المواطن/ كتابات – فهمي محمد
” إذا اراد الله هلاك حاكماً ألهمه الطيش والجنون ”
هذا ما قالت به اليونان في أحد مأثورتها السياسية ، فالحديث عن الطيش والجنون المنسوب إلى هؤلاء الحكام لا يعني المراهقة او فقدان العقل بالمعنى الحرفي للكلمة ، بقدر ما يعني الحديث عن ماهو غير طبيعي او منطقي من تصرفات كارثية يمارسها عقل سياسي مغامر ومقامر .
في اليمن يكاد التاريخ أن يكون مثخن ومشبع بمشاهد من هذا العقل السياسي المغامر إذ لم يكن هذا العقل هو صانع جل الاحداث التاريخة في اليمن ، او أن التاريخ نفسه لا يعد أن يكون تراجيدية العقل السياسي المغامر والمقامر في هذا البلد الذي يخوض اليوم معركة التحول والإنكسار على حد سواء .
صالح الذي تربع على حكم اليمن ثلاثة عقود ونيف ( أسس خلالها انساق من القيم الثقافية والمسلكيات السياسية المتجذرة في الواقع وبشكل يصعب اجتثاثها حتى بفعل ثوري ) يشكل مع الحركة الحوثية نموذجاً صارخاً للعقل السياسي العابث والمتخذ من افعال المغامرة والمقامرة أدوات لممارسة الفعل السياسي بهدف الوصول الى كرسي السلطة او من اجل التشبث بها بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه المجتمع جراء هذه المغامرات والمقامرات التي يخوضونها، كما هو حالهم في تنفيذ مغامرة الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني والإستمرار في لعبة المقامرة ، مع فداحة الثمن الذي يدفعه اليمن بشكل عام .
في واقع الحال لم يكن قبول صالح او صعوده الى السلطة إلأ شيء من المغامرة السياسية في ظل ضروف تبدو بلاشك إستثنائة كان كرسي الرئاسة فيها ملغوم بحتمية الإغتيالات السياسية ومحاط بأسياج من التأمرات الرخيصة والدنيئة ، التي تؤكد المعلومات أن صالح كان حاضراً فيها وأحد الابطال الموجودين على مسرح تنفيذها .
وإذا كان صالح لم يكن يومها من قيادات الصف الأول فإن مجيئه من وراء الكبار لقيادة السلطة في تلك الضروف مازال محل تساؤلات لم تلقى بعد الإجابات الكافية ، وإن كانت مذكرات الاحمر تقول أن السعودية هي من أختارت صالح للحكم وانه كان معترض عليه وتم إقناعه بقبول صالح من قبل المملكة السعودية .
بيت القصيد أن صالح بدء مشواره في السلطة بمغامرة لا تخلوا من الشجاعة وفيها شيء من المقامرة بحياته في ريعان الشباب وقد ظل يتفاخر بذلك طول فترة رئاسته ، لكنه بعد ذلك حول هذه المغامرة والمقامرة الى سلوك ومنهج سياسي حكم بموجبه اليمن طيلة ثلاثة عقود ،
لم يكن يملك خلال حكمة مشروع للمستقبل الذي يهم اليمنيين جميعاً بقدر ما كان يملك العزيمة والإصرار على الاستمرار في السلطة وفي حكم اليمن، وهو مستعد أن يغامر باليمن من اجل السلطة واكثر من ذلك بدأ العمل على توريث هذه السلطة في أكبر الأبناء على غرار ما فعل الاسد في سوريا وبشكل يؤسس لسوابق سياسية تشرعن لعملية التوريث داخل الانظمة الجمهورية ، وهو في سبيل تحقيق تلك الاهداف يتصرف بعقل سياسي يغامر تارة ويقامر في أخرى ويقف في وجه التحولات في كل الأحوال دون إكتراث في مصير شعب او الجماعات والمكونات التي ترى في السلطة أدات صهر اجتماعي وسياسي تؤسس واقعياً وعملياً لبناء الأوطان والدولة الوطنية .
تبدو مشروعية حديثنا عن العقل السياسي المغامر والمقامر في اليمن من كونه يفشل دائماً في بناء وطن للجميع ناهيك عن بناء الدولة الوطنية ، حتى وإن امتلك ادوات القوة والسيطرة ، فإنه يستخدمها في ضرب المشروعات الوطنية وفي القضاء على فرص التغيير في المجتمع ، ذلك ما فعله صالح في ضرب مشروع الوحدة بعد مغامرته في حرب 94/ ومقامرته بعد الحرب بعدم الإعتراف بضرورة إصلاح مسار الوحدة ، ليوأسس بعد ذلك بعقله السياسي المقامر والمغامر ، ما عرف بالقضية الجنوبية التي يرفع اليوم حاملها السياسي خيار تقرير المصير وإستعادة دولة الجنوب بدلاً من تأسيس دولة الوحدة التي ظلت الحلم الكبير والهدف المقدس لكل اليمنيين ولجل القوى السياسية شمالاً وجنوباً منذو عقود ، وبعد أن تحققت بعد عقود من النضال والتضحيات دمرها هذا العقل المقامر ( حين بداء له أنه لا مفر من تطبيق نصوص وثيقة العهد والاتفاق بعد التوقيع عليها كمخرج للأزمة المستفحلة بين شركاء دولة الوحدة ) بقرار مغامر أعلنه من ميدان السبعين بعد اربع سنوات من إعلان ميلاد دولة الوحدة.
وكما هي طبيعة هذا العقل السياسي اينما وجد بداء غير مكترث بالمألآت الكارثية التي تنتظر اليمن جرى تصرفاته ، أو انه اراد أن يعالج نتائج المغامرة بشيء من المقامرة التي لاتعد أن تكون تعبييراً عن فائض القوة لديه والتي يتم التلويح بها في وجه أي عملية اصلاح ” كما هو حال من تأخذه العزة بالإثم ” لذلك ظل يغامر هنا ويقامر هناك وفي طريقه خلق مشكلة صعدة ، ووصل إلى طريق مسدود مع القوى السياسية فيما يخص العملية السياسية والاصلاح الديمقراطي ، وفي مجمل الأحوال فإن عقل صالح المغامر والمقامر الذي تحول إلى نظام وثقافة هو من انتج واقعاً كارثياً تخلقت فيه شروط الثورة السلمية التي فجرها شباب فبراير 2011/ م .
مايحسب للعملية الثورية في فبراير انها خلقت الفرصة التاريخية للتغيير وأنتجت مشروعاً للتحول التاريخي في اليمن لكنها عجزت عن إنتاج رأس سياسي من داخل الثورة يقودها ويعبر عن ذاتها الثورية ، لذلك استطاع صالح أن يغامر معها ويقامر في ممارسة الثائر منها لاسيما بعد ان اجبرته على التنحي من رأس السلطة في اليمن بموجب المبادرة الخليجية التي ابقت على قوته الممانعة في وجه التغيير ، وبكثير من حماقة هذا العقل السياسي المغامر والمقامر استدعى صالح الحركة الحوثية ( التي لاتقل عنه مغامرة ومقامرة ) للقضاء على الفرصة التاريخية والانقلاب على مشروع التحول في اليمن .
بعقل سياسي مغامر اشتركت الجماعة الحوثية مع صالح في تنفيذ الانقلاب ، بل وتصدرت المشهد في حين كان صالح من تحت الطاولة يغامر بكل الرصيد ويضع سلاح الدولة تحت تصرف الحركة في لعبة المقامرة مع الثورة ، لكن المفارقة أن الحركة الحوثية لم تكن ساذجة كما ارد لها صالح ، غامرت وليس لديها ما تخسره في هذه المغامرة ، استثمرت كثيراً من المعطيات وأستطاعة أن تقضي على صالح في مشهد بداء يومها للكثيرين أن ذلك مغامرة لحد الجنون إذ لم يكن هو الجنون بعينه .
انتهت مغامرة صالح بمقتله على يد من استدعاهم للمغامرة والمقامرة في وجه الحدث الثوري الذي اجبره على التنحي ونزعا عنه اسم الرئيس الذي حاول ان يعوضه باسم الزعيم ، لكنه قبل أن يقتل كان مشهد الانقلاب في اليمن قد تحول الى حرب على إثر التدخل العسكري من قبل التحالف ، وهي الحرب التي دمرت كل مقدرات البلد واعادت اليمن الى الوراء عقود من الزمن ، ومع ذلك مازال العقل السياسي لدى الحركة الحوثية يقامر ويغامر غير آبه بالمألآت الكارثية التي تغرق فيها اليمن يوماً بعد يوم بسبب هذه المغامرة والمقامرة .