فهمي محمد
عمر وسلطة هذا الحي من قريش
بعد موت الرسول عقد الأنصار في سقيفة بني ساعده أول اجتماع سياسي في تاريخ المسلمين يتعلق بالسلطة السياسية وفيه بايعوا سعد بن عباد خليفة اعتماداً على ما نستطيع أن نسميه اليوم، منطق جيوسياسي بلغة العصر الحديث.
فلسان حال الأنصار كان يقول في هذا الاجتماع السياسي نحن أصحاب الأرض ونحن كمكون إنساني من ناصر الرسول بعد أن حورب في مكة وتعرض للأذية من قبل أسيادها ونحن من احتضن المهاجرين وقدم لهم العون، بل نحن من تحول الرعيل الأول من المسلمين على إثر تضحياتنا الكبيرة إلى مكون اجتماعي عقائدي امتلك السيادة السياسية والقوة العسكرية على الأرض التي أصبحت تمثل جغرافية سياسية للمسلمين لا سيما بعد أن تعرض الرسول الكريم للخذلان في مكة من قبل قريش القبيلة.
على هذا الأساس خلص لسان حال الأنصار بشكل أو بآخر إلى نتيجة تقول إذا كنا قد أطعنا وسلمنا أمرنا لمحمد بن عبد الله بكونه رسول الله الواجب طاعته فإن موته يجعلنا نحن الأولى في مسألة تولي مقاليد السلطة السياسية، بناء على منطق جيوسياسي اجتماعي وليس ديني.
في اعتقادي كان منطق الأنصار في سقيفة بني ساعدة منطقا سياسيا متقدما نظرياً بمقياس ذلك الزمن، لأنه كان مؤهلا للقفز بفكرة السياسة والسلطة وحتى الشورى إلى ما فوق عصبية القبيلة وحتى فوق الجملة الدينية التي تحولت بعد ذلك إلى مثلوجيا الإمامة الشيعية وإيديولوجية الحاكمية السنية.
خصوصاً وأن مثلوجيا الإمامة وإيديولوجيا الحاكمية بمنطقهما الديني وليس الدنيوي قد وقفت على الدوام في طريق السياسة كاقتدار مجتمعي وحتى في وجه تشكيل نظام ثقافي معرفي مدني كأن يجب أن يوجد ويتطور على المستوى الأفقي ={عقل جمعي} ناهيك عن ضرورة فتح المجال أمام تعاطي هذا الواقع بين قوسين عمودياً بفعل سياسي تجاه مسألة السلطة وفكرة السياسة في ظل الخلافة الإسلامية وخلال التجربة التاريخية للمُلكٍ العضوض، لكن ذلك لم يحدث والسؤال لماذا لم يحدث رغم إمكانية حدوثه؟
ما يجب أن نشير إليه هنا هو أن البحث في إشكالية تعطيل ومصادرة السياسة والشورى وحتى سلطة الخلافة الإسلامية التي فشلت في مسألة التحول السياسي إلى دولة عادلة وضامنة، لا سيما مع تحول الخلافة إلى ملك عضوض جسد سلطة القبيلة السياسية على حساب الخلافة الإسلامية في أقل من ثلاثين عاما على موت الرسول الكريم فقط.
هو بطبيعة الحال بحث في جذور العطل السياسي العميق في تاريخ التجربة السياسية العربية للمسلمين، إلا أن الأهم في هذا البحث هو تحديد واستيعاب نقطة البداية المتعلقة بجذر العطل السياسي العميق وهي في نظر هذه الدراسة بدأت من داخل الاجتماع السياسي الأول في سقيفة بني ساعدة، وفي نفس الوقت تأسست على النتائج السياسية والاجتماعية المعمول بها كمخرجات لهذا الاجتماع وليس كما قد يتصور البعض بأن جذور العطل العميق، بدأت مع الانقلاب الرسمي المعلن على سلطة الخلافة الإسلامية وتحويلها فعلياً إلى ملك عضوض على يد معاوية بن أبي سفيان.
فانقلاب معاوية كان تحصيل حاصل ونتيجة طبيعية لمسار سياسي أغلقت فيه الأبواب أمام الشورى كقيمة سياسية واقتدار سياسي مجتمعي بناء على مخرجات الاجتماع السياسي الأول، كما أن الخلافة الإسلامية قبل انقلاب معاوية لم تكن بحد ذاتها مؤسسة سياسية حاكمة فوق شخص الحاكم الفرد، ولم تمثل في نفس الوقت سلطة الأمة أو سلطة المجتمع السياسي الجديد الذي تشكل وسط الجزيرة العربية مع ظهور الإسلام.
في أحسن أحوالها كانت السلطة السياسية للخلافة الإسلامية قبل انقلاب معاوية عليها مرتبطة بوجود شخص الحاكم ={الخليفة} الذي ينتصر لسلطتها من عدمه، الأمر الذي يعني أن الخلل السياسي ={جذور العطل العميق} المتعلقة بعدم حضور الخلافة الإسلامية كمؤسسة سياسية حاكمة بفكرتها كان موجودا قبل انقلاب معاوية، بل إن الانقلاب كان نتيجة طبيعية لهذا الخلل كما سوف نوضح ذلك تفصيلاً في هذه الدراسة.
فبداية الإشكال السياسي وعلى وجه التحديد بدأ مع مقولة عمر بن الخطاب التي احتج بها على الأنصار بقوله إن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا في هذا الحي من قريش، ناهيك عن انسحاب منطق (الجيوسياسية) للأنصار وتسليمه لمقولة عمر بن الخطاب في هذا الاجتماع السياسي الأول، بل والبناء على هكذا مقولة وتحويلها مفاهيميا في ظل سياقات تاريخية إلى محددات دينيه سياسية اجتماعية تتعلق بسلطة الخلافة الإسلامية.
ومع أن العمل بمقولة عمر بن الخطاب وتحويلها إلى محدد سياسي نجده يتعارض من جهة أولى من زاويتين اثنتين مع مفهوم السياسة والشورى كاقتدار مجتمعي كان يجب أن يكون حاضرا في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة، لكي يظل المجتمع قادرا على حماية سلطة الخلافة الراشدة من الانقلاب عليها، فإن العمل بمقولة عمر من جهة ثانية قد جعل رشد الخلافة الإسلامية مجرد وازع ضمير في شخص الخليفة القادر على تحمل مسؤولية الخلافة إن وجد، ولم تجعل مسألة الرشد في نظام سياسي قائم أو في سلطة سياسية تعبر عن فكرة الخلافة القادرة على تحمل مسؤولية المجتمع والتعبير دائما عن وجوده السياسي.
والسبب في ذلك أن مقولة عمر بن الخطاب في الاجتماع السياسي الأول والاحتجاج بها في وجه الأنصار عبرت عن الوجود السياسي للقرشيين فقط، ولم تعبر عن الوجود السياسي للمجتمع الجديد الذي تشكل وسط الجزيرة العربية مع ظهور الإسلام ولا حتى عن حق المجتمع في مسألة السلطة السياسية.
كما أن العمل بمقولة عمر بن الخطاب={إن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش} وتحويل هكذا مقوله «اعطباتية» عمليا إلى محدد سياسي، قد أدى إلى منح قريش القبيلة مقاليد السلطة السياسية على حساب الخلافة الإسلامية أكثر من عشرة قرون حتى سقوط دولة العباسيين، في حين أن الخلافة الراشدة لم تمنح مقاليد السلطة السياسية أو تحكم المسلمين بذاتها سوى أقل من أربع عشرة سنة فقط .
الأمر الذي يعني أن التنافس المحصور على سلطة الخلافة داخل قريش وحدها على إثر نتائج الإجتماع السياسي الأول الذي سلم السلطة السياسية بمنطق الاحتجاج العُمري لهذا الحي من قريش، ومن ثم البحث بعد ذلك عن مصوغات تتعلق باستحقاقها بين القرشيين انفسهم وتجاه بعضهم البعض قد استدعاء العمل بالمفهوم السياسي لولاية آل البيت في حين أن الحرب العسكرية بينهما في معركة صفين على السلطة قد أدت إلى رفع شعار الحاكمية لله، وتحكيم كتاب الله وهو شعار كان المقصود به الاحتيال على السلطة ومصادرة السياسة والشورى في نفس الوقت.
فإذا كان الله تعالى هو من أخرج السلطة السياسية من نطاق سلطان القرآن الكريم وجعلها بنص القرآن مسألة سياسية دنيوية خاضعة لسلطان الإرادة الشعبية ={وأمرهم شورى بينهم} فإن ذلك يعني أن الدعوة لولاية آل البيت أو لحاكمية الله تعالي أو حتى لرفع كتاب الله فيما يتعلق بالسلطة السياسية، لا يعني فقط الاحتيال على المجتمع والشعب فيما يتعلق بحقهم الدنيوي واقتدارهم السياسي في تقرير مسألة السلطة السياسية، بل يعني أيضا وضع السلطة والسياسة في مكانهما الغير طبيعي اي في المكان الذي لا يمكن أن تتحول فيه السلطة إلى دولة والسياسية إلى اقتدار .
فالسلطة السياسية ككيان سياسي وطني لن نجدها طالما ونحن نفتش عنها في سردية الولاية أو الحاكمية ولا حتى في نصوص القرآن الكريم أو الاحتجاج به تجاه السلطة السياسية، بل سنجدها في فكرة السياسة كاقتدار سياسي مجتمعي وفي تطلعات الشعب السياسي نحول المستقبل ولكن بعد أن ندرك تماماً بأن السلطة السياسية هي للناس في الأرض منفصل عن إرادة السماء.