المواطن/ كتابات – قادري أحمد حيدر
(1-2)
الإهداء:
إلى الصديق الجميل د/أمين قحطان .. كلما توغلت في معرفته أو الاقتراب منه تدرك كم أن الثقافة في الجوهر سلوك، وأمين ابن قحطان هو كذلك مثقف في وجدانه، وفي حياته العملية، أعتر بأني عرفته، هو حقاً رمزاً لدولة الصداقة دون إدعاء.
مع خالص مودتي ومحبتي وتقديري.
“الآخر” أو مفهوم الآخر في الثقافة العربية، بل وفي العديد من ثقافات العالم -بدرجات متفاوتة- هو المقابل لــِ”الأنا”، وهو أحياناً العدو، أو من يـجب اجتثاثه، أو اجتنابه، وإزاحته وإبعاده. وحسب مفهوم وتعبير الفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر “الآخرون هم الجحيم”، مع أنه لا يقصد المعنى الذي نبحثه، أو نشير إليه. وفي كثير من المواضيع أو الوقائع الاجتماعية، والسياسية والثقافية، نكون في حالة قتال أو اشتباك وعراك مع الآخر، أو نحن في حالة دفاع عن ذاتنا، أو أنانا الخاصة . وحالة الآخر باعتباره عدواً، هذه موجودة في الداخل (الوطني) منا، وفي الخارج (العالمي/العولمي). إن واقع منظور/ رؤية مكافحة الإرهاب العالمي ، تنطوي في داخلها على شيء من أن الآخر هو العدو، في صورة “فوبيا الإسلام”، وقضية “المهاجرين” في أوروبا. والغاية أن يبقى الآخر حاضراً وبقوة، وقابلاً للانقسام والتجزؤ، والتشظي إلى كائنات أو أخرات لا متناهية الصغر، نتيجة ثقافة أيديولوجية تاريخية مهيمنة على بنية ومنطق تفكيرنا .. أيديولوجية وثقافة تكره التعدد والتنوع، وترسم في الوعي أيديولوجية الواحد الأصل ، الواحد الكل يساهم في ذلك واقع غياب أو ضعف الدولة المدنية المؤسسية، وعدم استكمال حالة الاندماج الاجتماعي، وهو ما يساعد في واقع الممارسة العملية على توليد وإنتاج حالة تمزّق وتفكيك في الذات المجتمعية، وانقسامها إلى ذوات ممانعة للوحدة والتوحد، مع الآخر، وغير قابلة للتكامل والتعايش معه، ناهيك عن إمكانية صناعة قيم العيش المشترك داخل المدينة الواحدة والوطن الواحد.
إن إشكالية الآخر (التعددية/والتنوع) والموقف منها، على المستويين الفكري والثقافي وفي المستوى الواقعي العملي ( الممارسة)، هي واحدة من أسباب تخلفنا وتأخرنا، وهو ما يفسر غياب ثقافة القبول بالآخر، ثقافة الاعتراف بالخطأ، بل والحق في الخطأ في واقع الممارسة العملية -لأن الناس بشر وليسوا مطلقات مقدسة معصومة- وأن الآخر ليس عدواً لنا، مخطئ دائماً. وحين نصل إلى الثقة التامة، والاقتناع الكامل بأن الآخر هو أنا، وهو جزء مني، وأنني بدونه لن أكون، حينها نكون قد بدأنا نخطو خطواتنا الأولى في الطريق الصحيح نحو التعددية الثقافية، أو التنوع الثقافي الإبداعي اللامحدود، والمساهمة الفاعلة في صناعة ثقافة وطنية ديمقراطية، تعددية مفتوحة، على درب حضارة عالمية إنسانية واحدة.
إن الحياة ليست مكاناً للعنف والقتال والحرب ، بل مكان وفضاء للعيش، ولصناعة المشترك الإنساني فيما بيننا، ولا يمكن أن ندخل إلى العصر ونواجه تحدياته دون تأصيل وتعميق قيم العيش المشترك ، والشراكة الوطنية والإنسانية فيما بيننا.
وأولى هذه التحديات:
التسامح والتعددية الثقافية باعتبارهما خلاصة وإجمالاً لمعنى الاعتراف بالآخر والقبول به كما هو، وكما يريد هو، لا كما نحن نموسقه وننمطه في عقولنا، دون أي اعتبار للون والثقافة والعرق واللغة والمذهب والدين.
وبدون هذه القيمة الخلقية والإنسانية، لا يمكننا أن نضع أقدامنا على عتبة العصر، ولا الدخول إلى تحدياته وإشكالاته.
إذا أردنا أن نفهم أنفسنا، ذواتنا، علينا في البدء وقبل كل شيء أن نفهم الآخر المتعدد من حولنا وبجوارنا، وأن نحاوره، ولا نكتفي بمجاورته بالعيش معه وبجانبه جغرافياً ، ونقفل عنه ذواتنا وجدانياً وإنسانياً، بل التعايش الإنساني والضميري معه، وأن نتشارك معاً في صناعة ثقافة وقيم العيش المشترك، وليس التعايش المكاني كيفما اتفق. والخطوة الذاتية الثقافية الأولى هنا تبدأ بالضرورة الإنسانية التاريخية لمغادرة خطاب الثنائية القاتلة -الهويات القاتلة- الماثلة في صور ثنائيات: دار الحرب، ودار الإسلام، دار الإلحاد، (دار الكفر)، ودار الإيمان، الشرق والغرب، المسيحية، والإسلام. وعوضاً عن خطاب كل الهويات القاتلة المدمرة للثقافة والمجتمع معاً، ينبغي الانتقال إلى فضاء الحوار والتسامح والتصالح مع أنفسنا ومع الآخر، وأن نكسر حدة ظهور هذه الثنائيات في الوعي والثقافة والسلوك، وأن نحيل التعارضات الضدية العقائدية الدينية والمذهبية إلى الله، لأنها في الحقيقة والواقع ليست هي سبب الخلاف، بل المشجب الذي نتوسله لنداري، ونخفي الأسباب الحقيقية للخلاف والصراع. فالسبب الحقيقي كامن في الأرض، وليس في السماء، في صراع المصالح وتناقضها، وليس في العقيدة والمذهب والدين أو السلالة. لقد أكدت وقائع الحياة الإنسانية في صيرورة تشكل القيم العليا المشتركة التي يصنعها البشر أنه بدون الآخر وبدون التسامح، والتعدد والتنوع، بدون معرفة الآخر في كليته وشموله حيثما كان ووجد، وبدون الحوار والتفاعل معه ، قطعاً، دون الذوبان فيه، فإننا لن نعرف أنفسنا ولا الآخر، ولن نكون في مستوى الاستجابة لتحديات العصر والتاريخ .. ولا يمكننا كعرب أو يمنيين اليوم، أن نعيش معزولين متقوقعين في حدود ذواتنا الثقافية الجغرافية، في زمن الفضاءات المفتوحة ، حيث ثورة المعلومات والاتصالات تتجه لتقليص الفواصل بين المكان والزمان، كما ليس بإمكاننا الإقامة في الماضي في انتظار فردوسنا المفقود (الخلافة) الذي لن يأتي ولم يتبق أمامنا سوى التفاعل الخلاق والابداعي مع تحديات العصر والعمل على إعادة إنتاجنا لأنفسنا ولواقعنا ولتاريخنا، على قاعدة المشاركة الإبداعية في صناعة الحضارة العالمية الإنسانية، على طريق الاعتراف بالأخر والقبول بالتعدد والتنوع – الإقرار بالاختلاف والحق في الخطأ- وفي ذلك مصدر عظيم للتنوع الثقافي والتعددية الإنسانية الإبداعية المنشودة.
إن قضية الحقوق السياسية، والمدنية (الفردية، والجماعية) هي الأساس والأصل، وهي الجذر المفسر لكثير من مظاهر العنف، والحروب القائمة في منطقتنا العربية، ولذلك نقول “إن احترام الحقوق الجماعية ممكن، بل وضروري طالما أرسيت أواصر المواطنة (تحتها) كأساس لها وليس (فوقها) كمشتقة منها. لأنه إذا لم تُرسَ الحقوق الجماعية على المواطنة فقد تتحول الجماعات ذات الحقوق السياسية، والمتوازنة، في نظام توافقي، إلى قمع للمواطن الفرد، وإلى إلغاء المواطنة عملياً، والمواطنة هي الوجه الآخر للسيادة، الوجه الآخر للدولة الوطنية، وأفضل تعبير عن سيادة الشعب هو الديمقراطية، والوجه الآخر هو المواطنة المتساوية”(1)
إن قضية عدم القبول بالآخر هي ميراث وتدريب وتعليم، هي ثقافة وتربية، هي سلوك، هي تاريخ مديد من ثقافة الإقصاء المتبادل، علينا نفيها وتجاوزها، ثقافة وممارسة عملية ووجوداً، وعلى الجميع مغادرة كهف الماضي ورفض الإقامة فيه. المهم هنا إدراك أن التعددية الثقافية ليست حالة ثقافية مجردة أو عملية ثقافية صرفة، بل لها أبداً جذرها المعرفي السياسي والحقوقي والديمقراطي، الذي قد يتجلى سلباً أو إيجاباً في صورة علاقة الأنا بالآخر، أياً كان هذا الآخر في الداخل الاستبدادي أو في الخارج العولمي الاستعماري الجديد.
الآخر هو أنا، وإذا لم أعرف الآخر فلن أعرف ذاتي ولن أتمكن من تحديد خياري ولا تحديد مستقبل آمن لتطوري وتقدمي، كذات ومجتمع، “فمن يلصق وجهه بالمرآة لا يعود يرى شيئاً (2) من حوله –حسب تعبير علي أحمد سعيد (ادونيس)- حتى أنه لا يعود بإمكانه رؤية ذاته أو وجهه في المرآة. فالأنا والآخر، وجهان لعملية ذاتية معرفية، ثقافية اجتماعية إبداعية تعددية واحدة، وحقيقة لا وجود لأحدهما دون الآخر المتعدد. هذا إذا أردنا أن نتكلم عن علاقة سوية ومجتمع سليم معافى.
إن عدم إقرارنا بحق الآخر الثقافي والديني والاجتماعي، والأهم حقه السياسي والحقوقي، هو الذي يحجز ويمنع إمكانية تبلور ثقافة التسامح والتصالح والتعدد والاختلاف في ثقافتنا السياسية وفي وعينا الاجتماعي الثقافي.
إن ثقافة التسامح هي التي تفتح الباب واسعاً أمام معرفة الآخر في جميع مستوياته حتى تكتمل صورة معرفتنا بأن لنا ذواتنا الخاصة، الفردية والجماعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن سؤال الآخر في العمق والجوهر هو سؤال فلسفي معرفي ثقافي حضاري ، ومن جذر هذا السؤال تتعدد سبل وطرائق معرفتنا بالآخر عبر أسئلة متفرعة عديدة: الآخر، السياسي، الثقافي، الديني، العرقي اللغوي …إلخ. وغالباً ما نجد أنفسنا أمام سؤالين حديين هما: السؤال السياسي، والسؤال الديني، لما بينهما من ارتباط عميق بقضية السلطة والحكم، وكيف يوظَّف الديني المقدس ، كورقة لخدمة السياسي السلطوي، حيث يقف السياسي السلطوي معوقاً وكابحاً لإمكانية بلورة صورة حقيقية وواقعية للآخر: الثقافي، والديني، والاجتماعي، والإثني.
وفي الحياة العالمية المعاصرة -القرن الماضي- وجدت البشرية نفسها أمام ثلاثة تيارات “أو ثلاث تجارب كبرى للمصالحة مع الماضي: ألمانيا النازية، جنوب أفريقيا العنصرية، وتشيلي العسكرية. في الأولى، حُوِّل كل مرتكبي الجرائم إلى القضاء، والثانية، جرت عملية اعتراف واعتذار من كل “المرتكبين قتلاً وتعذيباً”، وفي الثالثة، أغلقت ملفات المساَءلة مقابل الانتقال للديمقراطية” (3)
وبوسعنا كيمنيين البدء من اللحظة الثالثة أو التجربة الثالثة، ولكن دون إغفال الاستفادة العملية النوعية من التجربتين السابقتين، أي دون القفز على قضية العدالة الانتقالية باسم شعار “المصالحة الوطنية” الذي يهدف من خلاله البعض إلى إلغاء ومحو صورة وحقيقة الضحايا ، وترميم الذاكرة الوطنية والاجتماعية وجبر الضرر واصلاح المؤسسات السياسية والأمنية، والقوانين والتشريعات المؤسسة لقيام دولة مدنية حديثة. وسبق للتجربة السياسية اليمنية الوحدوية أن أعلنت، بعيد قيام وحدة 22 مايو 1990م، الدعوة العلنية إلى إحراق “ملفات الماضي” والبدء من لحظة إعلان ميلاد الوحدة. والقول إنّ “الوحدة تجب ما قبلها”، والذي كان العنوان البارز لإمكانية وصولنا إلى مرحلة ثقافية قاعدية، تؤسس لحالة إنسانية ، تسامحيه تصالحية جديدة، لولا نقض الوحدة السلمية التعددية الديمقراطية، بالوحدة بالحرب ، الحرب التي كان عمودها الأيديولوجي التكفير بالحرب، وتحويل المسجد إلى معسكر، والمعسكرات إلى مساجد تدعو للحرب.
تلك كانت نقلة غيرت كل شيء وقلبت موازين المعادلة السياسية، والثقافية الوطنية الوحدوية رأساً على عقب، وأوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من عداء وثقافة كراهية وعنف، وصولاً إلى حالة ووقائع الحروب الصغيرة والكبيرة التي قد يهدد استمرارها ودون حل، ودون تسويات وطنية تاريخية كبرى، إلى تفكيك وتدمير الكيان الوطني اليمني كله .
الهوامش
1) د. عزمي بشارة : “في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي” ، مركز دراسات الوحدة العربية ط أولى أغسطس 2007م، ص162.
(2) أدونيس (علي أحمد سعيد): الهويات غير المكتملة مكان الاصدار وتاريخه، صـ47.
(3) د . فالح عبد الجبار: صحيفة الحياة اللندنية، تاريخ 17/5/2009م ، العدد (16844)،ص27.