المواطن/ كتابات – عيبان محمد السامعي
المحور الثالث: استخلاصات واستنتاجات عامة:
على مدى الحلقات التسع السابقة التي تناولنا فيها وباستفاضة إشكالية السيادة الوطنية والتباساتها الراهنية وأدوار الفاعلين الاقليميين والدوليين في اليمن, يمكن أن نستخلص الآتي:
باتت اليمن اليوم مسلوبة الارادة, وفاقدة السيادة على قرارها وعلى أرضها وعلى مواردها, وتحولت إلى ساحة مفتوحة لصراع الأجندات الاقليمية والدولية.
إن هذا المآل الكارثي لم يكن وليد اللحظة, بل هو محصلة تراكمية منطقية لمسار طويل من سياسات الارتهان للخارج, ونتاج لتضافر عدة عوامل داخلية وخارجية, أبرزها:
العولمة وما خلقته من واقع عالمي جديد, من أبرز ملامحه: تعميق هيمنة البلدان الكبرى والشركات متعدية الحدود على البلدان النامية, وضرب اقتصادياتها حتى تحولت إلى أسواق مستهلِكة للسلع والخدمات المستوردة من الخارج بدون أية قيود أو ضوابط, وفرض سياسات اقتصادية كالخصخصة والسماح المنفلت للاستثمار الاجنبي وتحرير التجارة ورفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات الضرورية وتعويم العملة المحلية, ما أدى إلى آثار اجتماعية واقتصادية بالغة السوء, فقد اتسعت رقعة الفقر, وانهارت الطبقة الوسطى, وتعمّق التفاوت الاجتماعي, ونشأت طبقة أوليغارشية مافياوية مكونة من قيادات بيروقراطية وعسكرية وتجارية وكمبرادورية تقاطعت مصالحها مع مصالح الخارج في ممارسة الفساد والإفساد وتكريس التخلف والإضرار بالاقتصاد الوطني.
سلب هذا الواقع العولمي الجديد من الدول النامية استقلاليتها والقدرة على السيطرة على مواردها وقرارها الوطني, وأصبحت التبعية ((Dependency هي المعادلة الحاكمة في عالم اليوم. غير أن صيغة التبعية في واقع بلد كاليمن أخذت نمطاً أكثر خصوصية, يمكن الاصطلاح عليها بـ”تبعية مركبة “, فاليمن واقعة في مجال النفوذ الامبريالي العالمي, مثلها مثل بلدان العالم النامي, وفي نفس الوقت تخضع لنفوذ دول اقليمية هي نفسها (أي الدول الاقليمية هذه) واقعة ضمن مجال النفوذ الإمبريالي العالمي.
ساهمت العوامل المحلية في تمكين الخارج من لعب أدوار سلبية في البلد, ويأتي في مقدمة ذلك: طبيعة النظام العصبوي الاستبدادي الذي جثم على اليمنيين أربعة عقود, وسياسات الاقصاء والتهميش للمكونات السياسية والاجتماعية, والتنصل عن الوظائف التنموية للدولة, والخضوع لإملاءات مؤسسات التمويل الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين, ونشوء طبقة طفيلية _ كمبرادورية أحكمت سيطرتها على المجال الاقتصادي وفاقمت من حالة التفاوت الاقتصادي والتخلف الاجتماعي.
أضافت الحرب الجارية أعباء جديدة على السيادة الوطنية, وباتت اليمن بشعبها وتاريخها الحضاري الذي يمتد إلى 7000 سنة رهينة بيد أطراف خارجية تتصارع وتتكالب عليها, طمعاً في ثرواتها ومقدراتها وموقعها الاستراتيجي, وهادفةً إلى عرقلة مسار التغيير وإعادة الأمور إلى الوراء.
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك وبالتجربة الملموسة أن المراهنات على الخارج _سواء التحالف العربي أو الأمم المتحدة ومجلس الأمن_ لإنهاء الانقلاب وحل القضية الوطنية هي مراهنات خائبة, فالخارج لا يتدخل إلا وفقاً لمصالحه الخاصة التي هي على الضد من مصالح الشعب اليمني.
ومما تقدم, نصل إلى القول: إن طرح مسألة السيادة الوطنية _وفي هذه المرحلة العصيبة من تاريخ وطننا _ ليست قضية هامشية أو ترفاً فكرياً _كما يتوهم البعض_ بل هي من صميم القضية الوطنية, فلا يمكن وضع حل فعلي للقضية الوطنية العامة بكل أبعادها: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلا من خلال الاعتماد على النفس وتعبئة الطاقات والموارد الذاتية لمواجهة مختلف التحديات الماثلة.
على أن هذا الأمر مشروط بامتلاك مشروع وطني ديمقراطي تنموي واضح لاستعادة السيادة الوطنية, يأخذ في اعتباره الحقائق الآتية:
الحقيقة الأولى: إن المضمون الجوهري للسيادة الوطنية يرتبط ارتباطاً عضوياً بسيادة الشعب على السلطة والثروة, وصون كرامة المواطن.
كما ترتبط بقضية جوهرية وحساسة ألا وهي قضية السيادة على الغذاء. ومن نافلة القول: إن قدرة الدولة على توفير الغذاء لمواطنيها وتأمين حاجياتهم الأساسية يمثل ترمومتراً معيارياً على استقلاليتها.
إن الاستعادة الفعلية للسيادة الوطنية مشروطة بتحقيق تنمية شاملة بمشاركة شعبية واسعة سعياً لبلوغ مجتمع “يأكل مما يزرع, ويلبس مما يصنع”..!
الحقيقة الثانية: ترتكز السيادة الوطنية على مبدأ الاعتماد على النفس, لكن لا يعني هذا الانعزالية أو التقوقع حول الذات, فهذا الأمر صار مستحيلاً في عالم متشابك المصالح, وفضاء مفتوح على أوسُعِهِ, وهو ما يقتضي بناء علاقات مع الخارج على قاعدة الندية والتكافؤ والتعاون الخلاق, والإفادة من المعرفة والتكنولوجيا الجديدة والأجد, وبما تمليها المصلحة الوطنية أولاً وقبل كل شيء.
الحقيقة الثالثة: إن الطبيعة المتوحشة للنظام الامبريالي العالمي السائد يفرض على اليمن وعلى كل بلدان العالم النامي الانخراط في إطار تكتلات وتحالفات على أساس قومي واقليمي ودولي لمواجهة صلف هذا النظام, واستعادة زمام المبادرة الوطنية والقومية باتجاه الخلاص من ربقة هذا النظام الاستغلالي الجائر وتأسيس نظام عالمي جديد يقوم على أساس العدالة والمساواة بين كافة الشعوب والأمم في أصقاع الكوكب.
الحقيقة الرابعة: إن تحقيق كل ما سبق مرهون بوجود سلطة وطنية ديمقراطية جادة ونزيهة, وهنا بيت القصيد…
انتهى,,,
ديسمبر 2018م