسيّة وشرائحه الاجتماعيّة في مسار الثورة وأحداثها, وحسبنا في هذا المقام, أنْ نُسلّطَ الضَّوءَ على بعض الفئات والشرائح الاجتماعيّة التي كان لها إسهاماً مميزاً في مسار وأحداث الثورة, لنبيّن كيف أَعطت الثورةُ دلالات اجتماعيّة جديدة لهذه الفئات والشرائح.
أُولى هذه الشرائح الاجتماعيّة, شريحة سائقي الدراجات النارية: تشغل هذه الشريحة موقعاً لا يُستهان به في الخارطة الديمغرافيّة اليمنيّة, فهي تضمُّ مئات الآلاف من اليمنيين, معظمهم من الشباب واليافعين من عمر (13- 35) عاماً.
توسَّعتْ هذه الشريحة وازدادَ عديدُها في العقد الأخير نتيجة ضَّآلة فرص العمل وحالة الإفقار والضغط المعيشيّ الذي يثقل كاهل الإنسان اليمنيّ.
لقد أَضْحَتْ الدَّراجة الناريّة (أو المُوْتُور كما يُطلق عليه في اليمن) وسيلةَ نقلٍ رئيسيّة وأكثرها عمليّة, فهي صديقة الفقراء, وتتلاءم مع طبيعة الشوارع في المدن اليمنيّة التي تتسم بالعشوائيّة وضِيْق مساحاتها.
لدى المجتمع نظرة توجُّسِّيّة إزاءَ هذه الشريحة, ناشئة من سلوكيّات بعض أفرادها والتي تتّسم بالتمرد على المألوف وعدم الانصياع للسائد, ما يجعل المجتمع يُصدر أحكاماً أخلاقية بحقِّها وبشكلٍّ تعميميٍّ.
وبقدر ما غيَّرتْ الثورةُ الكثير من القناعات المُسبقة والصوّر الذهنيّة تجاه فئات وشرائح معينّة, فإنّها غيّرتْ من الصوّرة النمطيّة القاسية تجاه هذه الشريحة, فقد ضرب سائقو الدراجات الناريّة أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام وركوب المخاطر, حيث لعبوا دوراً محوريّاً في إسعاف جرحى ومصابي المظاهرات الذين أصيبوا برصاص جلاوزة النظام وعساكره.
لقد أضفى الدّور الثوّريّ لهذه الشريحة على الثوّرة صِبغة اجتماعيّة مُميزة, جعلتْ منها بحق ثوّرة مجتمعيّة, كسرت القوالب وأَعادت التفكير في الكثير من الأفكار والصوّر والرموز والأنماط السائدة, وعبَّأت طاقات المجتمع بمختلف شرائحِهِ وفئاتِهِ في مواجهة نظامٍ رانَ على البلاد فساداً واستبداداً سنينَ طويلة.
(8)
وساهمتْ شريحةُ الباعة المتجولّون إسهاماً كبيراً في الثوّرة, إِذْ مَثلّت الثورة لها ملاذاً وأملاً في الخلاص من ضَنّكِ الحياة التي تُكابِدُها, حيث يتعرض أفراد هذه الشريحة إلى الملاحقة الإداريّة اليوميّة من السلطات المحليّة والبلديّات بذريعة أنهم مخالفون ويشوّهون المنظر العام, كما يتعرّضون لابتزاز النافذين أو ما يسمى بـ (عقال السوق) حيث يفرضون عليهم جبايّات وإتاوات تحت مسميّات كثيرة, إيجار, حراسة, وغيرها.
ومن بين الفئات الاجتماعيّة التي شاركت في الثورة, فئة عمال القطاع الهامشيّ وَهُم طيفٌ من أصحاب المهن الحرة, من عمّال البناء والنجّارين والسمكرّيين والحدّادين والخيّاطين وعمّال النّظّافة وعمّال قطاع الخدمات في المطاعم والفنادق ومختلف المؤسسات العامة والخاصة وغيرهم, هؤلاء يبيعون قوةَ عملهِم لقاءَ أجورٍ زهيدةٍ, ويتعرّضونَ لأسوأ أصناف الاستغلال من أرباب العمل في وقتٍ لا وجود لقانون يَحميهم ويَكفلُ حقوقَهم في الأجر العادل والإجازات والضّمان الاجتماعيّ والضّمان الصحيّ والتأمين بعد التقاعد.
وعلى الرغم من طبيعة علمهم الشَّاق والظروف الخَطِّرَة التي يتعرَّضون لها, في ظل غياب كليّ لمعايير السلامة, فإنَّ غالبيتهم يعملون في إطار علاقة عمل غير واضحة, فلا عقود كتابيّة ولا لوائح ولا ضوابط تحدد علاقتهم بربِّ العمل, عدا الاتفاق الشفوي على الأجور وفق منطق السوق (العرض والطلب).
وتزداد مأساويّة هذا الوضع مع عمّال الأجر اليومي, الذي يمكن لربِّ العمل الاستغناء عنهم في أيّ لحظة بسببٍ أو بدونه, ولا يجد هؤلاء العمّال من يُمثلهم ولا من يُدافع عنهم.
ويحضر الفلاحون من أبناء الريف في مقدمة المشهد الثوّريّ, فالريف اليمنيّ شكّل رافداً مهماً للثوّرة, وإذا جَازَ لنا أنْ نطلق تسميةً أخرى لثوّرة 11فبراير فستكون (ثوّرة الريف).
إنَّ المجتمعَ اليمنيّ مجتمعٌ ريفيٌّ في الغالب, إِذْ يستأثر الريف ما يزيد عن 70% من المساحة الديمغرافيّة اليمنيّة, ورغم موجات الهجرة الداخليّة التي شهدتها البلاد منذ سبعينيّات القرن الفائت, إلا أن تلك الهجرات لم تقطع صلة أبناء الريف الذي قطنوا المدن عن مناطقهم الريفيّة.
يحتوي الريف على مخزون بشريّ هائل, وبفعل الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة الصعبة التي يعيشها, واستبعاده من الخطط التنمويّة الحكوميّة, فضلاً عن تناقص هطول الأمطار, وتزايد الجفاف الذي أتى على الزراعة المصدر الرئيسيّ لمعيشة الأسر الريفيّة, يُضافُ إلى ذلك هيمنة الرموز القبليّة والمشائخيّة على المجتمع الريفيّ وتدخلاتهم التعسفيّة في حياة الناس؛ كل ذلك راكمَ الاحتقان في المجتمع الريفيّ, وجعله قابلاً للانفجار في أيّة لحظة, فكان أنْ اندفعَ إلى الثورة بقوّة وبعنفوان.
(9)
لقد فتحتْ الثوّرةُ البابَ واسعاً أمام مشاركة الشّعب بفئاتِهِ المختلفة في رَسْم المصير المشترك, وكَسْر القيود السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة, وفي هذا السياق لعبت المرأةُ اليمنيّة دوراً محوريّاً في الثورة.
فقد حضرتْ المرأة السّاحات, وهتفتْ, وقادتْ المسيرات الثوّريّة, وحاورتْ, وجادلتْ, ورفضتْ, وحققتْ إنجازات كبيرة.
بالثورة, انتفضت المرأةُ اليمنيّة على واقعِهِا, وعلى النظام السياسيّ والاجتماعيّ الذي كبّلها بكثير من القيود والأغلال في ظل مجتمع تهمين عليه الثقافة الذكوريّة, ونظام سياسيّ يُقصي المرأةَ والرجلَ من الحياة العامة.
وبالثورة حققت المرأة اليمنيّة ذاتَها, واستطاعتْ أنْ تكون حقيقة من حقائق السياسة في اليمن, ورقماً صعباً في الخارطة الاجتماعيّة اليمنيّة.
ولعبت الحركةُ الطلابيّةُ اليمنيّةُ دوراً محورياً في الثورة, فهي طلّيعةُ الثورة و”شرارتُها التي أشعلتْ السَّهل”. وهي بدورها هذا, إنما ثارتْ احتجاجاً على النظام التعليميّ الرديء وسياسة التجهيل عبر المناهج والوسائل التعليميةّ التي تقوم على التلقين والحفظ, وتنبذ قيم الإبداع والابتكار والتحليل والتفكير والعقلانيّة, وتكّرّس قيم الامتثال والطاعة والتسليم. نظام تعليميّ يستمد وجوده من وجود النظام السياسيّ الجاثم ويلبيّ حاجته في البقاء والاستمراريّة.
لقد ثارت الحركة الطلابيّة على المستقبل المجهول الذي ينتظرها في أرصفة البطالة والضياع. إنّ ثورة 11 فبراير, هي ثورة المُعطّلّين (العاطلين عن العمل), وهي ثوّرة كل الطّبقات الشعبيّة الكادحة التي وجدت نفسها أمام وضع مأزوم لا يُطاق, فقررت أن تنتفض في وجه دولة النهب, بروحٍ اندفاعيّةٍ, واقتحامٍ للمجهول, غيرَ مباليةٍ بالموت أو ما قد تتعرضُ له من أذىً أو يَلحقُ بها من ضررٍ, فليس هناك ما تخسره سوى الأغلال.
لقد أطلقتْ الثورةُ الطاقات المجتمعيّة المكبوتة, وولّدتْ حالة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة مغايرة, وأوجدتْ روابط مشتركة, جعلت “اليمنيين يكتشفون أنفسهم, ويكتشفون بعضهم بعضاً, يبحثون عن ذواتهم وهويتهم السياسية والوطنية المصادرة. وجعلتهم يكتبون تاريخهم الخاص, كأفراد وكشعب.” [13]
و أعطتْ الثورةُ قيمةً لعاملِ الزمن في حياةِ النّاس, حيث لم يكن الزمن قبل ذاك سوى توالي أيام من المعاناة والكَبْتْ, ومع الثورة أَضحى الزمنُ عنصراً فاعلاً في صَوْغِ الأحداث والوقائع وصنّاعة التاريخ.
(10)
إنَّ الثوّرةَ ليستْ أمانيّ مختزنة, أو أحلام طوباوية, بل عمليّة اجتماعيّة تاريخيّة تَجْترحُ النضالَ وتمتلكُ البديلَ الثوّريّ لسعادة الشعب وحريّة الوطن.
لقد انتهجت الثورة أسلوبَ التظاهر السلميّ, فالتظاهرُ فعلُ الطَبقات الشعبيَة. وقدّمت الثورة في هذا المضمار تضحيات كبيرة وجسيمة, حيث سالتْ دماء الشهداء والجرحى في معظم شوارع ومدن اليمن.
وعلى الرغم من جسامة تلك التضحيات, فإن المآلات لم تكن على نفس المستوى, ذلك أنّ اختلالات كبيرة رافقتْ مسيرةَ الثورة؛ بفعل جملة من الأسباب والعوامل الذاتيّة والموضوعيةّ.
لقد كان لعفويّة الثورة والتدفُّق التلقائيّ المستقلّ لشباب الثورة أهميّة حاسمة في تعاظم زخم الثوّرة وإقناع فئات واسعة من المجتمع بكون ما يجري هو ثوّرة حقيقيّة.
لكن تحوّل ذلك إلى عِبء ومأزق خنق الثورة, خاصة مع تطاول الزمن الثوريّ ودخول عناصر جديدة إلى الساحات الثوريّة.
إنّ غيابَ الفكر العلميّ لدى الشباب الثائر, وافتقادهم للخبرة السياسيّة والتنظيميّة اللازمة, والقصور الذي شاب خطابهم, حيث تمحوَّر حول مسائل سياسيّة برانيّة (الدولة المدنيّة والحقوق والحريّات العامة والخاصة), ولم ينفذ إلى قاع المجتمع بتبنيّ هموم الناس المباشرة, والعشوائيّة والارتجاليّة الذي وَسَمَ حراك الثورة.
يُضاف إلى ذلك, العجز عن إنتاج القيادة والتنظيم, والاعتماد على تكتيك واحد وهو (التظاهرات وترديد الهتافات والشعارات), وغياب التخطيط, وهو عنصر أساسيّ لا غنى عنه. فالثورةُ عملٌ مُنظَّمٌ, وهي “حرب مواقع” بلغة غرامشي, تقوم على كسب مزيد من المواقع واجتذاب الفئات الصامتة والمحايدة في المجتمع, وتفكيك بنيّة السلطة من خلال معرفة التناقضات بداخلها وتعطيل أدواتها وسلبها هامش الحركة والمناورة.
لقد غابَ كلّ ذلك عن الثورة, ما وفّر للنظام فرصاً كثيرة, من بينها قيامه بتوظيف مخاوف الفئة الصامتة من الثورة والتغيير, فعزّز لديها الإيهام بأن الثورة ستجلب الفوضى؛ وقد ساعده في ذلك أنه عمل طوال سنوات حكمه المديد على اختزال الدولة وأجهزتها بشخصه وبسلطانه, وَرَبْطْ مسألة الأمن والاستقرار ببقائه في السلطة.
لقد كان من أَوْجَب مهام الثورة دحض هذه المزاعم, وفضح الأسلوب الذي اتبعه النظام في التلويح بالفوضى والتهديد بـ”العرقنة” و”الصوملة” في مواجهة مطالب الناس من جهة, والعمل على تبديد مخاوف الفئة الصامتة وطمأنتها من خلال خطاب يؤكد على أن الثورة تهدف إلى إرساء نظام عادل يحقق الأمن والاستقرار ويفرض سيادة القانون على الجميع دونما تمييز, من جهة أخرى.
(11)
يَكمن خطأ الشباب الثائر, أنه وقع ضحيّة للطوباويّة والرومانسيّة الثوريّة, لضآلة قدرتِهِ على تحسُّس تعقيدات الواقع؛ ما أَوْقَعَه في شطحات وأوهام ذهنيّة لا تتسق مع الحاجة الواقعيّة الثوريّة. ولعل الرَّوّاج الواسع لعبارة “دعوها فإنها مأمورة” في صفوف الشباب والتي تعني السَّير بالثورة إلى الأمام دونما رؤيّة ودونما تخطيط مسبق؛ تُلخص فداحة هذا المنطق الأسطوريّ الساذج وحجم انفصاله عن التاريخ وحركة الواقع.
لقد غرق الثوَّار في متاهة التفاصيل اليوميّة في ساحات الثورة, وانصرفوا إلى معارك جانبيّة أَنْسَّتْهم ـ في أوقات كثيرة ـ القضيّة الأساسيّة للثورة.
وبينما افتقر الشباب للرؤيّا الواقعيّة للتعاطي مع الثورة, فقد تعاطتْ النُّخب السياسيّة مع الثورة بوصفها “أزمة سياسية”؛ حيث تفاجأت الأحزاب السياسيّة ـ في البدء ـ بالثورة, فلم تتوقع أن يحدث كل هذا, وعلى ذلك النحو من الشمول والحيويّة, الأمر الذي ألقى بظلاله على موقفها من الثورة وتذبذبها في الانضمام كليّة إليها في بادئ الأمر, ومن ثمَّ انسحب على أدائها السياسيّ طوال مسار الثورة وافتقارها إلى إستراتيجيّة وطنيّة واضحة لما بعد الثورة.
لقد عانت الأحزاب التقليديّة من حالة انفصال عن الواقع, يضاف إليها إشكالاتها الداخليّة المتمثلة في انعدام الآليات لاستيعاب شروط الديمقراطيّة الداخليّة, فضلاً عن غياب العمل المؤسسيّ الذي بـِمُسْتطاعِهِ أنْ يقرأ حركة الواقع والمجتمع؛ لذا لم تستطع أنْ تلحظَ التحوّلات وحجم المعاناة التي وصل إليها الشعب, والتي كانت تهيئُ لاندلاع ثورة, وهو ما يُفسّر حالة الحنق والاستيّاء الذي انتاب الشباب تجاه الأحزاب, بل إنّ المُغالين منهم كان يعتبر أنّ الأحزاب هي الوجه الآخر للنظام!
وهنا تقتضيّ الموضوعية القول: إنّ النظامَ وأجهزته الأمنيّة تمكَّن من اختراق الشباب منذ الأيام الأولى للثورة, وعمل على زرع الشقاق والتنابذ فيما بينهم البين, تحت يافطة التمييز بين شباب مستقل وشباب متحزّب, وبالتالي بينهم وبين الأحزاب السياسيّة. ولقد غذَّى هذا المَنحى في التعاطي بعض التصرفات والسلوكيّات التي مارستها بعض القوى السياسيّة والتي اتّسمت بفرض هيمنتها وخطابها الأحادي على ساحات الثورة, بل والتحكّم بحركة الثورة من خلال حجز المحتجين في ساحات مغلقة لا تتعدى مئات الأمتار, ومحاولتها إثناءهم عن الخروج بمظاهرات في الشوارع للتعبير عن مطالبهم وإيصال صوت الثورة إلى الشعب.
وكذلك قيام تلك القوى بتخفيض سقف الثورة برفع مطالب شكليّة كـ “إسقاط الرئيس” بدلاً من “إسقاط النظام”. ناهيك عن التحاق (علي محسن) والفرقة الأولى مدرع إلى الثورة بُعيد جمعة الكرامة, والذي دفع بالمخاوف من اختطاف الثورة إلى السطح, وهو ما ألقى بظلالِهِ القاتمة على مسار الثورة ووحدة قواها.
(12)
لقد كان لجملة تلك الأخطاء ثأثيراتها السلبيّة على الثورة, فتحوّلت بفعل المبادرة الخليجيّة إلى “أزمة حكم”, والتي بمقتضاها مُنح المخلوع صالح صكّ الحصانة في مقابل قيامه بتسليم السلطة, لكنه لم يسلّمها إلا شكلياًّ. فعلى الرغم من أنّ الحكومة تشكّلت مناصفة بين النظام السابق وقوى الثورة ممثلةً بأحزاب اللقاء المشترك, إلا أنّ الدولة العميقة بأجهزتِها الأمنيّة والعسكريّة والتشريعيّة والقضائيّة والإعلاميّة وغيرها ظلَّت بيد المخلوع صالح؛ ما أَمْكَنه من لعب دور تقوّيضيّ للمرحلة الانتقاليّة.
في المُجمل يمكن القول: إنّ عمليّة التغيير قد افتقدت “إلى القوى الداعمة، بانصراف هذه القوى عن بعضها البعض في وقت مبكر من عملية التحول، بينما اعتمد النظام القديم بقيادة علي عبدالله صالح وعائلته استراتيجية إفشال التغيير استعداداً لثورته المضادة والزج بالبلاد في حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس، وتمكن من تحقيقها بسبب استمرار النظام القديم دونما تغيير حقيقي والأهم والأخطر عدم نقل السلطة فعلياً، إذ واصل ذلك النظام وجوده من خلال مجلس النواب، ومجلس الشورى، والقضاء، والمؤسسات العسكرية والأمنية بعقيدتهما غير الوطنية، والسلطة المحلية، وكافة أجهزة الدولة الأخرى، وما تم نقله من السلطة كان مجرد نقل جزئي شكلي وبسيط، من خلال مشاركة القوى الداعمة للتغيير بنصف الحكومة وتولي نائب الرئيس ثم الرئيس الانتقالي لرئاسة الدولة مع استمرار الرئيس السابق في صدارة العملية السياسية ورئاسة الحزب الحاكم، علاوة على انخراط الحركة الحوثية المسلحة في العمل السياسي دون تخليها عن السلاح والدعم الخارجي بالمال والسلاح.”[14]
لقد دخلت الثورةُ في حالة جمود طويلة, نتيجة عجزها عن مواجهة التعقيدات والمَصدَّات التي اعترضت طريقها. وعلى الرغم من أنَّ مؤتمر الحوار الوطني المُنعقد في الفترة من 18 مارس 2013-25 يناير 2014م, قد نَفَخَ في جسدِها الروح؛ بتضمين وثيقة مخرجات الحوار الوطنيّ مطالب الثورة وتطلعات الشعب في العيش الكريم وبناء الدولة الاتحاديّة الديمقراطيّة؛ غير أنّ استمرار فشل الحكومة والرئاسة في تلبية متطلبات الناس, وإضافة أعباء على كاهلِهم بإقرار “الجرعة السعريّة” قد أدخل قطاعات شعبيّة كبيرة في حالة إحباط, سرعان ما استفادت منه الثورة المضادة ممثلةً بتحالف المخلوع صالح والحوثي. فضلاً عن ذلك فقد سعتْ الثورة المضادة إلى ” تعبئة قطاعات من أبناء المنطقة القبلية الزيدية الشمالية على أساس طائفي وقبلي، مستغلين فشل المعارضة التقليدية التي قُدّمت كممثّل للثورة، والمخاوف التي برزت عند أبناء هذه المناطق الذين وُجهوا بخطاب طائفي واستعلائي في مناطق يسودها الفقر والتهميش ويعتمد أبناؤها على العمل في قطاعات الدولة خصوصاً الجيش والأمن ، حيث أظهر الحوثي وصالح أنّ مطالب المعارضة والجنوبيين بتغيير شكل الدولة واعتماد الفيدرالية، تهدف إلى حرمانهم من مصدر العيش الرئيسي لهم والمتمثل في العمل في سلك الجيش والأمن.”[15]
استفاقتْ قوى الثورة على انقلاب 21 سبتمبر 2014م, واستجابتْ للتحديّ الذي خلقته الحرب الإجرامية التي شنّتها عصابة المخلوع صالح والحوثيّ الرجعيّة, في شكلٍ جديدٍ وهو المقاومة الشعبية المسلحة[*] التي أعادتْ الروح إلى الثورة, وأثبتتْ أنَّ الشعبَ لا يزال يقود زمام المبادرة, وأنّه يستحيل بعد كل هذه التضحيات, وبعد كل هذا الحراك الشعبيّ أنْ تعود اليمن إلى حضيرة المراكز المهيمنة. الشعب لن يسمح بذلك, لقد ظلّ الشعب يخرج منذ سنوات يُعبّر عن مطالبه ولا يزال يفعل ذلك.
خِتاماً, نَخْلُصُ إلى القول: لا تزالُ الثّورةُ قائمةً ومستمرةً حتى اللحظة, ولا يمكن لجذوتِها أنْ تَخبو أو تَهمد, فالثورةُ [لا تموت لأنها ليست من صنع فرد واحد أو مجموعة من الأفراد, بل هي نتاج جهد شعب وعبقرية مجتمع. فالمبادئ والأفكار التي ترفعها الثورة ليست من اختراعها, ولكنها تعبير عن تراكم الخبرة التاريخية للشعب. والشعب يُقبل على هذه الأفكار ويتمسك بها لأنه يجدها ممثلة لحاجاته وتطلعاته, فالأفكار تنتشر بين الناس ـ كما يؤكد علم اجتماع المعرفة ـ ليس لتناسقها المنطقيّ وتماسكها المعرفيّ ولكن لأنّها تلبي حاجات اجتماعيّة ونفسيّة لديهم أو تعبّر عن تطلًّع يشتاقونّ إليه, وهذا هو سرّ ارتباطهم بها.”[16]
____________
الهوامش:
[1] علي أومليل, أفكار مهاجرة, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, ط1/2013م, ص153.
[2] د.سمير عبدالرحمن هائل الشميري, سوسيولوجيا الثورة الشعبية اليمنية, ص71.
[3] د.عزمي بشارة, عنف أجهزة الأمن ودروس 2011, موقع العربي الجديد, مقال.
[4] يُنظر: د. حيدر إبراهيم علي, الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, ط2/2006م, ص175.
[5] د.أبوبكر السقاف, دفاعاً عن الحرية والإنسان, منتدى الجاوي الثقافي, صنعاء, ص54.
[6] المصدر نفسه, ص54.
[7] راجع: نص تقرير معهد تشاتام هاووس, لندن.
[8] يُنظر: جين شارب, المقاومة اللاعنفية, دراسات في النضال بوسائل اللاعنف, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, ط2/2012م, ص186.
[9] غوستاف لوبون,سيكولوجية الجماهير, ت/ هاشم صالح, دار الساقي, بيروت, ط4/2013م.
[10] يُنظر: مراجعة كتاب: الحياة اليومية كسياسة: كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط, مراجعة: أماني مسعود, المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات, ص9.
[11] د.برهان غليون, ثورات الربيع العربي بين تحرر الشعوب وسقوط الدول, موقع العربي الجديد, مقال.
[12] ينظر: جبلير الأشقر, الشعب يريد, بحث جذري في الانتفاضة العربية, ت/ عمر الشافعي, دار الساقي, بيروت, ط1/2013م, ص11.
[13] قادري حيدر, الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن, صنعاء, ط1/2012م, ص144.
[14] د. محمد المخلافي, اليمن بين الثورة والثورة المضادة, الحلقة الأولى, موقع الاشتراكي نت.
[15] معن دماج, اليمن الثورة والحرب الأهلية والإقليمية, من صفحة الكاتب على الفيسبوك.
[*] رغم عثرات المقاومة وأخطائها ـ اليوم ـ التي تتصل ـ أساساًـ بأزمة الثورة وأزمة الحركة الشعبية والقوى السياسية اليمنية, ناهيك عن غياب الوعاء التنظيمي الديمقراطي. وفي هذا حديث يطول سنفرد له تناول مستقل في فرصة قادمة.
[16] علي الدين هلال, هل تموت الثورات؟ المستقبل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية.
انتهى,,,
كُتبت في
11 فبراير 2017