عيبان محمد السامعي
الحلقة (5)
جناية الدولة البسيطة على اليمن
أثبتت التجربة الملموسة أنّ الحكم المحليّ في ظروف بلدٍ كاليمن لم يكن سوى أكذوبة كبرى.
فقد عجزت “اللامركزية الإدارية” عجزاً بيّناً عن منع تغوُّل السلطة المركزية عليها؛ لأنها تفتقد للآليات المؤسسية والتشريعية الكفيلة بذلك, وفاقد الشيء لا يعطيه!
لقد آلَ الحكم المحلي المنصوص عليه في الدستور السابق إلى تمركُّز شديد للسلطة والثروة بيد الحاكم وعائلته, وقد أدى ذلك إلى نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية بالغة السوء, نبيّنها على النحو الآتي:
على المستوى الاجتماعي:
ولّد احتكار السلطة والثروة احتقاناً اجتماعياً, اتخذ مساراً تصاعدياً مع مرور الوقت, وبدأت رقعة الاحتجاجات الشعبية تتسع كل يوم حتى بلغت ذروتها باندلاع شرارة الحراك الجنوبي السلمي في 7/7/2007م, وتفجُّر الثورة الشعبية عشية 11 فبراير 2011م.
تعاملت السلطة الاحتكارية مع الشعب كمُلحق بها, لا باعتباره كياناً مستقلاً عنها, يمتلك هوية ولديه مطالب وتطلعات.
وقامت بتكريس العلاقات الرعوية في المجتمع, شيخ مقابل رعية, وحاكم مقابل جماهير تابعة.
استحوذ المركز على المشروعات التنموية ــــ على رثاثتها ــــ, وحُرمت المحافظات الأخرى منها, وهو ما ولّد ردة فعل اجتماعية, تمثلت في انتشار الدعوات الجهوية والنزعات المناطقية في طول البلاد وعرضها.
وعليه, بدأ المجتمع اليمني يفقد ــــ بالتدريج ــــ شروط التماسك الاجتماعي والاندماج الوطني, في حين بدأ الانقسام والتشظي يتعزز بصورة أكبر.
انبعثت مشاريع ماضوية كنا نعتقد أن الزمن قد طواها وإلى الأبد, مثل: “مشروع الجنوب العربي” الذي تتبناه بعض فصائل الحراك في الجنوب, و”المشروع الطائفي السلالي” الذي يقوده تحالف الانقلاب في الشمال, والدعوات المناطقية التي تتنامى في الوسط.
على المستوى الاقتصادي:
تراجعت مؤشرات النمو الاقتصادي بشكل مستمر, في مقابل ارتفاع تصاعدي مخيف لنسب الفقر والبطالة, وتضخّم أسعار السلع والخدمات.
باتت الدولة تعاني من العجز الشامل: عجز في الميزانية العامة (Government Budget) وهو عجز يتكرر كل سنة, وعجز في ميزان المدفوعات(Balance of Payments), وعجز عن خلق فرص عمل جديدة للعاطلين.
ارتهنت الدولة وبشكل كليّ لمؤسسات الإقراض الإمبريالية: صندوق النقد والبنك الدوليين (IMF & WB), وبموجب ذلك أُلزمت بتنفيذ ما سُميّ “برنامج الاصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي”(Economic Reform and Structural Adjustement Program). الذي كان له مآلات كارثية على الاقتصاد الوطني, فقد دُمّر القطاع العام بفعل الخصخصة (privatization), وانتُهجت سياسات التجويع والإفقار (أو سياسة الجرعة كما هي متداولة شعبياً) وذلك برفع الدعم الحكومي عن السلع الغذائية والمشتقات النفطية وتعويم قيمة العملة الوطنية, وقد أفضى كل ذلك إلى تآكل الطبقة الوسطى وتزايد أعداد الفقراء.
فضلاً عن ذلك, انجرفت اليمن في سياسة “الإقراض والمديونية” و”الاستثمار الأجنبي غير المنضبط”, وبالتالي أصبح الاقتصاد الوطني تحت رحمة المتروبولات العالمية, وفقدت اليمن استقلالية قرارها الوطني, وأصبحت دولة تابعة كلياً, فالتبعية الاقتصادية مقدمة للتبعية السياسية.
استفحال الفساد بصورة مهولة, وصار مُمأسساً ومقنناً, في ظل تحكّم سلطة غنائمية, وتزاوج بين ممارسة المسؤولية الحكومية وممارسة النشاط التجاري والاستثماري. وتشكّلت شبكة مصالح انتفاعية, شملت: مسؤولين حكوميين, وقادة عسكريين, ومشائخ قبائل, ورجال دين, ورجال أعمال, وسياسيين موالين, سعوا إلى مراكمة الثروة والذهاب بها إلى خارج البلاد لبناء مشاريع استثمارية وشركات عقارية خاصة.
ساهم هذا الوضع في تعميق الفوارق الطبقية في المجتمع اليمني, فصارت أقلية بسيطة تعيش في ثراء فاحش, وأغلبية كاسحة تعاني من فقر وعوز.
على المستوى السياسي:
شهدت اليمن طوال الـ25 عاماً الماضية أزمات وحروب متناسلة ومتسلسلة, فكانت تخرج من أزمةٍ إلى أزمة, ومن حربٍ إلى حرب.
لم تكن هذه الحالة محض صدفة, بل سياسة ممنهجة لجأت إليها الطبقة المسيطرة للتنصّل عن القيام بالتزاماتها الدستورية والتنموية تجاه المجتمع.
عانت الحياة السياسية في اليمن من حالة تجريف وتضييق للمجال العام, وجرى تدجين المجتمع المدني, وتقييد الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان, وقوبلَ حراك الشارع بقمعٍ مفرط, وتعمقت سيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة المدنية, وانتشر العسس والمخبرين في كلّ شارع وزقاق لإحصاء أنفاس الناس.
اُختزلت السلطة في شخص الحاكم وعائلته, وأُفرغت الديمقراطية من مضمونها الحقيقي, وأُلغيَ مبدأ التداول السلمي للسلطة “بتصفير العداد” مراتٍ عديدة, وانتهاءً بقلعه تماماً. وأُضفيَ على شخص الحاكم طابع القداسة فهو الرجل الضرورة الذي يرتبط مصير اليمن به.
وأبعد من ذلك, بَدتْ اليمن تتجه إلى أن تصبح دولة جملوكية وراثية, بقيام أجهزة السلطة الترويج لمشروع التوريث.
كل هذا وغيره, وضع اليمن في فوهة بركان, فكان أن انفجر البركان ولا تزال حممه تتطاير في كل اتجاه..!
يتبع…
|