فهمي محمد
المواطن: كتابات
أن يعيش الانسان في ظل سلام دائم لا يعني سوى ان مجتمعه قد بلغ سن الرشد من حيث إكتمال بنية نظامه الثقافي والمعرفي والقيمي الذي يتحول الى عقل جمعي يمارس حالة تحكمية تنعكس مظاهرها الايجابية على مستوى السلوك العام والخاص ، بحيث تصبح ثقافة اللاعنف هي القيم المتداولة بين افراد المجتمع او بين مكوناته السياسية والاجتماعية هذا من جهة ، ومن جهة اخرى لايعني في الواقع المادي سوى ان المجتمع قد انتقل في صيرورته من انماط الحياة البشرية القائمة على أنساق القيم الصراعية والتغالبية الى حياة الإنسانية المبنية على قيم التعايش والمشاركة
فالسلام بكونه قيمة مثالية مترسخة في وعي المجتمع وواقع مادي معاش وملموس في سلوك الافراد والجماعات هو نتيجة طبيعية لحالة من الصيرورة والتطور في القيم الثقافية وفي أنسنة الكائن البشري نفسه ، فمن هذا وذاك يتكون العقل السائد ذو البعد الانساني ، او العقل الجمعي النابذ لثقافة العنف والكراهية
فالسلام لكي يتحول الى حالة مستدامة وواقع موضوعي تصب مخرجاته على المستوى القيمي في تعزيز التماسك المجتمعي وكذا ترميم النسيج الاجتماعي وفوق ذلك يشكل في نفس الوقت حالة من القطيعة التاريخية مع اسباب العنف والإحتراب ( لاسيما في المجتمع اليمني الذي يشهد دورات عنف متكرره ويعيش حالة مستدامة من الصراع واللاسلام وحالة استثنائية نادرة من اللاحرب) يجب ان تكون ولادة السلام فيه ولادة طبيعية وإن كانت عسيره وطويلة وليس وفق عمليات قيصرية تعالج النتائج دون الاكتراث بمعالجة الاسباب ،
وهو يكون كذلك أي السلام المستدام عندما تنجح مكونات المجتمع ونخبه السياسية والثقافية والاجتماعية في صناعة نظام ثقافي معرفي على المستوى الافقي ونظام سياسي على المستوى العمودي يؤديان دورهما الطبيعي كروافع حقيقة لحالة السلام المستدام وذلك ما يستدعي الحديث عن دور الفعاليات او المكونات السياسية والاجتماعية في سبيل تعزيز السلام .
عندما تغرق البلدان ” مثل ماهو حال اليمن ” في مستنقع الحروب الاهلية فان البحث عن سبل السلام يصبح واجب أخلاقي ونضالي يقع على عاتق الجميع لاسيما النخب والمكونات السياسية ،
وعطفاً على ذلك فان الحديث عن دور الفعاليات والمكونات في صناعة السلام في بلد مثل اليمن يستلزم من تلك المكونات النضال اليومي دون هوادة وفق ثلاث مسارات متلازمة =( على المستوى الثقافي والمعرفي ، وعلى المستوى السياسي ، وعلى المستوى الخطابي ) وذلك للوصول الى حالة من السلام المستدام في المجتمع .
فعلى المستوى الثقافي والمعرفي يجب ان تناضل جميع المكونات وبشكل جدي على غرس قيم الحرية في كل وسائل النشئ ، فحرية الاردة والاختيار هي سنة الله في خلقه ، فإذا كان جلا شأنه قد كفل حرية الكفر في الارض وهو احق بأن يعبد فيها دون سواه (من شاء فليؤمن ومن شاء فاليكفر ) فإنه من الأولى بمكان ان نؤمن نحن كمخلوقات بحرية الانتماء والوجود الفكري والسياسي والايديولوجي والمعتقداتي ، فالحرية المقصودة هنا هي الحرية بالمعنى الواسع القائم على وجود الأناء والاخر ، كما عرفها المناضل الانساني نلسون مانديلا بقوله ان الحرية ليست مجرد التخلص من الاغلال ولكن الحرية ان تعيش حياة تحترم فيها حرية الاخرين وتعززها .
وعندما تتجذر في المجتمع قيمة الحرية بمفهومها “المانيدلي” سوف تقوده حتماً الى قيمة القبول بالآخر ، والآخر الذي يجب الإيمان به هنا هو الآخر المغاير والمعارض لتوجهاتنا ورؤنا وتطلعاتنا الفكرية والسياسية ، وليس الآخر الذي نريده نحن ان يكون عليه ،
فالآخر لا يعني في معادلة الحياة الانسانية سوى وجود شيئاً مغاير ومقابل للأنا ونداً له وليس نسخه مكررة منه .
وعندما تتجذر في المجتمع قيمة القبول بالآخر سوف تولد فيه قيمة ثالثة هي قيمة التسامح ، فالإيمان بوجود الآخر لايعني في واقع الحال سوى وجود مجتمع قائم على التعدد والتنوع ، ولكي تظل حالة الانسجام قائمة في المجتمع مع وجود هذا التعدد والتنوع فيه فإنه لا مناص من التسامح كقيمة مثلى تكمن في التعاطي مع الآخر بهدف التعايش معه وليس مع الاناء ذاته ،
فالتسامح مع الآخر كقيمة ثقافية معرفية لاتعني في واقع الحال سوى وجود مجتمع قائم على الاختلاف في وجهات النظر وفي القناعات ، لاسيما وأن الآخر كما قلنا سابقاً هو الآخر المغاير والمعارض والذي يؤدي وجوده الى حالة من التدافع في الرؤى والرأي .
ولكي يتم احتواء هذا التدافع المشروع في الرؤى والرأي فانه لا مناص من تجذير وتأصيل قيمة الحوار كقيمة ثقافية معرفية ممارساتية متأصلة في سلوك المجتمع بشكل عام حتى يتحول الاختلاف في الرؤى والرأي الى اتفاق على القواسم المشتركة .
بحسب اعتقادي المتواضع انه في حال أن ناضلت جل المكونات والنخب بشكل عام في سبيل تجذير وتأصيل هذه الرباعية من القيم الثقافية فإن نجاحها في ذلك لا يعني سوى صناعة نظام ثقافي معرفي مدني يشكل في حد ذاته رافعة حقيقة ضامنة لوجود حالة مستدامة من السلام في المجتمع ، او بمعنى اخر يكون المجتمع قد بلغ سن رشده الثقافي والمعرفي بحيث اصبح عقله المكون وعلى الدوام هو عقل جمعي نابذ لثقافة العنف والكراهية .
اما على المستوى السياسي وعلقاته في صناعة السلام ، فإنه من الضرورة بمكان ان تناضل تلك المكونات في سبيل تحقيق ثلاثية الدولة والديمقراطية والتوزيع العادل لمجمل الدخل والثروة .
يقال ” لقد اخترع الناس الدولة لكي لا يطيعوا الناس ” هذه المقولة بقدر ما تعبر عن جوهر الانسان الرافض لتسلط الانسان ، بقدر ما تعطينا انطباع واضح للفرق بين السلطة بالمفهوم التقليدي والتسلطي والدولة كفكرة نبيلة وحديثة في الوجدان السياسي للجماعة ، وهو ما يعني أن صناعة سلام مستدام في أي مجتمع يتطلب سياسياً وجود دولة بالمعنى الذي يتجاز مفهوم السلطة التقليدية المرتبطة أساساً بالنفوذ اوالإمتيازات الشخصية وكذلك المصالح المرتبطة أساساً بالمشروعات الصغيرة أين كان شكلها ونوعها ،
بمعنى آخر تكون الدولة قد تجاوزت مفهوم السلطة عندما تختفي فيها سلطة الفرد او الجماعات لصالح سلطة المؤسسات الدستورية والقانونية والتي يتحول في ظلها الاشخاص مهما تكن مواقعهم القيادية الى مجرد موظفين في سلم الدولة يؤدون واجب وطني ويخضعون مثل غيرهم لسلطة القانون والدستور .
بيت القصيد هنا في دور الفعاليات والمكونات يكمن إبتداءً في ضرورة نضالها من اجل وجود الدولة الضامنة لا من اجل الوصول الى كرسي السلطة قبل وجود الدولة في الواقع ، فالدولة المؤسسية وحدها بما تفرضه من اصول ثابته تترسخ في المخيال السياسي للمجتمع ، تصبح قادرة على حفظ السلام المستدام ، بعكس السلطة التقليدية التي تؤدي بطبيعة الحال كما تبرهن لنا الوقائع التاريخية الى الاحتقان السياسي وتمزق النسيج الاجتماعي ( اليمن نموذجاً )
ولكي تكون الدولة ضامنة لحالة من السلام المستدام يجب ان يكون الوصول الى كرسي الحكم فيها أمر متاح امام كل المكونات وبأدوات مشروعة قانونا ودستورياً، وذلك مايعني ضرورة النضال من اجل الديمقراطية كنظام حكم في الدولة ،
فالديمقراطية وان كانت غير خالية من العيوب فإنها افضل نظام انتجه العقل البشري في سبيل الوصول الى السلطة بالوسائل السلمية بعيد عن أدوات العنف والقوة ، فإذا كانت التجربة التاريخية في المجتمع اليمني والعربي عموماً تقول أن الوصول الى السلطة دائماً ما يتم عن طريق قطع الرؤوس فان العملية الديمقراطية بما تحمله من عملية فذه تجعل من الوصول الى السلطة آلية سياسية سلمية تقوم على عد الرؤوس وليس على قطعها ، وهو ما يعني ان المواطنيين في ظل الديمقراطية لم يعدوا كما كانوا في الماضي مادة للحكم بل اصبحوا هم الحكام وهم مصدر المشروعية للنظام الحاكم في الدولة الديمقراطية ،
ولكي تكون الديمقراطية آلية ناجعة في عملية التداول السلمي للسطة وقادرة في نفس الوقت على احتواء الاحتقان السياسي في المجتمع ، بل وتمنح أي الديمقراطية كل المواطنيين شعوراً بالاقتدار السياسي بكونهم اصبحوا مؤثرين في صناعة القرار ، فإنه لا بد من تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنيين وذلك عن طريق التوزيع العادل لمجمل الدخل والثروة ، فالطريق الى تحقيق حرية الإرادة والاختيار لدى المواطن وإلى ايجاد مجتمع خالي من الصراع ومن الاحقاد الطبقية تبدأ في حقيقة الأمر من حيث يكون رغيف الخبز قد اصبح في متناول الجميع دون استثناء .
اما على مستوى الخطاب القادر على المساهمة في صناعة السلام المستدام فإن ذلك يتحقق في حال أن ارتفعت تلك الفعاليات والمكونات في خطابها وأدبياتها السياسية والثقافية الى مستوى الهوية الوطنية الجامعة بدلاً من خطاب موجه ينبش في ذاكرة الهويات الجزئية ( مذهبية وجهوية وسلالية ) وهو ما يؤدي الى مزيد من الانقسام والتشظي في بنية المجتمع على حساب الهوية الوطنية الجامعة التي يتلاشا الشعور الجمعي بها لصالح الهويات الجزئية التي تتحول الى هويات عامة وحية تتصارع داخل الوطن الواحد وتهدد أمنه واستقراره بل وتقوده في الغالب الى حروب طاحنة وفي احسن الاحوال الى صراعات غير منقطعة النظير تعيق عملية التنمية والتقدم والسبب في ذلك أن الهويات الجزئية مهما تمكن بريقها من الإغوى ومن تجيش عواطف الجماهير إلا أنها تظل دائماً غير قادرة على ملئ فراغ الهوية الوطنية الجامعة لعموم الشعب ، لاسيما بعد أن يتم طرد هذه الاخيرة من الوجدان الجمعي والمخيال السياسي للعديد من النخب والمكونات كما حدث في اليمن المعاصر والموحد في ظل حكم الرئيس صالح وبفعل سياسته الخرقاء .